نشر قبل 20 سنة
مجموع الأصوات: 88
القراءات: 33876

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

ما هي الرؤية الإسلامية لوجود الله في كل مكان ؟

لا بد و أن نعرف أولاً بأن وجود الله عَزَّ و جَلَّ وجود غير محدود بحدود المكان و الزمان ، إذ أن وجوده غير متناهٍ و غير محدود ، و هو الغني بالذات عن كل شيء ، و غيره محتاج إليه .
و إلى هذه الحقيقة يُشير ربنا العزيز حيث يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 1 .
و قد أكد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) على نفي إفتقار الله عَزَّ و جَلَّ إلى الحيِّز و المكان عندما سأله سائل : أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات و الأرض ؟
فقال علي ( عليه السَّلام ) : " أين سؤال عن مكان ، و كان الله و لا مكان " 2 .
و قال ( عليه السَّلام ) أيضاً : " وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ ، وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ ، وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ ، وَ مَنْ قَالَ عَلَا مَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ ، كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ ، مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ ، مَعَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ ، وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ ... " 3 .
ذلك لأنه سبحانه و تعالى ليس بجسمٍ حتى يُحدَّ بحدود المكان ، كما أنه ليس بحادثٍ حتى يُحدَّ بحدود الزمان ، و لأن الحوادث و الأجسام المحدودة زماناً و مكاناً تكون مزيجةً بالعدم ، لأنها تكون في زمان دون زمان ، و في مكان دون مكان ، و تصور العدم بالنسبة إلى الذات الإلهية المقدسة مما لا يجوز ، لأنه عَزَّ و جَلَّ هو الحق الثابت الذي لا زوال له .
يقول الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ 4 .
ثم ان الله سبحانه و تعالى لا يشغل حيزاً أو مكاناً فهو اللامحدود من حيث الزمان و المكان ، و لا يجوز أن يُوصف بالكيف و الكم ، و من البديهي أن وجوده سبحانه و تعالى أعلى و أجلّ من أن يوصف أو يُحدَّ بهذه الحدود ، و من قال بغير هذا لم يوحد الله عَزَّ و جَلَّ .
ذلك لأن الله سبحانه و تعالى ليس بجسم ، و ليس في جهة و لا محل ، و ليس حالاً في شيء ، و ليس متحداً مع غيره .
هذا و أن المتدبر في آيات القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه و تعالى منزَّه عن كل نقصٍ و شَين ، و أنه ليس بجسم و لا تَحُدُّ ذاته المقدسة أية حدود زمانية و مكانية ، رغم سعة وجوده و كونه معنا في كل مكان نكون فيه .
يقول الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 5 .
و ما هذا شأنه لا يكون جسماً و لا حالاً في محل أو موجوداً في جهة ، إذ لا شكَّ في أن الجسمين لا يجتمعان في مكان واحد وجهة واحدة ، فالحكم بأنه سبحانه معنا في أي مكان كنا فيه لا يصح إلا إذا كان موجوداً غير مادي و لا جسماني ، لأن كل جسم إذا حواه مكان خلا منه مكان آخر ، و الله عَزَّ و جَلَّ ليس كذلك .

المُجسِّمة و عقيدتهم الباطلة

و المُجَسِّمةُ يؤولون الآيةَ المذكورة و يقولون بأن المراد من " و هو معكم " إحاطة علمه ، لا سعة وجوده ، و هذا التأويل باطل ، و الدليل على ذلك أنه عَزَّ و جَلَّ صرَّح بإحاطة علمه بكل شيء في بداية الآية ، فلا وجه لتكرار هذا المعنى بلفظ مبهم مرة أخرى في الآية نفسها .
فلا مناص إذن من حمل الآية على كون المراد هو سعة وجوده و إحاطته بكل شيء ، لا إحاطة حُلُولِيَّة حتى يَحِلَّ في الأجسام و الإنسان ، بل إحاطة قَيُّومِيَّة عبَّر عنها القرآن الكريم في آيات أخرى بقوله : ﴿ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ 6 .
و بقوله : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 7 .
و بقوله : ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا 8 .
و الآيات صريحة في سعة وجوده ، و أنه موجود في كل مكان و مع كل إنسان ، لكن لا بمعنى الحلول ، بل المقصود هو الإحاطة القيومية و قيام المعلول بالعلة .
و لقد بيَّن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) حقيقة الأمر حيث قال : " مَعَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ ، وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ " 3 .
و حيث قال : " قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ وَ خَبَرَ الضَّمَائِرَ لَهُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ الْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ الْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ " 9 .
و من الواضح أن الإنسان لا يصل إلى كُنه هذه الإحاطة و هذه القيومية ، فالآية تفيد المَعِيَّة العِلمية و المَعِيَّة الوجودية ، أي أنه كلما فُرِضَ قوم يتناجون فالله عَزَّ و جَلَّ هناك موجود سميع عليم .
قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ ، وَ لَا تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ ، وَ لَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ ، وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ " 10 .