من أولى الضروريّات لمجتمعنا الإسلاميّ في إطار فهم كتاب الله العزيز هو دراسة السنن التي تحكم التاريخ والتطوّر الاجتماعيّ؛ ليتسنّى لمجتمعنا الإسلاميّ أن يخطو خطواته نحو الأمام ببصيرة ووعي، وأن لا يكرّر أخطاء الماضين، وأن يسعى لبناء مستقبل زاهر سعيد، كما وعد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى به المؤمنين والمتّقين، فقال: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... ﴾1.
وفي زمن الانتظار الأخير، انتظار الوعد الأخير الّذي أشار إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بقوله:﴿ ... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... ﴾1، هناك حاجة ماسّة إلى طاقة معنويّة هائلة، لا تجفّ، ولا تنفد، وتثور في ضمير الأمّة، وتحشّد طاقاتها؛ لكي تؤهّلها لدورها المطلوب الأخير.
لم تكن ثورة الإمام الحسين (ع) الكبرى ثورة استشهاديّة بحتة لم يقصد منها إلّا الاستشهاد، وإنّما كانت هذه الثورة الاستشهاديّة العظيمة طريقاً ووسيلة لتحقيق الأهداف الكبرى الّتي كان يرمي إليها الأنبياء في جهادهم وجهودهم على مدى التاريخ، لا سيّما خاتمهم وسيّدهم أشرف الأنبياء محمّد (ص).
هذه السنّة تقترن بسنّة الاستخلاف من جهة، و سنّة الاستبدال من جهة أخرى؛ فالأمّة الّتي يختارها الله للاستخلاف، ويمكّنها في الأرض، عندما تطيع القيادة الإلهيّة، وتنصرها، يمنّ الله عليها بالعزّة والغلبة. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:
تعني سنّة الاستدراج أنّ الأمّة الناكثة لعهدها مع الله ورسوله، حين يُملى لها- وقبل الأخذ- تُستدرج في مراحل الغواية والسقوط، فتنحطّ من مرحلة إلى مرحلة أسفل منها، ومنها إلى غيرها، ممّا هو أشدّ منها انحطاطاً وسقوطاً إلى أن تبلغ مرحلة الحضيض الّتي تبلغ فيها غاية الطغيان، فتتجاوز فيها كلّ الحدود، وتنتهك فيها كلّ حرمة، وتسحق فيها كلّ حقّ.
وتعني سنّة الإملاء والإمهال أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يملي للأمّة الّتي نقضت عهدها معه، وفشلت في الاختبار التأهيليّ، فيمكّنها من مواهب الأرض، ويمتّعها بما يمكن لها أن تتمتّع به من خيرات الأرض، ويفسح لها المجال لكي يعلو على السطح كلّ ما تنطوي عليه من سريرة الشرّ، ولكي تظهر كلّ ما يكمن في داخلها من نوايا الرذيلة والإجرام، حتّى إذا تبيّن ما انطوت عليه من هويّة الإجرام والشرّ، جاءها العذاب الإلهيّ، فنفّذت في حقّها سنّة الله الأخرى؛ وهي سنّة الأخذ.
وتعني سنّة التبديل والتغيير أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى حين يمنّ على أمّة مّا بالتمكين والقوّة، فينعم عليها بنعمه العامّة، ثمّ يتمّها بنعمته التّامّة الّتي هي نعمة القيادة الإلهيّة الّتي بها تنال الأمّة عزّة الدنيا والآخرة، وسعادتهما، والفوز والفلاح فيهما، يتحتّم على هذه الأمّة- وفقاً للواجب العقليّ، وما يحكم به الضمير الإنسانيّ- أن تشكر الله على نعمه هذه، وبخاصّة نعمته التامّة الكبرى الّتي هي نعمة القيادة الإلهيّة، وشكر كلّ نعمة إنّما هو: أوّلًا: بالإفادة منها، وعدم تعطيلها وإهمالها.
وتعني سنّة التداول أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يُديل من الأمّة الّتي فشلت في الأختيار التأهيليّ للاستخلاف الإلهيّ العامّ، فتنتقل السلطة والمُكنة إلى أمّة غيرها، وهي أيضاً تمرّ بسنّة الابتلاء والاختبار، ثمّ إن فشلت هي الأخرى حلّت محلّها أمّة أخرى، أُديل لها من الأمّة السالفة، وهكذا، يستمرّ التداول إلى أن يصل الدور إلى الأمّة الّتي تختار الإيمان والصبر عليه، فيختارها الله للاستخلاف في الأرض
سنّة الاستبدال هي السنّة الإلهيّة الّتي يتمّ بموجبها استبدال الأمّة المستخلفة بالاستخلاف الأوّل- بعد فشلها في مرحلة الابتلاء والاختبار التأهيليّ للخلافة الكبرى- بأمّة أخرى ثابتة في إيمانها، صلبة في إرادتها، قويّة في عزيمتها، لا تهون أمام أعداء الله مهما كثرت عِدّتهم، ولا تضعف في عرصات المواجهة معهم مهما اشتدّت وقويت عُدّتهم، وقد وصفها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى مخبراً عنها قائلًا: ﴿ ... فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ... ﴾1.
لقد أشرنا في ما سبق إلى أنّ سنّة الحقّ الكونيّة الشاملة للمجتمع الإنسانيّ- مقرونة بما شاءه الله للإنسان الّذي اختاره خليفة له على الأرض من أن يكون مختاراً، مريداً تقرير مصيره بنفسه، ويختار سبيل حياته بإرادته- اقتضت أن يكون التطوّر التاريخيّ في المجتمع الإنسانيّ تطوّراً موجّهاً، ينتهي إلى النقطة الّتي يختار الإنسان فيها بملئ إرادته مجتمع العدل المنقاد للقيادة الإلهيّة العادلة، وبذلك تتحقّق الغاية المطلوبة في حركة التطوّر الاجتماعيّ، وتبلغ سنّة الحقّ الكونيّة غايتها في المجتمع الإنسانيّ.
انسجاماً مع سنّة العدل والحقّ الكونيّة، وانعكاسها الاجتماعيّ ضمن سنّة الخط التطوّريّ الموجّه نحو قيام نظام العدل التامّ الشامل في المجتمع البشريّ، تأتي «سنّة الاستخلاف» الإلهيّة الّتي تعني: أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يستخلف في الأرض في كلّ دورة زمنيّة أمّة من الأمم، ويرشّحها لكي تقوم بدور الخلافة الإلهيّة في الأرض، فيمكّنها في الأرض، ويخوّل لها السلطة والقدرة، ويحمّلها مسؤوليّة قيادة الأمم الأخرى في سبيل إقامة العدل في الأرض كلّها، وعمرانها، وإدارتها، وفقاً لشريعة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى العادلة.
سنّة العدل والحقّ سنّة إلهيّة كونيّة عامّة تشمل في عمومها المجتمع البشريّ، مع فارق في التنفيذ بين منظومة المجتمع البشريّ وغيره من المنظومات الكونيّة، نشأ من اختياريّة السلوك الإنسانيّ والحرّيّة التكوينيّة الّتي وهبها الله للإنسان، وبها استحقّ موقع الخلافة الإلهيّة في عالم الوجود، دون غيره من المخلوقات.
إنّ من أهمّ ما تصدّى له الوحي الإلهيّ المتمثّل في كتاب الله المجيد هو بيان القوانين والسنن التي تحكم المجتمع الإنسانيّ في تطوّره منذ بداية تكوينه حتّى الغاية التي لابدّ أن يصل إليها في مسيرته الكادحة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: