الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

ادارة الدولة في عهد النبي

إن رجل الدولة هو المصطلح المتعارف إطلاقه على الإنسان الذي يمتلك المؤهلات والقدرات لإدارة المجتمع في حالاته المختلفة من السلم والحرب والأوضاع الداخلية من رعاية المصالح العائدة للأمة وتجنيها المخاطر والمفاسد، سواء أكان ذلك نابعاً من عقيدة يتبعها أو لم يكن، والدولة هي الكيان السياسي والإطار التنظيمي لوحدة المجتمع وحياته الاجتماعية، وهي التي تمتلك سلطة إصدار القوانين والحفاظ على تطبيقها بهدف ضبط حركة الأمة، من خلال الأجهزة المخولة بذلك بالوكالة عن المجمتع ككل، ولا بد للدولة من الدستور الذي يتضمن القواعد القانونية التي تحدد شكل الحكم والنظام على المستويات كافة، سواء في العلاقات الداخلية بين الدولة والتابعين لها، أو في العلاقات الخارجية بين الدولة والدول المحيطة بها والعالم الخارج عن إطارها بشكل عام.

وهذه المفاهيم "رجل الدولة، الدولة، الدستور" تحمل في أيامنا معان محددة تبعاً لتوسع حركة المجتمعات وتنوع علاقاتها سلماً وحرباً ونمواً وتقدماً بعد التطور الكبير الذي طرأ على حياة البشر بشكل عام، وظهور الحركات القومية بشكل أساس الذي أدى إلى التقسيم الجغرافي لكيانات الدول على الأساس العرقي أو اللغوي وغير ذلك من الأسس التي تم الاستناد إليها لنشوء الدول إلا أن هذه المفاهيم تحمل في الإسلام دلالات مختلفة من حيث مصداق المعنى، لا من حيث أصل المعنى، لأن رجل الدولة في الإسلام هو المكلّف بأمرين أساسيين هما:
الأول: إبقاء حركة المجتمع متجهة أبداً إلى الله سبحانه.
الثاني: السهر الدؤوب للحفاظ على مصالح الأمة وتجنيبها المفاسد وتشجيع الحركة المنتجة في أوساط المجتمع لبناء الحياة الأفضل التي تتقوم بالاستغلال النافع لما سخره الله للبشر من الإمكانيات المودعة في الأرض بما يعين على تحقيق الأمر الأول، والدولة في الإسلام هي الكيان السياسي الذي يجمع المسلمين المنتمين إلى هذا الدين الإلهي سواء وجد معهم أتباع العقائد الأخرى أو لا، والأجهزة الموجودة في الدولة تأتمر بأوامر القيادة لتحقيق الهدفين الذين يشكلان الوظيفة الأساس للدولة الإسلامية، والدستور في الاسلام هو عبارة عن مجموعة القوانين والنظم والتشريعات التي تتضمن بتفصيلها شكل الحكم والنظام بالنحو الموافق للهدفين الآنفي الذكر أيضاً ولا ينبغي خروج الدستور عن العقيدة الإسلامية أصلاً، لأن التشريع هو وظيفة الله وحده، والدستور يصاغ على أساس ذلك.
وهنا، لا بد من الرجوع إلى السيرة النبوية وهي السيرة الوحيدة المحفوظة بشكل كامل لنبي من أنبياء الله (عليهم السلام) والتي اهتم بها المسلمون اهتماماً بالغاً جداً، لأن السيرة النبوية هي النموذج الإلهي للسلوك الخاص والعام للإنسان المسلم، ولأنها إلى جانب القرآن الكريم مصدر غني من مصادر التشريع كما قال الله عزوجل: ﴿ ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... 1 خاصة إذا أخذنا جانب العصمة عند الأنبياء (عليه السلام) عموماً وعند النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) خصوصاً.
وقد ظهر الاقتدار النبوي في إدارة الدولة في المجالات المتنوعة التي يمكن إرجاعها إلى عناوين عامة هي التالية:

أولاً: توحيد المسلمين وجمع شملهم في المدينة المنورة بعد الهجرة

فقرّب بذلك بين النفوس، خاصة وأن المهاجرين هم من الذين لا تربطهم بالأوس والخزرج من أهل المدينة أية رابطة من دم أو عشيرة أو ما شابه من الروابط المعروفة عندهم آنذاك، ليكون ذلك التوحيد إشعاراً بأن الإسلام هو الذي يجمع ويوحد ويؤالف، ولهذا نجد أن الله سبحانه قد امتدح نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على جمعه للمسلمين ونشر المحبة والتآخي بين كل أولئك الفرقاء المتنازعين كما قال سبحانه: ﴿ ... وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ... 2.

ثانياً: تحصين مجتمع المدينة المنورة

لأن النواة الأولى للدولة الإلسلامية التي تشكلت في المدينة كانت تحتاج إلى أجواء هادئة ولو لمرحلة معينة لتنظيم شؤون تلك الدولة وهذا ما استدعى تحصين المدينة بطريقة تمنع الاختراقات أو تمنع استغلال بعض الناس من غير المسلمين كاليهود والذين كانوا يسكنون المدينة وأطرافها، فكانت المعاهدة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهؤلاء اليهود، وهدفت إلى إقرار مبدأ التعاون وحرية الاعتقاد والدفاع عن المدينة بوجه كل الطامعين وخاصة "قريش" وحلفائها الذين كانوا مازالوا في غيهم.

ثالثاً: إدارة قضايا الحرب والسلم

من الطبيعي أن قريشاً لم تكن تشعر بالارتياح لتأسيس مجتمع إسلامي في المدينة باعتبار انه النقيض لها والبديل الذي يريد له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تؤمن به الناس، وكانوا يعلمون أن مركزهم الرئيسي وهو "مكة" هو هدف أساس لحركة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا كانوا يضايقون المسلمين بعد الهجرة من خلال السرايا التي كانوا يرسلونها، من هنا نجد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعد الاطمئنان إلى سلامة مجتمع المدينة ولو نسبياً وضمان عدم الاختراق من غير المسلمين، انصرف إلى الإعداد والتهيئة والتفرغ لقتال قريش من ضمن جدول الأولويات على مستوى الأهداف الرئيسية باعتبار أنها تمثل الرمز الأول الذي بسقوطه تتغير كثير من الظروف والأوضاع، وقد أذن الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقتال، لأنه كان في موقع الدفاع وذلك بقوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ... 3.

وفعلاً لم يمض وقت طويل على هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا بدأت قريش بتحرشاتها بالمسلمين ولعل ذلك لتحقيق هدفين أولهما إخافة المسلمين بأن قريشاً ما زالت على قوتها وبأسها وثانيهما منع الامتداد للإسلام خارج المدينة، إن لم نقل أيضاً تأليب غير المسلمين من أبناء ذلك المجتمع على المسلمين، وهكذا بدأت المناوشات ثم المعارك بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين من جهة وبين قريش ومن معها من جهة أخرى، وبالرجوع إلى السيرة المتضمنة لذكر تفاصيل غزوات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعاركه نجد التنظيم الدقيق والهادف والتخطيط الواعي للحركة الجهادية التي قام بها، كما في بدر وأحد والخندق وغيرها من المعارك الكبيرة التي كان المسلمون يخرجون منها في كل مرة وهم أقوى مما كانوا عليه، مما زاد من تمسكهم بالإسلام وتقوية معنوياتهم.هذه الروحية العالية هي التي لعبت دوراً مميزاً بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ربه في توسيع رقعة الدولة الإسلامية من منطلق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا المجال لا يمكن إغفال الأهمية الكبرى لغزوة الحديبية أو صلح الحديبية كما هو معروف، حتى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عن ذلك بعدما سمع رجلاً يقول "ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت" ((بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الإيمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتح)).
وبذلك الصلح توقفت الحروب والمعارك، مما سمح لحركة الإسلام بالانتشار السريع في العامين المتصلين بالحديبية، باعتبار أن حركة الدعوة صارت آمنة بذلك الصلح، حتى أن الله سبحانه قد أكد هذه الحقيقة بقوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر) حيث ذكر أكثر المفسرين أنها نزلت بعد الحديبية نظراً للنتائج العظيمة التي ترتبت على ذلك الصلح.

رابعاً: التسامح واللين مع الأمة

وهذه الصفة التي كانت بارزة في شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبت دوراً مهماً في جذب الكثيرين إلى الإسلام أو تثبيت المؤمنين به، وقد امتدح الله هذا الخلق النبوي الكريم في العديد من الآيات كما في قوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... 4، وهذا التسامح كان نابعاً من الحكمة النبوية في استيعاب الأمور الصغيرة من سيئات الناس والقضايا التي يمكن التجاوز عنها لما فيه من مصلحة وتقوية للإسلام، حتى ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: ((أمرت بمداراة الناس كما أمرت بتبليغ الرسالة)) ولعب هذا الأسلوب الحكيم من التسامح واللين دوراً أيضاً في تقوية الروابط بين المسلمين ورص صفوفهم أكثر، وقد تجلى هذا الأمر بعد فتح مكة حيث كان المشركون خائفين على أرواحهم بسبب ما أقترفوه من الجرائم ضد الإسلام والمسلمين من القتل والصد والتعذيب ونهب الأموال وسلب الممتلكات، وكان على رأس هؤلاء "أبو سفيان" الذي حارب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا هوادة، ومع هذا نجد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عند فتح مكة يقول: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن))، ثم قال كلمته المشهورة، لأهل مكة وهم الذين فعلوا به ما فعلوا ((إذهبوا فأنتم الطلقاء)).

إن هذا الخلق الكريم هو من أهم المواصفات للقيادة التي تريد الخير والسلام لأنها، لا تستعمل القوة التي تحت يدها للبطش والقتل، بل للرحمة والعفو والمغفرة مع القدرة على فعل الخلاف.

خامساً: الالتزام الدقيق بتطبيق الأحكام على الجميع

وفي هذا المجال برزت قدرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على عدم التهاون في تطبيق الأحكام الإسلامية على المخالفين لها من دون مراعاة للمكانة أو المنزلة الاجتماعية أو أي ميزان من الموازين المتعارفة بين الناس، لأن التهاون في هذا الأمر لن يكون إلا على حساب الدولة والإسلام وهذا مما لا يمكن أن يسمح به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى أنه ورد عنه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((لو سرقت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لقطعت يدها))، فالقضية هنا لا تحتاج إلى التراضي أو اللين، لأن هذا الأسلوب في مثل هذه الموارد يؤدي إلى خلاف الأهداف المطلوبة ويشيع الفساد والفتنة بين الناس، لأن الجريمة المستوجبة للقصاص هي جريمة بحق المجتمع، لا بحق للفرد ان يتنازل عنها خدمة للأهداف الكبيرة كما كان يفعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سلوك سبيل التسامج واللين كما أسلفنا.
فالحفاظ على حق المجتمع في العيش الآمن والهادئ الذي يوفر الأجواء للحركة المنتجة والمفيدة هو أهم وأعظم عند الله سبحانه من العفو عن الخطأ الذي يقوم به الإنسان، لأن المقارنة هنا بين اكتساب فرد وبين اكتساب مجتمع وأمة وتشريع قانون لا بد له من لعب دوره في تقويم الأفراد الذين يريدون الإخلال بأمن المجتمع.
من هذا الجو كله، وبالنظر إلى ضخامة الإنجازات التي تحققت زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخاصة بعد حركة الهجرة وتأسيس المجتمع الإسلامي الأول، وما أحدثه من تغييرات جذرية في المسيرة البشرية بشكل عام، وبالخصوص بعد فتح مكة وإنهاء عبادة غير الله عزوجل، وصيرورة الإسلام هو روح الأمة ومحركها، يثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان رجل دولة من الطراز الأول، بل هو في الدرجة الأرفع عبر التاريخ والعصور، وليس هذا الكلام من باب التعصب، لأن الذي شهد بذلك هم غير المسلمين، ويكفي للدلالة على ذلك أن صاحب كتاب "أعظم مئة رجل في التاريخ" قد جعل النبي محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب المرتبة الأولى من عظماء التاريخ الذين لعبوا دوراً مميزاً في المسيرة الإنسانية.
ولهذا، فإن الاقتدار النبوي على تحويل حركة الواقع السلبي في زمانه إلى حركة وعي في ضمير الفرد والأمة لإبراز القابليات الإنسانية والدفع بها لبناء الحياة على ضوء النموذج الإسلامي الإلهي يعتبر الإنجاز الأعظم الكاشف عن الخبرة الرفيعة والراقية في إدارة شؤون المجتمع الناتج عن الفهم الواعي والدقيق لأوضاع الناس، ولقيادتهم ورعايتهم والسير بهم نحو كمالهم5.