الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الإلزام بالتقيُّد بالشرع يمنعُ من تعليق المرأة والانتقام منها

المسألة

سماحة الشيخ الجليل

الحكم الشرعي بجواز أنْ يطلب الزوج ما يشاء من فدية، هذا الحكم الشرعي بالجواز له تبعات كارثية وهو أداة لانتقام بعض الرجال، فما المانع من إصدار تشريع متحرك يقيده وذلك بأن ينص أنه في حال الخلع لا يحقُّ له أكثر من كذا ..؟

الجواب

لو يتم التقيُّد بالضوابط المُعتبرة في صحَّة الخلع لكانت دائرة المشكلة ضيِّقة إن لم تكن منتفية، فالمشكلة لم تنشأ من استحقاق الزوج لأنْ يطلب من الفدية والبذل ما يشاء ليقبل بإيقاع الخلع بل هي ناشئة عن عددٍ من الأمور:

الأمر الأول: هو توهُّم الزوج أنَّ له حقَّ المطالبة بالبذل من الزوجة بمجرَّد مطالبة الزوجة بالانفصال والحال أنَّه ليس له الحقُّ في ذلك مطلقًا وإنَّما يستحقُّ المطالبة بالبذل المقابل للخلع عند توفُّر عددٍ من الشروط:

الشرط الأول: أنْ تكون الكراهة من الزوجة خاصَّة، وأمَّا لو كانت الكراهة من الطرفين فكان كلٌّ منهما يكرهُ الآخر فحينئذٍ ليس للزوج أنْ يُطالب الزوجة لو أرادت الانفصال بأكثر من مقدار المهر الذي بذله لها.

الشرط الثاني: أنْ لا يكون منشأ الكراهة تعدِّي الزوج على زوجته بمثل الضرب أو الشتم أو الإهانة أو الاستيلاء على شيءٍ من أموالها أو ما أشبه ذلك من أنحاء الظلم والإيذاء، فلو كان شيءٌ من ذلك هو منشأ كراهة الزوجة لزوجها فإنَّه لا يستحقُّ البذل لو طالبت الزوجة بالطلاق.

الشرط الثالث: أنْ تكون كراهة الزوجة لزوجِها قد بلغت حدًّا حملها على تهديده بالنشوز وترك الرعاية لحقوقه الواجبة، أمَّا لو لم تبلغ الكراهة هذه المرتبة وطالبت الزوجة بالانفصال لاعتباراتٍ أخرى واهيةٍ أو عقلائية فإنَّه لا يستحقُّ البذل المقابل للخلع لو قبِل بالانفصال.

وعليه لو ترافعت الزوجة عند القاضي الشرعي مطالبةً بالانفصال فإنَّه ليس للزوج أنْ يجيب القاضي بأنَّه يقبل بالخلع إذا بذلت له ما يريد من فدية بل يتعيَّن عليه أن يُثبت للقاضي أنَّ شروط الخلع متوفِّرة.

وبتعبيرٍ آخر: يتعيَّن على القاضي قبل مطالبة الزوج بالخُلع ومطالبة الزوجة بالبذل الذي يطلبه الزوج يتعيَّن عليه التثبُّت من تحقُّق الشروط المذكورة، فلو تبيَّن له أنَّ الكراهة من الطرفين فإنَّ عليه أن يمنع الزوج من المطالبة بأكثر من مقدار المهر، ولو كان منشأ الكراهة هو ظلم الزوج وإيذائه لزوجته فإنَّ عليه أن يمنع الزوج من المطالبة بأيِّ بذلٍ في مقابل الطلاق، وكذلك لو كان مطالبة الزوجة للانفصال ناشئًا عن غير الكراهة وقبِل الزوج بالانفصال فإنَّ على القاضي أنْ يمنعه من المطالبة بالبذل.

فكم سيضيق من دائرة المشكلة لو تمَّ التقيَّد بما بيَّناه؟؟ فإنَّ أكثر الحالات أو الكثير من الحالات التي يُطالب فيها الزوج بالبذل المقابل للخُلع يكون فيها كارهًا لزوجته كما هي كارهةٌ له أو يكون منشأ كراهتها له هو إيذاؤه لها، وفي كلا الفرضين لا يستحقُّ البذل المقابل للخلع بل يستحقُّ مقدار المهر في الفرض الأول، ولا يستحقُّ شيئًا في الفرض الثاني.

الأمر الثاني: هو توهُّم الزوج -أنَّه إذا كانت الزوجة هي المبادرة لطلب الطلاق في المحكمة- أنَّ له حقَّ المطالبة بالبذل فلذلك لا يُبادر هو بالذهاب للمحكمة رغم أنَّه الكاره لها والراغب في الانفصال فتبقى الزوجة في عهدته مدَّة طويلة لا يرغب فيها ولا يُعاشرها بالمعروف ينتظر منها أنْ تُبادر بالمطالبة بالطلاق، وقد تبيَّن ممَّا تقدَّم أنَّ مبادرتها بالمطالبة بالطلاق لا يُسوِّغ له المطالبة بالبذل لولم تكن الكراهة من جهتها فإنَّه إذا كانت الكراهة من جهته خاصَّة وقبِل بالطلاق بعد مطالبتها فإنَّه ليس عليها شيءٌ تدفعه في مقابل ذلك، ولو كانت الكراهة من الطرفين فإنَّ البذل الذي يسوغُ له المطالبة به يجب أنْ لا يزيد عن مقدار المهر الذي دفعه لها.

الأمر الثالث: توهُّم الزوج أنَّ بإمكانه تعليقَ الزوجة وعدم الالتزام بحقوقها لإلجائها إلى طلب الخُلع، وهو توهُّمٌ باطل، فلو فعل ذلك فإنَّ للزوجة رفعَ أمرها الى القاضي الشرعي لإلزامه إمَّا بالوفاء لها بحقوقِها أو تطليقها.

فإنْ كان حقُّها الذي يمنعها منه هي النفقة أجبره الحاكم على الإنفاق، فإنْ امتنع عن الانفاق والطلاق ولم يكن من الممكن الإنفاق عليها من ماله دون اختياره ولم يكن من الممكن إجباره على الطلاق جاز للحاكم الشرعي أنْ يُطلِّقها منه دون اختياره لو طلبت ذلك، وإذا لم يكن قادرًا على الإنفاق لعجزه وطلبت الطلاق فإنْ امتنع ولم تقبل بالصبر جاز للحاكم أيضًا أن يطلِّقها منه دون اختياره.

وإذا كان حقُّها الذي يمنعها منه هو المعاشرة بحيث صيَّرها كالمعلَّقة فلها أنْ ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، وعلى الحاكم بعد التثبُّت أنْ يُخيِّره بين العدول عن هجرانها وبين الطلاق فإنْ امتنع منهما حبَسه أو عاقبه حتى يختار أحد الأمرين، ومع استنفاذ وسائل الضغط عليه لاختيار أحد الأمرين وطلبت الطلاق صحَّ للحاكم الشرعي أن يُطلِّقها منه دون اختياره.

وإذا كان يظلمها ويؤذيها بمثل الضرب أو الشتم أو التعيير أو ما أشبه ذلك ورفعت أمرها إلى الحاكم الشرعي فعليه منعه فإنْ امتنع من إيذائها وإلا فعليه تعزيره وتأديبُه بعد التثبُّت فإنْ لم يُجدِ معه التعزير وطالبت بالطلاق فإنَّ على الزوج أنْ يطلِّقها وليس له في هذا الفرض المطالبة بالبذل، فإنْ امتنع من تطليقها دون بذل فإنَّ للحاكم الشرعي أنْ يطلِّقها منه لو طلبت.

وبهذا يتبيَّن كم تضيق دائرة المشكلة لو تمَّ التقيُّد بما بينَّاه في الأمور الثلاثة.

وتبقى دائرة المشكلة منحصرةً في فرض كراهة الزوجة لزوجها رغم عدم كراهته لها ورغم التزامه لها بتمام حقوقها، ففي مثل هذا الفرض لو طالبت الزوجة بالانفصال صحَّ له المطالبة بالبذل المقابل للخلع بعد نصيحتها بالعدول عن طلبها للطلاق وبعد نصيحته بتسريحها بإحسان، فكم من الحالات ستبقى في هذه الدائرة لو تمَّ الالتزام بما بينَّاه.

ستكون الحالات محدودة جدًّا، وليس كما يُروِّج المتربِّصون أو الغافلون.

وهنا نقول رغم محدوديَّة الحالات فإنَّ الزوج لو طالب زوجته بفديةٍ مُجحِفة وخارجة عن مقدورها فإنَّ للحاكم الشرعي أنْ يتدخَّل ويمنع الزوج من الإجحاف تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنْ أصرَّ على المطالبة بالمقدار المجحِف كان له تأديبُه والضغط عليه بما يُوجب تخفيض مقدار الفدية بنحوٍ ينتفي عنها وصفُ الإجحاف.

نعم ليس ثمة ما يُسوِّغ شرعًا تحديد مقدار الفدية بنحوٍ مطَّرد، وذلك لتفاوت الحالات تفاوتًا بيِّنًا بحيث يكون مقدار البذل الذي يُطالب به الزوج معقولًا وميسورًا ومناسبًا لمقتضى العدل والإنصاف بالنسبة لحالةٍ وزوجةٍ ويكون نفس هذا المقدار مجحفًا بالنسبة لحالةٍ وزوجةٍ أخرى، ولهذا يتعيَّن ملاحظة القاضي لكلَِ قضيةٍ على حدة.

وبما ذكرناه يتبيَّن أنَّه ليس في وسع الزوج تعليق زوجته، وليس في وسعه الانتقام منها لو تمَّ التقيُّد بالأحكام الشرعيَّة، ولو أراد الزوج التحايل على الأحكام الشرعيَّة أو التجاوز لها فإنَّ على القاضي الشرعي أنْ يحول بينه وبين ذلك.

ولو قيل إنَّ القاضي ليس لديه سلطة تُمكِّنه من منع الزوج عن التجاوز للأحكام الشرعيَّة فجوابه أنَّ ذلك لو صحَّ فمعالجتُه تتمُّ بإعطائه لهذه السلطة وتمكينه بقوَّة القانون من فرض الالتزام بالضوابط الشرعيَّة.

وثمة منشأٌ آخر لوقوع التجاوزات من قبل الأزواج والزوجات وهو كثرة القضايا وقلَّة القضاة، فذلك هو ما يتسبَّب في تأجيل البتِّ في القضايا لمُددٍ طويلة يتمكَّن فيها الظالم من الأزواج والزوجات من الإمعان في ظلمِه وتجاوزه لحقوق الآخر.

وأمَّا الكذب الذي يُمارسه صاحب الدعوى والمترافِع عنه أو المدَّعى عليه والمترافِع له فهو سببٌ آخر لوقوع الظلم بين الأطراف، فالمترافِع يُلقِّن صاحب الدعوى ما يحتجُّ به دون أن يراعي الواقع والصدق وكذلك المترافِع عن المدَّعى عليه، ولا علاج لذلك سوى تقوى الله تعالى وخشيته، وفطنةِ القاضي وتثبُّته، وسعة صدره، وأنْ يُعطى من الوقت ما يُتيحُ له التثبُّت قبل البتِّ في أيِّ قضيَّة، فلا يكون تحت ضغط الوقت وضغط المترافعين وضغط الإجراءات الإداريَّة وضغط المتشدِّقين بالحقوق لغاياتٍ متَّهمة 1.

  • 1. المصدر : موقع سماحة الشيخ محمد صنقور حفظه الله.