الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الامام علي وابعاد الولاية الإلهية

ورد في الحديث عن الإمام الكاظم “عليه السلام”: (جميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الكفر، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الحق).
فالإمامة في مفهومنا الإسلامي عنوان مقدس لارتباطها بالمسار العام للأمة الإسلامية فإن كان الإمام صالحاً كانت الأمة كذلك, وإن كان فاسداً صارت الأمة فاسدة... والتاريخ الإنساني العام, وتاريخنا الإسلامي الخاص شاهد على ذلك, خصوصاً بعد انتهاء مرحلة الخلفاء الأربعة وصيرورة الحكم في الإسلام متوارثاً بين العائلات من الأموية والعباسية وصولاً إلى السلطنة العثمانية حيث انقطع نظام الخلافة كلياً، وصارت الأمة الواحدة الموحدة بالإسلام دولاً وكيانات وطنية وقومية وذات أفكار مستوردة من هنا وهناك بحيث صار الإسلام جامعاً فوقياً فقط بمعنى أنه صار عنواناً بدون معنون وشعاراً بلا مضمون بل نتجرأ ونقول بأنه صار عاملاً سلبياً بدلاً من أن يكون عاملاً ايجابياً لأن المسالة ليست مسالة شعارات نطرحها بل المسألة هي بالثمار النتائج الإيجابية النافعة للأمة من وراء الشعارات المطروحة.
من هذه المقدمة الموجزة ندخل إلى قضية " الولاية والإمامة" لتفسير معناها أولاً، ثم لنبين مقامها في العقيدة الإسلامية ثانياً، ومن بعدها ثم الانتقال إلى بُعدها العملي والتطبيقي في حياة الأمة ككل.
أولاً: معنى الإمامة: فالإمام هو ما يتبع ولا فرق بين أن يكون هذا الشيء إنساناً يتبع قوله أو فعله أو كتاباً أو شيئاً آخر، ولا فرق في صدق هذا اللفظ بين أن يكون المتبع حقاً أم باطلاً، أما بالنسبة إلى الإنسان بالخصوص فالإمام هو الأسوة والقدوة والهادي إلى الرشد والتكامل إن كان الإمام صالحاً، أو إلى الانحطاط والتقهقر إن كان الإمام فاسداً ولذا نجد أن القرآن الكريم طرح مفهوم الإمامة بجانبيه "الإيجابي" كما في قوله للنبي إبراهيم “عليه السلام”: ﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... 1، "والسلبي" كما في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ... 2 كما في حالة فرعون وغيره.
ولا بد من الإشارة في هذا المجال إلى أن أعمال الإنسان لها ظاهر وباطن حتى التوحيد, فجسمه هو الإقرار باللسان وروحه التصديق بمحتوى كلمة التوحيد وتجسيد ذلك فعلاً وقولاً وكذلك الصلاة فظاهرها الأفعال والحركات وروحها هو النهي عن المنكر والفحشاء من خلال التوجّه الخالص لله عز وجل.
بعد بيان معنى كلمة الإمام يتضح لنا أن الإمامة بمعنى " الولاية والقيادة" ليست مسألة عادية في المنظار العقائدي الإسلامي بل لها مكانة دقيقة جداً طالما أن ارتقاء الأمة وانحطاطها منوط بها, وعليه تكون الإمامة هي: (روح ولب وقلب جميع عقائد وأفعال الإنسان المسلم)، ومن هنا نفهم معنى الحديث الوارد عند السنة والشيعة عن رسول الله “صلى الله عليه وآله” بأنه: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية)، وهذا الحديث نقله أحمد بن حنبل في مسنده والمراد من الجاهلية هنا ليس الجهل الذي هو في مقابل العلم , بل الكفر في مقابل الإيمان لأن أهل الجاهلية لم يكونوا جاهلين بالقراءة والكتابة بل كانوا كافرين ومشركين وعبدة أصنام وأوثان وعليه فمعنى الحديث أن سلخ الولاية عن الإسلام هو إفراغ لهذا الدين من مضمونه ومحتواه وإعادة الأمور إلى زمن الجاهلية لكن بلباس إسلامي سطحي وظاهري.
فالإسلام هو دين الحياة ودين الآخرة أيضاً، ولا بد لمن يعمل على تطبيق هذا الإسلام أن يكون إنساناً كاملاً تاماً مبرء من كل عيب ونقص حتى يستطيع أن يعكس هذا الإسلام ويجسده عملاً صحيحاً سليماً موافقاً للمواصفات والشروط الإلهية وهذا يفترض بمن يسهر على التطبيق ويراقب التنفيذ ان يكون إنساناً معصوماً على حد عصمة الأنبياء “عليهم السلام” ولذا ورد في الحديث عن الإمام زين العابدين ”عليه السلام”: (الإمام منا لا يكون إلا معصوماً وليست العصمة في ظاهر الخلق فيعرف بها، لذا وجب أن يكون منصوصاً) وإذا كان الإمام متصفاً بصفة العصمة فسوف يكون التزامه بأحكام الإسلام التزاماً دقيقاً وكاملاً وسيحرص على أن يطبقه المسلمون كذلك، وسيدفع عن هذا الدين كلما يمكن أن يثار حوله شبهات وشكوك لأن من مقام عصمته قادر على أداء كل تلك المهمات بدون عجز أو احتياج إلى المساعدة من أحد، وهذا واضح لمن يراجع سيرة الأئمة الإثني عشر عليهم السلام.
يضاف إلى ذلك أن الإمامة بمعنى الولاية والقيادة والقدوة هي شرط لقبول الأعمال من المسلم وقد نقل السنة والشيعة أخباراَ عن هذه المسالة وينقل الطبري في كتاب " الأوسط" عن طريق أبي ليلى عن الإمام الحسين”عليه السلام” عن رسول الله ”صلى الله عليه وآله” (إلزموا مودتنا أهل البيت فإنه من لقي الله عز وجل وهو يودّنا دخل الجنة بشفاعتنا والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقّنا)، وقد نقلها أيضاً من علماء أهل السنة "الهيثمي" "وإبن حجر" "والحضرمي".
والمراد من المودة هنا ليست " المحبة" فقط، بل المراد هو المولاة والاتباع والإقتداء لأنهم كما ورد عن النبي حول الأئمة “عليهم السلام”: (بأنهم سفينة النجاة من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)، ولذا نرى ما يؤكد هذا المعنى فيما قال رسول الله “صلى الله عليه وآله” لسلمان الفارسي ...(يا سلمان من مات من أمتي وليس له إمام منهم يعرفه فهي ميتة جاهلية, فإن جهله وعاداه فهو مشرك وإن جهله ولم يعاده ولم يوالِ له عدواً فهو جاهل وليس مشرك).
وبناء على ذلك فالإمامة من الإسلام هي بمنزلة الروح من الجسد فكما أن الجسد لا حياة فيه ولا حراك ولا قيمة له بدون الروح، فالإسلام كذلك بدون الإمامة والولاية ولذا أجمع المسلمون على الولاية في الإسلام, وإن كانوا قد اختلفوا في تحديد من هم الأئمة والأولياء بعد رسول الله “صلى الله عليه وآله” وفقاً لمقولتي "النص" و"الشورى".
وفي نظرة سريعة إلى بعض الأحاديث الدالة على عظمة الإمامة وخطورة دورها في حياة الأمة الإسلامية نذكر ما يلي: (الإمامة نظام الأمة) عن علي “عليه السلام” و(الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين) عن الإمام الرضا”عليه السلام” ويفسر الإمام علي “عليه السلام” معنى كلمة نظام في نهج البلاغة فيقول: (مكان القيم من الأمر, مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه, فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً).
فالإمامة والولاية تعني حفظ الأمة الإسلامية والدين الإسلامي والسير بهما معاً نحو الأهداف الإلهية السامية المطلوب تحقيقها في الحياة الدنيا والتي تندرج تحت عنوانين كبيرين هما...(توجيه الناس نحو عبادة الله الواحد الأحد, وإعمار الأرض بما يحقق السعادة والهناء للإنسانية جمعاء ونشر الأمن والسلام بين البشر.....)
ولذا ورد في أحاديث كثيرة أن أهم ما بُني عليه الإسلام هو الولاية كما في الحديث المشهور: (بُني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية), ثم قال الإمام الباقر”عليه السلام” في نفس الحديث: (الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن).
ومن هنا نعتبر أن أخطر أمر على الأمة الإسلامية في تاريخها هو عندما رضيت بالتنازل عن خط الإمامة والسماح بتحويل هذا المنصب الإلهي إلى خلافة وراثية تناقلتها العائلات من أموية وعباسية وفاطمية وحمدانية وعثمانية, مع ما نتج عن ذلك من الحروب الدامية والمعارك المستمرة بين الحكام والطامعين في الحلول محلهم, مما أدى إلى تراجع حال الأمة الإسلامية وتعرضها لاعتداءات الصليبين تارة والمغول تارة أخرى, وصولاً إلى احتلالها من جانب القوى المستعمرة في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين ثم وقوع البلدان الإسلامية تحت رحمة أمريكا حالياً_ القوة المستكبرة التي تحاول الهيمنة على العالم بكل مقدراته وثرواته وتنشر نموذجها المنحرف للحياة الإنسانية ذلك النموذج الذي يجسد في ظاهره كل محرمات الإسلام ويجسد في باطنه هيمنة أئمة الجور على مجمل المجتمعات.
وقد عمل بعض الوضّاعين على جعل هذا التحويل لمنصب الإمامة الحق عن مساره شرعاً من خلال الأحاديث الكاذبة التي نسبوها إلى النبي”صلى الله عليه وآله” حتى يمنعوا من قيام الناس في مواجهة أئمة الجور وولاة الظلم الذين استبدوا بالحكم وقبضوا عليه وقتلوا وسفكوا الدماء للحفاظ عليه، ومن نماذج تلك الأحاديث ما ورد في صحيح مسلم من "كتاب الإمارة" في حديث منسوب إلى رسول الله “صلى الله عليه وآله” (إنكم ستلقون بعدي أثرة, فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). وفي كتاب كنز العمال عن وائلة عن النبي “صلى الله عليه وآله”: (لا تكفروا أهل ملتكم وإن عملوا الكبائر، وصلّوا خلف كل إمام وصلوا على كل ميت وجاهدوا مع كل أمير)، وفي صحيح مسلم في الباب الثالث عشر وهو " وجوب ملازمة جماعة المسلمين ورد حديث عن حذيفة بن اليمان أنه قال لرسول الله “صلى الله عليه وآله”: (إنا كنا بشر فجاء الله بخير نحن فيه, فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال “صلى الله عليه وآله”: نعم , قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم, قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم, كيف: قال”صلى الله عليه وآله” يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس قلت: كيف أصنع يا رسول الله؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فأسمع وأطع).
أن هذا النمط من التحريف لدور الإمامة هو الذي أوصل الأمة إلى ما هي عليه, وهو الذي مهد السبيل لمحنة اعتصاب فلسطين والقدس الشريف واستعباد الأمة.
من هنا نقول إن أهم الأبعاد العملية للولاية هو البحث عن الولي الحق الذي يلتزم شرع الله ومنهاجه, ويحرص على دين الناس ودنياهم, ويحمي مصالحهم ويدفع عنهم المفاسد يستغل قوة الأمة وخيراتها لتحريرها من قبضة أعدائها والمتكالبين عليها, لأن الإسلام لا يمكن أن يأمر أتباعه بالخضوع للإمام إذا كان ظالماً منحرفاً متخلياً عن واجباته ولو تظاهر بالصلاة والصيام وبناء المساجد من باب النفاق وذر الرماد في العيون, لأن هذه المظاهر تضربها سيرته في الرضوخ لأعداء الإسلام والأمة مع ما ينتج عن ذلك من احتقار للمسلمين وتسفيه وتشويه لدينهم كما حصل ويحصل في أيامنا هذه التي تشن فيها أمريكا الحرب الهوجاء والظالمة ضد هذا الدين وأمته التي أعزها الله به, ويريد لها أئمة الجور الذل برضوخهم وحبهم للدنيا وخوفهم على عروشهم وكراسي ملكهم التي اغتصبوها قهراً عن إرادة المسلمين من أفراد وشعوب.
وهنا نصل إلى علي”عليه السلام” الذي أعطى الولاية معناها الحقيقي وأبعادها العملية في القيادة والاقتداء حتى صار مضرب المثل في هذا المجال وتحدث عنه الغريب قبل القريب والعدو قبل الصديق والمخالف قبل الموافق، وكانت إمامته للمسلمين قائمة على الالتزام الدقيق بكتاب الله وسنن نبيه الأعظم ”صلى الله عليه وآله” وزين الإمامة بسيرته وطريقته في الحكم والإرادة وأعطى المثل الأعلى في تقوى الحاكم وزهده وخوفه من الله وحرصه على مال الأمة وخيراتها، وساوى نفسه في طريقة العيش بأفقر المسلمين وأضعفهم حالاً، مع أن كل ثروات الأمة كانت تحت يده وبإمرته فلم يسمح لنفسه بأن تشتهي شيئاً من حطام هذه الدنيا على حساب أحد من المسلمين.
ولهذا ستبقى ولاية علي وإمامته نوراً ونبراساً ومشعلاً ينير الدرب للباحثين عن الإمامة الحقة والولاية الإلهية الصادقة ليسيروا على هديها في الحياة الدنيا، ولينجوا بأنفسهم يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. والحمد لله رب العالمين3.