الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
التعاون سبيل النهوض
القدرة على التعاون مع الآخرين، والنجاح في العمل الجمعي، هو مظهر لنضج الوعي، وسمو الخلق، وهو مفتاح التقدم والنهوض على الصعيد الفردي والاجتماعي.
فحين يتعاون الإنسان مع الآخرين، يتسع أفق تفكيره، لإضافة آرائهم إلى رأيه، كما تتضاعف إنتاجيته لانضمام طاقاتهم إلى طاقته.
وفي التعاون ترويض للنفس على المرونة، وحسن التوافق، وتنمية للقدرات الإدارية والأخلاقية.
إن أي إنسان مهما عظمت كفاءته وقدرته، فإنها تبقى محدودة أمام آفاق الحياة وإمكانياتها، وأمام تحديات الواقع ومجالات التطلع والطموح.
لذلك يجد نفسه إن كان طموحاً، أمام أحد خيارين:
الانكفاء على قدرته والانطلاق منها لتحقيق الممكن من الانجازات، أو التعاون مع الآخرين لمزيد من الإنتاجية والتقدم.
إن ضيق الأفق، وضحالة الوعي، وضعف الهمة، تدفع الكثيرين للخيار الأول، بينما ينطلق الواعون الناضجون باتجاه خيار الشراكة والتعاون.
والمجتمع المتقدم هو الذي تسود فيه حالة العمل الجمعي، في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية، بينما يفرز واقع التخلف أسلوب العمل الفردي والعجز عن الشراكة والتعاون في شتى المجالات.
والتفاوت القائم اليوم بين حال المجتمعات الغربية المتقدمة، وواقع مجتمعات العالم الثالث المتأخرة، مصداق بارز لهذه الحقيقة الواضحة.
هناك تتعاون الحكومات مع قوتها، ضمن أحلاف وتكتلات، كالاتحاد الأوروبي، الذي يضم دول أوروبا، ويهدف إلى تحقيق تكاملها الاقتصادي، وتنسيق جهود التنمية الاجتماعية، وتحقيق الوحدة السياسية، وقد أصدرت عملة موحدة (يورو) ولديها برلمان منتخب من جميع دولها.
وكذلك حلف شمال الأطلسي الذي يضم ست عشرة دولة، هي دول أوروبا والولايات المتحدة وكندا، ويعمل كمنظمة دولية دفاعية، ويستهدف حل الخلافات بين الدول الأعضاء بالطرق السلمية، واعتبار أي اعتداء على دولة في الحلف اعتداءً على الجميع، ويضع خططاً دفاعية مشتركة.
إضافة إلى مجموعة الدول الصناعية السبع (كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، بريطانيا، أمريكا). وأمثال ذلك من التكتلات العالمية التي تواصل تعاونها وتخدم مصالح المشاركين فيها.
وفي تلك المجتمعات غالباً ما يكون النشاط الاقتصادي والصناعي، في إطار شركات تتراكم فيها الخبرات ورؤوس الأموال، وبعضها أصبح عابراً للقارات، ومتعدد الجنسيات.
وبين حين وآخر يحصل اندماج واتحاد بين شركات كبيرة عملاقة، في نفس البلد أو من بلدان مختلفة. كالاندماج الذي حصل بين شركتي (شيفرون) و (تكساسكو) النفطيتين الأمريكيتين. واندماج ثلاث شركات كبرى للفولاذ، من ألمانيا وفرنسا وأسبانيا لتصبح شركة واحدة عملاقة هي الأكبر في العالم، تنتج سنوياً مليون طن من الفولاذ. ووصفت هذه الصفقة بأنها مذهلة لأن الشركات الثلاث هي في الأصل غريمة لبعضها.
كما أعلن أخيراً عن اندماج شركتين أمريكيتين ضخمتين في عالم الإنتاج الموسيقي هي شركة (إي. أم. آي) وشركة (تايم وورنر) وتقدر قيمة الشراكة الجديدة بعشرين مليار دولار، وحجم مبيعاتها ثمانية مليارات دولار سنوياً.
أما على الصعيد العلمي والاجتماعي في الغرب، فإن المؤسسات هي إطار الفاعلية والعمل، وقد انقرضت لغة العمل الفردي، ولم تعد مقبولة في تلك المجتمعات. وأصبح أفق التعاون عندهم عالمياً يتجاوز الدول والقارات، فقبل شهرين أعلن عن اتحاد الأحزاب الخضر في أوروبا، التي تهتم بحماية البيئة وتعارض الحروب وإنتاج الأسلحة الفتاكة فاتحدت 32 حزباً من 29 دولة لتدخل البرلمان الأوروبي كقوة موحدة.
بالتأكيد فإن هذه المنهجية السائدة هناك، واعتماد لغة العمل الجمعي والتعاون المشترك، هي من أبرز أسباب تقدم تلك المجتمعات واستقرار أوضاعها السياسية وعلاقاتها الاجتماعية.
بينما نرى على الضفة الأخرى، في مجتمعات العالم الثالث التي ننتمي إليها، أن هذه المنهجية لا تزال محدودة التداول والاستخدام، فالفردية هي اللغة الشائعة في مختلف الميادين، ومشاريع التعاون والشراكة غالباً ما تتعثر وينفرط عقدها.
لقد مضى على تأسيس جامعة الدول العربية حوالي ستين عاماً، ومع ضخامة التحديات التي يواجهها العالم العربي، وخاصة في هذه الأعوام الأخيرة، مما يجعل التعاون بين الدول العربية أشد إلحاحاً وأكثر ضرورة، إلا أن ما يحصل في إطار الجامعة العربية يدل بوضوح على ضعف إرادة التعاون، وغياب روح العمل الجمعي، حيث لا تزال العلاقات مضطربة بين أكثر من دولة عربية، ولم تنجز الجامعة مشاريع مشتركة هامة تلامس مصلحة المواطن العربي، وجاء انفراط عقد الاجتماع الأخير للقمة العربية في تونس، وقرار تأجيله ليكشف بجلاء تعثر منهجية التعاون والعمل الجمعي على مستوى الدول العربية. وفي مظهر آخر لعمق الخلل في العلاقات العربية، وعجزها عن تحقيق أدنى مستويات التعاون، جاء تعثر الإعداد للمشاركة في معرض الكتاب الدولي في فرانكفورت، في دورته السادسة والخمسين بتاريخ 6-10 أكتوبر من هذا العام 2004م، هذا المعرض الذي يعتبر أضخم مهرجان ثقافي عالمي، وتقرر من قبل ثلاث سنوات أن يكون العالم العربي هو ضيف الشرف فيه هذا العام، حيث يتمتع ضيف الشرف بجناح يخصص له، وتغطى معارضه وأنشطته بإعلام دولي مكثف، كما تتاح له فرصة إقامة مختلف الأنشطة الثقافية لمدة عام كامل على مستوى ألمانيا.
ومع ما يتعرض له العالم العربي من حملات إعلامية ضارية، لتشويه سمعته، كل ذلك يفترض أن يوجب أشد الحرص لاستثمار هذه الفرصة العظيمة، لكن واقع العلاقات العربية قد يضيع مثل هذه الفرصة، أو يضعف إمكانية الاستفادة منها بالمستوى المطلوب.
إن المساحة المخصصة في المعرض للعالم العربي تسعة آلاف متر مربع، ولم تسدد إلا بعض الدول العربية مبلغ سبعمائة ألف دولار من الرسوم التي تبلغ ثلاثة ملايين دولار!!
وكان من المقرر ترجمة 100 كتاب عربي إلى اللغة الألمانية، لم ينجز منها إلا عشرون كتاباً!!
ومن قائمة 350 ناشرا عربيا يفترض مشاركتهم في المعرض، لم يتقدم إلا 150 ناشراً فقط!!
وحسب البرنامج المقترح سيشارك حوالي 750 من المؤلفين والمفكرين والأدباء والفنانين والإعلاميين العرب، ليتعرف عليهم جمهور المعرض، وليشاركوا في فعالياته الثقافية، لكن الأموال اللازمة لنفقات سفرهم لم تؤمن بعد!!
بالتأكيد لو كان ضيف الشرف دولة عربية واحدة، لقامت بما يلزم لذلك بمفردها، لكن شمول المشاركة لكل الدول العربية، أوجب هذا التعثر.
ولا تقف المشكلة عند حدود ضعف التعاون بين الدول العربية، بل إن هناك صراعاً حول المشاركة في المعرض بين اتحاد الناشرين العرب والمراجع الرسمية العربية، ثم بين اتحاد الناشرين العرب والجامعة العربية، وبين الناشرين من بعض الدول العربية واتحاد الناشرين المصريين1.
- 1. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار نقلا عن صحيفة اليوم 21 / 4 / 2004م - 1:00 م.