الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الحج يفجر الطاقات

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ 1.
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، فالمعدن ثمين جداً ، ولكن المشكلة أن المعدن لا يمكن أن يستخرج أو يتحول إلى قيمة مالية إلا بجهد جهيد ، وكذلك هو الإنسان وطاقاته التي لا تحد كماً ونوعاً .
فأنت كطالب في مدرسة ؛ قد أودع الله سبحانه وتعالى فيك أن تصبح أكبر وأعظم خبير بعلم الفيزياء أو الرياضيات أو الطب ، وأن يكون دماغك الأوسع في علم السياسة أو الإدارة … فهذا العقل الذي وهبك الله إياه أعظم وأقوى من الجبال . . أو ليس القرآن إذا أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله . . أو ليست الأرض والسماوات أبين أن يجملن الأمانة وحملها الإنسان . .
هذا العقل الإنساني القادر على استيعاب معرفة الله سبحانه وتعالى ويصل إلى حيث يقول له جبرائيل حذراً : " والله لو تقدمت أنملة لاحترقت " 2 . هذا العقل المتصل بنور الله . . وهذه الإرادة التي قد تصل إلى حيث يقول تبارك وتعالى : " عبدي اطعني تكن مِِثلي (مَثَلي) أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون " 3 . هذا العقل ، وهذه الإرادة والمهارة تسبح في رحاب واسع في أعمال الغيب ، مثلها في ذلك مثل مناجم الذهب الغاصّة في أعماق الجبال وطبقات الأرض السفلى .
الإنسان وما أدراك ما الإنسان ؟!
ترى كيف يستخرج معدن الإنسان ويمكن أن تُفجر طاقاته وتتبلور إمكاناته فيكون حيث أراد الله سبحانه وتعالى ؟!
من المعلوم أن سلسلة عمليات يتم إجزاؤها على هذا المعدن أو ذاك حتى يتحول إلى الجسم والحجم المطلوب ، كأجهزة الحفر وإثارة الأرض والنار والمناشير وغير ذلك من الطرق المثلى لاستخراج وصقل المعادن .
أما الإنسان ؛ فالكشف عن إمكاناته وصقل شخصيته إنما يتم عبر احتكاكه بإنسان من حوله ، نظراً لأن الله تبارك اسمه قد قال في كتابه المجيد : ﴿ ... وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ... 4 وقد جاء في المعنى اللغوي لمفردة (الفتنة) على أنها تعريض الذهب للنار ، ولأن مفردة البلاء الذي قضي على ابن آدم بالتعرض له في الدنيا عبارة عن عملية استخراج الكامن في داخل كل إنسان .
وعلى ذلك ؛ فإن استخراج معدن الإنسان يتم عبر احتكاكه بنظيره الإنسان ومجتمعه وأمّه وما يلف هؤلاء من ظروف وتحولات .
لقد خلق الله سبحانه وتعالى في الإنسان طاقات هائلة لو فجرها واستغلها لكان الأقوى فعلاً بين سائر المخلوقات . وهكذا الأمر بالنسبة إلى الشعوب والأمم ، حيث أن من الطبيعي لهذه الأمة الأكثر استفادةً من طاقاتها أن تكون الأقوى بين الأمم .
ولكن الله عز وجل لم يخلق الإنسان والمجتمع ليكونا قويين فحسب ؛ وإنما اختط لهما خارطة فذة ودقيقة لتأخذ القوة مسارها الصحيح ، وهذه الخارطة هي عبارة عن المعتقدات والتشريعات التي ينبغي للإنسان والمجتمع تبنيها والالتزام بها والتنافس من أجل تحكيمها على أرض الواقع ، والتنافس والقدرة عليه هو الآخر يمكن التعبير عنه بأنه طاقة عارمة . . وعليه فإن التنافس لابد وأن يكون من أجل الوصول إلى الهدف الإنساني الأرقى ، هو جنان الله ورضوانه عبر فعل الخيرات . . وقد جاء في قوله سبحانه : ﴿ ... فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ... 5، وقوله سبحانه : ﴿ ... وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ 6 كما ورد في رواية مباركة عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه الصلاة والسلام قوله بهذا الصدد : " ألا وإن الدنيا أدبرت وآذنت بوداع ، وإن الآخرة أقبلت بطلاع . . ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق ، والسبقة الجنة " 7 .
إذن ؛ فالتنافس ينبغي أن يكون لغرض وصول الإنسان إلى أعلى الدرجات . . وهذه لعمري من أعظم سنن الله في الأرض ، ونتيجتها الطبيعية تحول المجتمع المتنافس في فعل الخير إلى مجتمع متطور ومتقدم لا يجاري في تطوره وتقدمه .
وأقول للشاب المسلم ؛ إن لك أن تتصور سنة التنافس المشار إليها ونتائجها المرجوة ، كما تتصور مصير لعبة كرة القدم إذا ما صادفت تنافساً متواصلاً بين الفرق الكروية ؛ تنافساً قائماً على أصول علمية وفنية وأخلاقية من شأنها ضمان حدوث التطور واستمراره .
كما لك ـ أيها الشاب المسلم ـ أن تتصور مجتمعاً من المجتمعات ينعدم فيه التنافس والتطلع ، كما لو تصورت مصير كرة القدم ـ أو أية لعبة ورياضة أخرى ـ في بلدٍ لا يسمح إلاّ لفريق كروي واحد بمزاولة اللعبة .
وقد تجد الفارق شاسعاً جداً حينما تلاحظ الانشداد العالمي حينما تعرض المباريات على الصعيد العالمي ، وذلك لوجود حالة التنافس على أعلى مستوياته وأتقنها فنياً وعلمياً . وهذا الانشداد من شأنه التضاؤل كلما هبطت نسبة وجود التنافس وأصوله .
وكذلك هو شأن الدول الشيوعية والاشتراكية التي جربت طريقة القضاء على سنة التنافس على أكثر من صعيد ، إذ كان كثير منها يصر على الإبقاء على مصنع واحد للسيارات ، ومصنع واحد للدراجات ، أو مؤسسة إعلامية واحدة ، أو حتى حزب سياسي واحد . . فكانت النتيجة أن تراجعت الصناعة والحرية واضمحل الفكر السياسي ، وهو ما عكس نتائج سلبية أخرى ، كان في مطلعها تكريس التخلف العلمي والديكتاتورية .
إن سنة التنافس في الأمور المادية هي نفسها سنة التنافس في الأمور المعنوية .
وإذا ما تناولنا فريضة الحج المقدسة وما تستوعب من آفاق التنافس في طياتها ، عرفنا بشكل جلي أن هذه الفريضة تختزل أصول التنافس الروحي والاجتماعي بأبهى وأروع أشكاله .
فالحج ليس إلاّ دعوة صريحة للتنافس في بقعة أو بقاع مقدسة ، حتى أن الله جل جلاله قد أوصى الحجاج بما لا مناص عنه بقوله الكريم : ﴿ ... وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ... 8. وهذا يعني أن على الإنسان القاصد لهذه الفريضة أن يفتح قريحته ويرقى بتطلعه نحو الاغتراف من منهل الخير هذا ، نظراً لأن كل نوع من أنواع المناسك المرسومة والمشرّعة في فريضة الحج لها أبعادها وآفاقها اللامتناهية فضلاً عن أصل فلسفتها ، والحكمة من وراء تشريعها ، وبالتالي فإن المرء لابد وأن يشعر ويتأكد أنه يقف أمام نعمة إلهية عظمى وفرصة تاريخية قد لا تعوض ، إذ أنه قد دعي دعوة ربانية من بين مليارات البشر ، ليتصل بمصدر الوحي في أرض الوحي .
فكان حرياً به أن يتنافس ويتنافس لنيل أعلى الدرجات من خلال ما تحمل مناسك الحج من قدرة على النهوض بمستوى الإنسان الحاج من الناحية الفكرية والروحية والاجتماعية ، ولا مبرر يمكنه رفعه في قبول الدرجة الدانية وهو قد تجشم ما تجشم من العناء وبذل من المال وعانى الغربة .
وعوداً على بدءٍ أؤكد أن معدن التنافس لابد أن نستخرجه من داخل أنفسنا ، حيث الاحتكاك بالآخرين والخروج من الفتنة والاختبار برأس مرفوع ، وربنا العزيز العليم يؤكد لنا قدرتنا على النجاح في الابتلاء والاختبار وذلك إذا ما اعترفنا ببعضنا البعض فيقول سبحانه : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... 9ولا شك أن مفردة " أكرم " تفيد التفضيل ، أي أن هناك من هو كريم ، وهناك من هو أكرم منه ، والآية المباركة تشير ـ كما تشير آيات قرآنية أخرى ـ إلى وجود حالة تسابق وتسارع إلى الخيرات ، وإلى أن الكريم هو التقي ، فضلاً عن أن الأكرم هو الأتقى .
أما كيفية الوصول إلى المستوى الأكرم والأتقى ؛ فتتم عبر حذف الجوانب السلبية من حالة التنافس ، والقضاء ما أمكن على الانتقاص من شخصية الطرف المقابل ، بل وأولى من ذلك أن يكون الجمع المؤمن كتلة واحدة ، دون الذي هو حادث ، حيث تتعدد الرؤوس وتتعدد صور التناقض .
إن الاعتراف بالآخرين يعني احترام حقوقهم وعدم السخرية والاستهزاء بهم ومصادرة حقوقهم ، لأن السخرية تنتهي إلى القضاء على أداة التنافس وهي شخصية الإنسان ، وإذا قضي على التنافس سيطرة الديكتاتورية على الأنانية والإبداع والتطور .
إن القرآن الكريم يزودنا بالخطوط العامة والقواعد الأساسية لأخلاقيات الحالة الاجتماعية السليمة الصالحة لخلق حالة التنافس وصيانتها عن الانحراف والانحدار إلى حالة التناوش والتشكيك وتحطيم الشخصيات ومصادرة الآراء .
ولعل من أهم تلك الأخلاقيات القرآنية الفرصة النورانية التي تتاح أمام المؤمنين خلال أداء فريضة الحج ، إذ يدخل المؤمنون دورة أخلاقية وثقافية مكثفة لكي ينشط في داخلهم عوامل وخصال الخير بمختلف أبعادها .
فالمؤمنون مأمورون بالامتناع عن الكذب والجدال والفسوق والأنانية والتظاهر والتكبر والغش والخداع ، وغير ذلك من المساوئ والرذائل التي من طبيعتها تحطيم الشخصية الاجتماعية والفردية على حدّ سواء ، حتى أن كثيراً من فقهائنا ومراجعنا الماضين ـ رحمهم الله ـ كانوا حينما يتحدثون عن الحج يؤكدوا قبل ذلك على الحديث عن مكارم الأخلاق ، إذ يخصصون له باباً أو فصلاً خاصاً به ، نظراً إلى أن فريضة الحج تؤَدي في حالة السفر ، ومعلوم أنّ من خصائص السفر الكشف عن الشخصية الكامنة لدى الإنسان وطبائعه الأخلاقية والنفسية .
ولا يأتي الحاج المسلم إلى مكة إلا ليرتفع ويسمو بأخلاقيات ويغير القسم الرديء من عاداته حتى يصل إلى درجة العبودية لله وحده لا شريك له 10 .

لمزيد من المعلومات يمكنكم مراجعة الروابط التالية: