الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الصحيفة السجادية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات ، و أفضل الصلوات على سيّد الكائنات محمّد الذي ختم برسالته النبوّات ، و على الأئمّة الأطهار السادات ، و على أصحابهم المؤمنين الأخيار و أتباعهم الأبرار مدى الدهور و الأعوام و الشهور و الأيّام و الساعات و الآنات ، و بعد :
فإنّ من عِبَر التاريخ أن نجتمع هذه الأيّام ، في هذه المدينة العريقة دمشق الشام ، محتفلين بأثر من الآثار الخالدة للإمام الهمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، زين العابدين عليه و على آبائه السلام ، لنتحدّث عن هَدْيه و معارفه من خلال هذا الكتاب العظيم : « الصحيفة السجّادية » .

و العبرة التي ذكرناها ، هي أنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وقف عام ( 61 ) للهجرة ، و في مثل هذه الفترة الزمنية ، بالذات ، و على منبر المسجد الجامع في نفس هذه المدينة «دمشق» و في إحتفال أقامه الحاكم يزيد بن معاوية ، بحضوره و المحتفلين الذين غمرتهم نشوة الإنتصار و السرور يجلب الأسرى من معركة « كربلاء » الدامية .
ففي مثل هذا الحفل المهيب ، إنطلق الإمام ، يهدر على المسامع بخطبته العصماء ، التي لم يزلْ فيها معرّفاً بنفسه قائلا : « أيّها الناس ، اُعطينا سِتّاً ، و فُضّلنا بسبع ، اُعطينا العلم ، و الحلم ، و السماحة ، و الفصاحة ، و الشجاعة ، و المحبّة في قلوب المؤمنين . و فُضّلنا بأنّ منّا النبيَّ المختار محمّداً ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، و منّا الصدّيقُ ، و منّا الطيّار ، و منّا أسدُ الله و أسدُ الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، و منّا سِبطا هذه الاُمّة و سيّدا شباب أهل الجنّة .
فمن عَرَفني فقد عَرَفني ، ومَن لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي : أنا ابن مكّة و منى ، أنا ابن زمزم و الصفا ، أنا ابن مَن حمل الركن 1 بأطراف الردا .
قال الحافظ الخوارزمي : ولم يزل يقول : « أنا ، أنا » حتّى ضجّ الناس بالبكاء و النحيب » 2 .
فتعرّف المحتفلون على شخص الإمام و شخصيته ، و كانت اُولى ثمرات ذلك الكلام أن تحوّلت الأفكار ، و تبدّلت سياسة الحاكم تجاه الأسرى ، فسرّحهم إلى موطنهم « مدينة جدّهم الرسول » .
و نحن اليوم محتفلون هنا ، في زمان و مكان ، نظير ذلك الحفل ، لنتعرّف على الإمام ( عليه السلام ) من خلال كلامه المرسوم على صفحات الصحيفة السجادية ، هذا الأثر العظيم الخالد ، علّنا نخرج متحوّلين في نظرتنا إلى الإمام ، فنعود عاقدين العزم على إعادة موقفنا من فقهه و تراثه ، و خصوص هذا الكتاب « الصحيفة السجّادية » و رواته العظماء الذين حملوه ، و الطائفة التي اعتنت به ، و احتضنته حتّى اليوم .
لِنَقِفَ على كنز من المعرفة ، طالما اُخُفِيَ! ولم تتمكّن الاُمّة الإسلامية الكريمة من الإستفادة التامّة من لآلئه .
و نشكر الله العزيز الجليل ، على هذه النعمة التي خصّ اُمّتنا بها بين الاُمم ، فجعل أهل البيت النبوي رحمةً لأوّل هذه الاُمّة و آخرها ، فالفضل في هذا الكنز يعود ـ بعد منشئه و مبدعه الإمام السجّاد زين العابدين ( عليه السلام ) ـ إلى الأئمّة العظام من أولاده الذين نقلوا هذه الصحيفة و راقبوا على تداولها ، و هما : الإمام محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أبو جعفر ، الباقر ( عليه السلام ) و الإمام زيد الشهيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، حيث أودعا ما أملاهُ أبوهما الإمام عليهما ، لدى أولادهما ، مؤكّدين على الحفاظ على النسخ ، مهتّمين بذلك غاية الإهتمام ، حَذَراً من وقوعها في أيدي عِداة العلم و الدين من الحكّام الطغاة الظالمين ، الذين يُحاولون إبقاء الاُمّة في الجهل ، و منعهم من التعرّف على المخلصين من العلماء الواعين ، إلى حدّ المنع من الكتابة و التدوين ، و المنع من نقل الحديث ، حتّى تعطيل مراكز العلم و الثقافة و هجر محاور الفقه و المعرفة ، بل قلبوا المدينة المشرفة المنوّرة من مرز الإشعاع الديني و الفكري ، و منطلق العلم و الجهاد ، لمركز للغناء والمجون والميوعة .
في مثل تلك الظروف الحرجة ، قام رواة هذا الكنز و حملته الاُمناء بحفظه وصيانته و جعله من « المظنون على غير أهله » و تداولته الصدور المطمئنّة و القلوب الآمنة و الأيدي الوثيقة ، حتّى بلغنا ـ و الحمد لله ربّ العالمين ـ بأوثق الطرق المتضافرة ، و تواترت نسخه الثمينة النفيسة ، و إنتشر نصّه المقدّس في عصرنا إنتشار النور ، و بلغ إلى أكثر الاُمم بترجمته إلى لُغاتهم ، فعلينا ، و نحن نعيش عصر الانترنيت ، و أساليب الإعلام السريعة و السهلة أن نُبادر إلى نشره و تعريفه إلى العالم بأفضل شكل ، ليكون دليلا آخر على عظمة الفكر الإسلامي ، و جدارته بالخلود ، و ليتروّى عالَمُ القرن الحادي و العشرين ، من معارفه العذبة الرويّة ، و ليتزوّد من ثماره اليانعة الغنيّة .
و ليكون تفنيداً للمزاعم الظالمة ، و التهم الباطلة ، التي تكيلها العلمانية و أنصارها ضدّ الإسلام و معارفه و تراثه و أحكامه في الإجتماع و الإقتصاد و الوجود و الكون .
إنّ إنشاء نصّ الصحيفة السجّادية في القرن الأوّل الهجري ، السادس الميلادي ، في مثل بيئة الإمام السجّاد ( عليه السلام ) بظروفه الخاصّة ، حيث كان متّهماً من قبل أجهزة الدولة ، لأنّه الوريث الوحيد لكلّ أمجاد أصحاب الرسالة من جدّه الرسول المصطفى ، و علي المرتضى و أبيه الشهيد في كربلاء .
و الظروف العامّة : حيث لا تزال الدولة تتولّى كِبْر منع الثقافة والتثقيف ، بمنع الكتابة و التدوين ، و منع الفقاهة و التحديث .
و المطاردة للإمام إلى حدّ المراقبة و الجلب و التقييد إلى عاصمة الحكّام ، و هذه المدينة « دمشق » الشام ، أكثر من مرّة .
فظهور هذا النصّ ، و بهذه القوّة في المحتوى و الأداء لهو من الميّزات التي يجعله في صدر قوائم الروائع البشرية الخالدة ، و هو من دواعي فخر المسلمين و إعتزازهم حيث يملكون مثله منذ ذلك التاريخ .
و لئن مرّت فتراتٌ مظلمة في تاريخ الاُمّة ، سوّدت صحائف منه ، فكتمت مثل هذه الذخائر ، و عتّمت على مثل هذه الأمجاد و المفاخر ، و تحكّمت الطائفية المقيتة في النفوس باعراضها و أحقادها ، و نشرت المخاوف ، بدل المعارف ، فمنعت من نشر هذا التراث العظيم ، الذي يشهد لعظمة المسلمين و مجدهم و علوّ كعبهم في الثقافة و الفكر قبل أربعة عشر قرناً .
فإنّ من مخلّفات تلك الظلمات هي المظالم التي يتولّى كِبْرها فئات مظلّلة ، مغفّلة ، تُثير الشبهة و الشكّ في وجه الحقّ و الحقيقة ، بما أدّى إلى جهل الجيل بهذا النصّ ، و إغفاله من قبل المهتمّين بالأدب و الفكر ، مع توجّههم إلى الأقلّ منه في القِدَم ، و ما لا يبلغ شأوه في العِظم ، من النصوص المرويّة عن مجهولي الهويّة ، و الشخصيّة ، من أصحاب الأهواء .

فلماذا مثل هذا ؟

أمّا هذه الرائعة ، فهي من لسان عربيّ صميم و أليق من إكتسى الأمجاد ، من خصّه الله بوحيه فبه فاه ، و بالبلاغة حلاّه ، و بمكارم الأخلاق حباه ، باعتباره الصادع بالشريعة الغرّاء ، و الواسطة بين الأرض و السماء ، و المطّلع على أسرار الخليقة ، و الواقف على المجاز و الحقيقة 3 .
من بني هاشم الذين قال فيهم عليٌّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « و إنّا لاُمراء الكلام ، و فينا تنشبّت عروقه ، و علينا تهدّلت غصونه» 4 .
و من ذريّة الرسول ، أفصح مَن نطق بالضاد حفيد علي بن أبي طالب «مشرع الفصاحة و موردها و منشؤ البلاغة و مولدها . . . لأنّ كلامه عليه مسحة من العلم الإلهي ، و فيه عبقة من الكلام النبويّ » 5 .
و قد سمعناه يقول في خطبته من على منبر الجامع بدِمَشْق :
« اُعطينا : السماحة و الفصاحة » و ها نحن نجدها بارزة متلالئة هنا .

شخصيّة الإمام

الإمام السجاد زين العابدين ( عليه السلام ) الذي احتلّ في الإسلام مقاماً عظيماً حتّى قال فيه الشافعيّ إمام المذهب : إنّه أفقه أهل البيت ، بل قال الزُهْريُّ : ما رأيت أحداً كان أفقهَ منه 6 و بعد إجماع المسلمين ، بكلّ فرقهم و طوائفهم ، على عظمة الإمام ، و إستحقاقه للمقام السامي الذي يحتله ، ليس لأحد المناقشة في ذلك :
فهو عند الإمامية الرابع من أئمّتهم المعصومين المنصوص عليهم ، و كذلك هو عند الشيعة الإسماعيلية ، و عند قدماء الشيعة الزيدية ، و هو عند متأخّريهم من دعاة الأئمّة ، و أمّا عند عامّة أهل السنّة ، فلم يخالف فيه أحدٌ منهم ، بل قال الذهبي ـ أكبر مؤرخّيهم ـ في ترجمة الإمام ما نصّه : السيّد الإمام ، زين العابدين ، و كان له جلالة عجيبة و حقّ له ذلك ، فقد كان أهلا للإمامة العُظمى : لشرفه و سؤدده ، و علمه ، و تألّهه ، و كمال عقله .
و قد عبّر الجاحظ عن هذا الإجماع ، إذ قال : علي بن الحسين لم أرَ الخارجيّ في أمره إلاّ كالشيعي ، ولم أرَ الشيعيّ إلاّ كالمعتزلي ، ولم أرَ المعتزليّ إلاّ كالعامي ، ولم أرَ العامي إلاّ كالخاصيّ ، ولم أرَ أحداً يتمارى في تفضيله ، و يشكّ في تقديمه 7 .

و أمّا التشكيك في سند هذا النصّ

فهو جهد العاجز ، و اللجوء إلى مثل هذا السلاح ذي الصدأ لا يمضي في مثل هذا النصّ ، لما يلي :
فأوّلا : إنّه يُروى عند طوائف الشيعة كلّها : الإمامية و الإسماعيلية و الزيدية ، بشكل مستفيض ، بل متواتر الطرق إلى الأئمّة الباقر و الصادق و إلى زيد الشهيد ( عليهم السلام ) ، بحيث لا يرتاب فيه أحد و تتعدّد الأسانيد ، و تتضخّم كلّما مرّ الزمان و بَعُدَ ، فتتأكّد النسبة و تتكاثف الأسانيد و تتعاضد الطرق ، بحيث قلّ نظيره في النصوص الاُخرى .
و قد أسند إليه أصحاب الفهارس و المشيخات و عدّوه من الكتب التي عليها المعوّل و إليها المرجع .
ثمّ استندوا إلى ما فيها من الأدعية التي تتلى بعنوان التعبّد في المناسبات و الأيّام و حكموا باستحباب تلاوته خصوص أدعيتها مع إطلاق النسبة إلى الإمام ، و هذا أمر لا يقومون به إلاّ بعد التأكّد و الإلتزام بصحّة النسبة .
لما هو مسلّم عندنا من ورعهم و إحتياطهم و تدقيقهم في مثل ذلك في أبواب الفقه .
و أمّا الطائفة السنّية : فلو لم تقنع بمثل ذلك ، و ليس من مناهجها العلمية رفضه ، بل قد يتذرّع أحد لدعوى عدم الثبوت عندها ، و عدم وصوله إليها بطرقها الخاصّة .
فالجواب : أنّها دعوى مخالفة للمسلّمات ، إذ المفروض ثبوت ذلك عند أهله و أصحابه ، و قطعيته بالنسبة إلى الواقفين عليه ، و من علم حجّة على من لم يعلم ، و من حفظ حجّة على من لم يحفظ ، خصوصاً فيما صدر في بيئة معيّنة فإنّ الملاك ثبوت الصادر عند أهل بيئته ، كالاُمور الحادثة في بلدة معيّنة ، فإنّ اللازم ثبوت حدوثها عند أهل البلدة ، و علمهم بها ، و شهادتهم عليها و ليس للآخرين إنكارها و نفيها ، بدعوى عدم ثبوتها عندهم و لو بُني على مثل هذه الدعوى ، و التزم بلزوم ثبوت كلّ شيء للإنسان بنفسه حتّى يقتنع به ، لما إستقرّ كثير عن الاُمور ، و لأضطربت المسلّمات ، و تعذّرت الحقائق ، و هذا أمر يدفعه الوجدان ، و ينكره كلّ إنسان ، فالعقلاء يعترفون بثبوت الاُمور المسلّمة عند أهلها ، والمقبولة عند ذوي شأنها ، كاُمور التاريخ وحوادثه ، و البلدان و شؤونها .
و ثانياً : إنّ الحاجة إلى السند ، إنّما هو من أجل جواز نسبة المرويّات إلى الشارع الكريم ، و هذا إنّما يختّص بالاُمور التعبّدية المأخوذة من الشارع ، و ليس كلّ أمر بحاجة إلى مثل ذلك ، فالإنشائيات ، التي هي طلبات ، و إظهار لمرادات نفسية ليست بحاجة إلى إسناد ، بل أمرها دائر بين الوجود و العدم ، لا الصدق و الكذب اللذين هما ثمرة الإستناد إلى الاسناد .
فالأمر الإنشائيى ، إمّا موجود و حقّ و ثابت ، أو معدوم و باطل و مفقود ، و لو نقل مثله ولم يمنع منه دليل عقلي أو عرفي و عادي ، فهو ممكن و لو وافقه العقل و الوجدان و الواقع ، مثل مضامين الصحيفة ، حيث تحتوي التوقّعات و الرغبات النابعة من نفس الداعي ، ولم يخل أحدٌ من السامعين و الناظرين من مثلها ، فليس بحاجة إلى الاسناد .
و ثالثاً : إنّ نسخ الصحيفة ، هي بالكثرة و الوفرة العظيمة و منها النسخ العريقة في القِدم ، و ينتهي بعضها إلى القرن الخامس و الرابع ، و المزدانة بشارات التعظيم و القداسة حيث اعتنى بكتابتها كبار الخطاطين ، و زخرفها الفنّانون بأجمل الزخارف ، و كلّ ذلك يدلّ على العناية الفائقة التي كان أصحابها يولونها لهذه الصحيفة ، كالتي يضعونها عند الكتب المقدّسة .
و إذا اتّفقت النسخ ـ كلّها ، بلا إستثناء ـ و أجمعت على نسبة النصّ إلى الإمام السجّاد زين العابدين ( عليه السلام ) قولا واحداً ، ولم يكن هناك ، و لا مورد واحد ، لا في داخل هذه النسخ كلّها ، و لا في خارجها ، بل و لا وقع في خَلَد أحد من الناس : إحتمال النسبة إلى غير الإمام !
أفلا يكون في هذا كلّه مقنع بصحّة النسبة إلى الإمام و عدم الريب فيها .
بينما الإسناد إنّما يؤثّر وجوده و يحتاج إلى المناقشة فيه ، فيما لو كان هناك ما يُعارض وجود الحديث ، و يخالفه و يدفعه !
و لو جمعنا هذه الاُمور بعضها إلى بعض ، و قنعنا بثبوتها ، طول القرون الأربعة عشر الماضية ، أفلا يكون وازعاً للخضوع لهذه الحقيقة .

و أخيراً

فلو ركّزنا على النصّ ، و نقده داخلياً ، فلم نجد فيه بعد قوّة الأداء و جماله الفنّي في مجال الأدب العربي ، و بعد رصانة المتن و المدلول و كماله المعنوي في مجال الفكر الإسلامي ، فلم نقف على ما يتطرّق إليه بخدشة في اللفظ أو المعنى !
أفهل تبقى حاجة إلى إثبات آخر ، بينما يكتفي في الإثبات بالأقل القليل من هذه الأدلّة .
و نحن في هذا المجال نستعرض أهميّة هذا النصّ العظيم من حيث الاُسلوب و الأداء ، و من الأهداف و المضمون ، حتّى تتبيّن مكاتبة الفنيّة و الفكرية ، و يثبُت بذلك إمتيازه الذي يفرض علينا تقديسه ، ثمّ نستعرض شهادات الخبراء في الأدب العربي الذين أذعنوا لهذا النصّ بالعظمة ، و تواضعوا أمامه بالخضوع و الإكبار ، و التمجيد .
و أخيراً : نستقصي الجهود المبذولة حول الصحيفة و الإنجازات العلمية ، و التراثيّة ، و الفنية التي قدّمها العلماء و المؤلّفون ، لتخليد هذه الرائعة الخالدة .

أوّلا ـ الأساليب

1 ـ اسلوب الإنشاء

لم تكن الصحيفة بصيغة الروايات و الأحاديث المنقولة ، حتّى تعترضه مداخلاتها و مضاعفاتها ، أو تخترقه مصنوعات أهل الحديث و السنّة من مصطلحات الإرسال و الإنقطاع ، و مفاعلات التحريف و التصحيف ، و النقل بالمعنى ، و ما إلى ذلك من إشكاليات أصبحت ذريعة في أيدي من يُحاول طمس الحقائق اليقينية ، و العقائد الحقّة ، بمثل تلك ، و لا زالت حقائق تُطمس على أيدي أهل الجرح و التعديل ، و المتصنّعين من المتشدّدين في هذه الاُمور .
فقد جعل الإمام السجّاد ( عليه السلام ) هذا النصّ بعيداً عن متناول ذلك كلّه ، لأنّه ليس إخباراً عن أحد ، و إنّما هو إنشاء ينبع من النفس ، و إخبار عن ما في قراراتها من تصوّرات و تطلّعات و رغبات و آمال ، و توقّعات و مخاوف و أطماع ، و مشاعر و أحاسيس ، صدرت عن الإمام باُسلوب المناشدة و المناجاة ، و الإستعطاء و الإستعطاف ، بحيث يستوقف السامعين و يستعبرهم ، و يحدوهم على التأمّل و التكرار و الإستعادة و الإصرار ، لأنّه إذا عرف صدور هذا من أفضل أهل العصر ، فلابد أنّ ذلك سيبعثه على التأمّل في القول و الكلام ، و لابدّ أن ينفتح أمامه و لو منفذ صغير من رَوح الله ، و تشعّ عليه خيوط من أشعّة الحقّ النافذة .

2 ـ اُسلوب الإستدراج

أن يبدأ الإنسان بنفسه في أيّ عمل يريد تحقيقه ، شيء مُثير في نفوس الآخرين و موح للواقعية و الجدّية و الإخلاص و الصدق .
فمن أساليب الإمام انّه يخاطب نفسه و يُحاسبها في دعائه ، و يحرّك الضمير و الوجدان فيجد الآخرون حديثاً خاصّاً بين الإمام ، و بين ربّه يناجيه و يخاطبه و يستدعيه و يستوهبه ، و تارةً اُخرى يكون الحديث بين الإمام و بين نفسه يعاتبها و يلومها و ينصحها ويستحثّها و يستبطؤها و يَعِدُها و يُوعِدُها ، و يتفنّن في توجيهها بالوعظ و الإرشاد و الترغيب و الترهيب .
و مثل هذا الكلام ليس للآخرين حقّ الإعتراض عليه ، بل و لا الإعراض عنه ، فضلا عن التدخّل فيه ، بل ـ كما قلنا ـ باعث على التأمّل و العبرة ، لأنّه صادر من شخصيّة هو القمّة في المعرفة و الإيمان ، و على أعلى المستويات في البلاغة والفصاحة ، وبلغة الحقيقة و الواقع ، الذي ينطبق على الجميع ، و يحسّه كلّ أحد من نفسه ووجدانه فلا يمكن إنكاره ، و المباهنة فيه ، فلا يجد السامع و القارىء من نفسه إلاّ الوفاق مع الإمام ، و القبول بما في الكلام بشكل تامٍّ .

3 ـ اُسلوب التعميم و الكتابة

لم يركّز الإمام في دعائه ـ إطلاقاً ـ على ذكر أسماء محدّدة ، ولم يتعرّض للأفراد و الأشخاص ، و لا للأقوام ، بمشخّصاتهم ، فلم يطرح عناوين خاصّة ، يجعل لكلامه مضموناً عامّاً و مطلقاً شاملا ، يعطيه قابلية التطبيق على أكبر من مساحة ضيّقة ، و قابلية الخلود و الإستمرارية و هو اُسلوب مهمّ لتخليد التأثير و الإستفادة من النصّ ، و عدم تحجيمه و تطويقه ، كما يُبعده عن الهجوم و الرفض و المعارضة من قبل المعنيّين بالكلام حكّاماً و محكومين .
فهو يذكر الظالمين ، بكلّ صفة و عمل ، ينطبق على ظلمة التاريخ كلّه ، من عاصره ، و من تقدّم أو تأخّر عن عصره ، من دون أن يُمكّن أحداً من محاسبته و اتّهامه ، بل قد يبعث الظالمَ على أن يتبرّأ من حساب الخطاب متوجّهاً إليه ، أو محاولته الإبتعاد عن توجيهه إليه بترك جرائمه .
كما يصف أئمّة العدل ، فيعمّ بما يشمله هو و من سبق أو لحقه من المعصومين ( عليهم السلام ) ، بكلّ وضوح ، و ينطبق عليهم الكلام بحذافيره ، من دون أن يُثير في الحكّام وحشةً أو تحسّساً ، بل قد يستشرف لدعوى أنّه المقصود أو يتطلّع إلى أن يكون هو المعنيّ بالذكر .
إنّ وضع الخطاب على أن يقف سامعه على كلّ الحقائق و بكلّ أبعادها ، و أن لا يمكن مؤاخذته من قبل أهل الباطل ، و أن يُفلتَ من اتّهامه بشيء ، أمر ملحوظ في أساليب الإمام بوضوح تامٍّ .

4 ـ نشر الأمل و الرجاء

يواجه القارىء و السامع لكلام الصحيفة ، محاولةً جادّة في نشر الأمل و الرجاء في الروح ، فبينما يؤكّد على المسؤولية ، يبعث الحياة لروح الأمل و الرغبة ، في سياق إحياء روح المراجعة و المراقبة و الرهبة .
و لا يدع لليأس من روح الله منفذاً ، و هو اُسلوب قرآني ناجع .

5 ـ التكرار بعبارات متعدّدة

و من الأساليب الفعّالة ، إستعمال التكرار للمعنى الواحد ، بأكثر من عبارة ، فيقلبه في صيغ متعاقبة ، على التوالي ، بمقياس معيّن و نسق موحّد ، محافظاً على الجرس و الوزن الواردين في الجملة الأصلية ، و هذا يركّز في الذهن صورةً ذات أبعاد ، لا يمكن أن يُفلت العقل من جميعها في فترة قصيرة ، و لا يتجاوزها الضمير و الوجدان بسهولة ، فلابدّ أن يبقى في اللا شعور منها ما يؤذي هدف الوصول إلى المنشود .

6 ـ الإلتفات

تنويع أساليب الكلام ، من الخطاب ، إلى الغيبة ، إلى الإستفهام ، إلى العتاب ، إلى الترغيب ، إلى الإستنكار ، إلى الرجاء ، و هكذا .
ممّا يرفع الملل ، و يتقلّب معه الفكر ، ممّا يمنع القارىء و السامع عن ؟؟؟ بل السبات ، و يكون كلّ تقليبة و تحويلة إيعازاً ، يشدّه إلى الدعاء ، و يوجّهه إلى المعاني بشكل أدقّ و أعمق . .

7 ـ المنطقيّة و التدريج

ترتيب المعاني ، و إيرادها في الخطاب بشكل منطقيّ ، و متدرّج عقليّاً ، و حسب الواقع ، من الصغريات إلى الكبريات ، و من الجزئيات ، إلى المشتركات الكليّة ، ثمّ منها إلى النتائج ، ممّا يجعل له أثراً في تثبيت النتائج في عقل الداعي ، و تركيزها و الوصول بها إلى الأهداف المقرّرة للدعاء .

8 ـ إستخدام الفنّ

إنّ البديع اللفظيّ ، بتزويق الكلام المنثور مسجعاً ، موزوناً ، يجعله بمنزلة الشعر في تأثير جرسه و رنينه من جهة صيانته ، حيث تبدو للعيان لمسات التعدّي عليه ، و تتبيّن آثار التحريف و التصحيف على صفحته ، فيتصدّى لها بكلّ يسر ، قبل أن يستفحل الخطر .
و من جهة ما يترك جمال الفنّ و موسيقاه في النفوس من إيحاء و أثر .
و قد ظهرت على صفحات الصحيفة أنواع كثيرة من أساليب البديع العربي الجميل ، مع المحافظة على جميع الأهداف المقصودة ، و الوفاء بجميع الأغراض المنشودة في كلّ مقطع و موضع .

ثانياً : الأهداف و الدلالات

لقد إستهدف الإمام ( عليه السلام ) في الصحيفة اُموراً عديدة مهمّة ، و أغراضاً بعيدة عديدة ، في ما تنوّع من أدعية الصحيفة ، بمناسباتها الزمانية و ظروفها المكانية ، و الحوادث ، و الأشخاص ، و الموجودات المختلفة التي كانت محوراً لكلامه ; بدءاً بالخالق جلّ جلاله ، و مروراً بالملائكة و الإنس ، و الجنّ ، و الشيطان ، و ختاماً بالحشر و المعاد و القيامة و الجنّة و نعيمها الخالد ، و ما يوازي كلا من ذلك ، أو يقارنه أو يسبقه أو يلحقه من شؤون 8 .
و قد أعددنا في عملنا هذا ، فهرساً جامعاً على المواضيع التي دخلت في الصحيفة ، و كان في كلام الإمام ( عليه السلام ) ذكرٌ أو إشارة إليه ، كما ركّزنا في شرحنا الموضوع على الهوامش ، على إبراز ما توصّلنا إليه من هذه الموضوعات ، و بلورته حسب المستطاع بعون الله تعالى .

و نلخّص هنا ، العناوين العامّة للأغراض تلك

إنّ الصحيفة قد أرسلها علماء الإمامية إرسال المسلّمات ، ؟؟؟ ، أو بعض ما فيها من الأدعية ، إلى الإمام السجّاد ( عليه السلام ) بلا مناقشة في النسبة أو السند . فذكرها المفيد في الإرشاد وذكرها الطوسي في الفهرست ، و المصباح و ذكرها النجاشي في الرجال و ذكرها الخزاز في كفاية الأثر و ذكرها ابن شهر آشوب في مقدّمة معالم العلماء و في ترجمة رواية عمير بن المتوكّل .

الصحيفة السجّادية / ترجمة هندية

السيف اليماني ترجمة الصحيفة السجادية إلى الاُردو للسيّد محمّد هارون الهندي ( 1292 ـ 1339 ) الحسيني الزنگي پوري
ترجمة الصحيفة السجّادية إلى الانكليزية ترجمة البورفسور وليام چيتيك المولود 1943م هو اُستاد جامعة ولاية نيويورك ـ امريكا 9
البلغاء و الصحيفة / شهادات
قال ابن شهر آشوب : و ذكر عند بليغ في البصرة ، فصاحة الصحيفة الكاملة ، فقال : « خذوا عنّي حتّى اُملي عليكم » و أخذ القلم ، و أطرق ، فما رفع رأسه حتّى مات ! 10

الشهادات الصحيفة عند الناقدين

قال الدكتور الشيخ محمّد حسين علي الصغير ـ اُستاذ في الدراسات القرآنية و البلاغية و النقدية في جامعة الكوفة ـ النجف الأشرف : و الحديث إلى القلب ينبع من القلب و دعاء الإمام بإيحاءاته كافّة ينطلق من الأعماق فهو يخترق كلّ الأعماق ليستقرّ بها معلماً شاخصاً هادفاً يهدي سواء السبيل .
ليس في هذا الحديث مبالغة الرواة ، و لا عنت الكتّاب ، و لا مساومة التاريخ ، بل فيه الصورة الناطقة المعبّرة عن حقائق الأشياء دون تزيّد على الواقع الصحيح ، و لا ؟؟؟ على الحقيقة الحرّة ، بل هو الروح الخالص المستنبط من واقع الأحداث 11 12 .

  • 1. كذا نقله البهائي في الكامل ، و في مقتل الخوارزمي « الزكاة » بدل « الركن » .
  • 2. مقتل الحسين ( عليه السلام ) للخوارزمي : ( 2 / 69 ـ 71 ) و لاحظ جهاد الإمام السجاد ( ص 54 ) .
  • 3. من مقالنا أدب الدعاء في الإسلام ( ص 26 ) .
  • 4. نهج البلاغة الخطبة ( 233 ) .
  • 5. من كلام الرضي الشريف في مقدّمة نهج البلاغة ( ص34 ) .
  • 6. لاحظ جهاد الإمام السجّاد ( عليه السلام ) ( ص114 ) .
  • 7. لاحظ جهاد الإمام السجّاد ( عليه السلام ) ( ص34 ـ 35 ) .
  • 8. شرح الصحيفة السجّادية في مجلّدين للشيخ حسن بن عبّاس بن محمّد علي البلاغي ماضي النجف و حاضرها : 2 / 68 .
  • 9. بژوهشگران عدد 11 بهمن و اسفند 1372 ش ص 19 مقاله مفهوم وحدت وجود و تطوّر آن .
  • 10. مناقب آل أبي طالب ( عليه السلام ) 2 / 241 .
  • 11. الإمام زين العابدين ص 92 .
  • 12. مجلّة البلاغ الكاظمية السنة الاُولى العدد ( 6 ) علم الحديث 2 / مقدّمتان

تعليقتان

صورة شاكر

تناقض الادعية مع العصمة

Question الصحيفة السجادية...امر محير

بسم الله الرحمن الرحيم

لطالما اتخذ الشيعة من ادعية ومناجاة الصحيفة السجادية المنسوبة للامام الجليل زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما وارضاهما كتابا لا يفارقهم في حلهم وترحالهم بل يقدمونها على القران الكريم ولا يجاريها في الفضل عندهم الا نهج البلاغة للامام علي رضي الله عنه للشريف الرضي.

ورغم ان القارئ العاقل الفطن للصحيفة يكتشف انها غير متوازنة اي فيها الشيئ ونقيضه اي فيها ما هو صحيح نسبته الى زين العابدين وما هو دخيل عليها من وضع الروافض الا انني سافترض مثلا صحة الصحيفة كاملة. فمعظم الادعية في الصحيفة للامام وغيره هي قمة في التوحيد والتذلل امام الله تعالى واخلاص العبودية له ونفي العصمة والاقرار بالذنب والمعاصي ورجاء التوبة وهي رقيقة الاسلوب عذبة المعاني تؤكد ان قائلها ما هو الا عبد خاضع لربه يطلب حاجته مستكينا ويرجو عفوه ورحمته.

الى الان متفقين...

المحير ان الشيعة يؤمنون ان كاتب وقائل هذه المناجاة والادعية هو امام معصوم عن الزلل يعلم الغيب ويسير الكون ويعطي الحاجات و و و الخ...

بالتالي انا كانسان بسيط سوف اتساؤل لما لم يدعوا الامام السجاد نفسه لماذا يصرخ في ادعيته يا الله يا ربي يا موؤلي يا خالقي لما لم يقل يا انا يا نفسي يا ابي يا جدي يا حفيدي المهدي اوليس هذا ينسف شرك الشيعة وندائهم غير الله ولجوءهم الى الائمة ...

لماذا يقر الامام بالخطا و يطلب الغفران ويرجو الرحمة ان كان معصوما او ليس ذلك نسفا للعصمة والامامة.

لماذا يصرح السجاد بخوفه من العقاب وعدم معرفته بجزاءه ولما كان يطلب الجنة ويستعيذ من النار او ليس هذا ينسف الامامة التكوينية...

الجواب بسيط هو ان السجاد رضي الله عنه كان سيد العابدين في عصره واعظم الزهاد عن الدنيا علم ان نسبه لا يغني عنه شيئا فعمل للجنة وطلبا للرحمة و النجاة من النار وهو يوم القيامة هو واباؤه وابناؤه رضي الله عنهم اجمعين سيقفون امام الله عز شانه ويقولون له مشيرين للشيعة اللهم ان هؤلاء القوم عبدونا من دونك وطلبوا منا حاجاتهم ولم يطلبوا منك وغلو فينا وقالوا عنا ما لم ينزل به الله من سلطان فانتقم اللهم منهم فانا اهل بيت نبيك عبادك وبنو عبيدك وامائك نواصينا بيدك ولا نملك من ضر ولا نفع لانفسنا ولا نرجوا الا رحمتك. ننتظر اجابة

صورة العلاقات العامة (PR Islam4u)

استغفار الإمام وعلمه للغيب و التوسل به

بسم الله الرحمن الرحیم
السلام علیکم ورحمة الله و برکاته
• أما بعد فإن قولك إن معظم الادعية في الصحيفة للامام وغيرها تؤكد ان قائلها ما هو الا عبد خاضع لربه يطلب حاجته مستكينا ويرجو عفوه ورحمته .. فاعلم أن الإستغفار لا يدل على وقوع الذنب  إن الله تعالى يقول لنبيه « صلى الله عليه وآله » : ﴿ ... إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ .وقال سبحانه : ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... ﴾ .وقال تعالى : ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ... ﴾ .
لمزيد من المعلومات يمكنكم الرجوع إلى الرابط التالي :
علي يدعو بالمغفرة من السهو ، فأين العصمة ؟!

• و قولك  إن الشيعة يعتقدون أن الامام المعصوم عن الزلل يعلم الغيب ويسير الكون ويعطي الحاجات ..
لمزيد من المعلومات يمكنكم الرجوع إلى الروابط التالية :
يعتقد الشيعة ان ائمتهم يعلمون الغيب فلو صح ذلك الا يعد شرب الامام للسم نوعا من الانتحار ؟
قيمة التوسل؟

دمتم موفقين