حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
الفقيه الخوئي و تجديده العلمي
كثيرون أولئك العلماء الذي انتظمتهم مسيرة الفكر ، و لكن قليلون منهم الذين تركوا بصماتهم على صفحاته تغييرًا و تطويرًا .
و من هؤلاء القلّة كان أستاذنا المغفور له الفقيه الخوئي .
تربّع العلاّمة المرحوم على كرسي الدرس في النجف الأشرف مدة تزيد على نصف قرن ، حاضر في التفسير ، و في الفقه ، و في أصول الفقه .
و اتخذ من بيته صومعة علم ، يخلو فيها للكتاب و القلم ، يؤلف في العلم ، و يتفرغ لثلة من طلبته المقرّبين إليه ، يراجع ما يدوّنونه من محاضراته في الفقه و أصوله ، و ما يكتبونه من بحوث رأوا ضرورة الكتابة فيها ، أو رغبوا في الكتابة فيها ، و لآخرين بلغوا مرتبة الاجتهاد يعقد لهم ما يعرف في عرف الحوزات العلمية بـ " مجلس الفتوى " ، يترأسه و يديره حوارًا و نقاشًا ، و في الانتهاء إلى النتيجة الحاسمة ، ليعمّق و يوسّع من خلاله قدرة هؤلاء الحضور على " الاستنباط " في مجاليه استقراءً و استنتاجًا .
و مجلس الفتوى من الظواهر التربوية التي لم يقدّر لها أن درست أو كتب عنها ، غير أننا سنتبيّن فحواها من هذا العرض لمجلس فتوى أستاذنا السيد الخوئي ( طاب ثراه ) .
كان رحمه الله يعقد هذا المجلس في بيته ليلاً ، و يحضره عدد قليل قد لا يتجاوز الآحاد .
و كان يدير الحوار و النقاش فيه حول فتاوى الفقيه السيد أبي الحسن الأصفهاني من خلال كتابه " وسيلة النجاة " ، يقرأ المسألة ، و يترك للحاضرين طرح ما يرونه يصلح دليلاً للمسألة ، ثم يعالجون الدليل تحليلاً و نقدًا ، و بعد أن يفرغ كل منهم من طروحاته ، و ينتهي الجميع ، يبدي ملحوظاته و ملاحظاته على كل ما دار في المجلس ، ثم يقول القولة الفاصلة في المسألة .
و مجلس الفتوى هو المرحلة الخاصة في الدرس الفقهي ، يستهدف منه أن يقوم المجتهد بالممارسة الفعلية و التطبيق العملي للاجتهاد بإشراف مجتهد ذي مرتبة أعلى ، أفادها من ممارساته الفنية و تجاربه العملية في تطبيقاته الاجتهادية .
و من هنا يبين الجانب التربوي المهم في هذه الظاهرة .
و إلى جانب مجلس الفتوى المشار إليه في أعلاه كان يحاضر في الفقه بمسجده الذي كان يقيم فيه صلاة الجماعة ، و المعروف بـ " مسجد الخضراء " ، صباحًا بعد الشروق بساعة ، و يحضره العدد الكبير من الطلاب الذين يعدون بالمئات .
و يطلق على هذا النوع من الدرس في لغة الحوزة العلمية ـ البحث الخارج ـ ، لأن الأستاذ المحاضر يرقى فيه إلى مستوى البحث العلمي بكل متطلبات الاستدلال ، و يلقيه خارج عبارة الكتاب بما يختلف فيه و درس المقدمات و السطوح .
و ابتدأ العلاّمة الخوئي درسه هذا من خلال كتاب " المكاسب " للشيخ الأنصاري ، يتخذ منه مثارًا للبحث و مدارًا للدرس .
و بعد أن انتهى منه اتخذ من كتاب " العروة الوثقى " للسيد اليزدي محور البحث و الدرس .
حضرت درسه الشريف منذ بدئه بالكتاب الأخير ، فرأيته ذا قدرة بيانية متفوّقة لأنه كان يمتلك وسائل التعبير العربي الفصيح دونما تكلّف أو تردد ، و ذا قدرة وافية في العرض ، حيث كان يلم بموضوع البحث بجميع عناصره و أبعاده ، و يسلسله مرتبًا ترتيبًا عضويًا ، و هذا بدوره ينبئ عن تضلعه و تعمّقه في الإحاطة بمادة الدرس .
و بعد أن يوضح الموضوع ، و يحرر المسألة ـ كما يقال في لغة الفقهاء ـ يذكر الأدلة ، يحلل و يعلل ، و يوازن و يقارن ، و يناقش و يحاكم ، منتهيًا إلى ما يراه أو يختاره من دليل في هدي ما يسلمه إليه البحث .
و كان في كل هذا يتحرّك داخل إطار المسألة ، فلا يستطرد إلا إذا دعته طبيعة البحث إلى ذلك ، فيخرج و لكن بالقدر الذي يستجيب فيه لمقتضى البحث .
و ميزته الذهنية ـ هنا ـ أنه كان دقيق النظر يستهدف النكتة العلمية فيصطادها ، و بمهارة .
و أتذكر من هذا : أنه استعرض ـ مرة ـ مسألة من مسائل كتاب الطهارة ، فعرض روايات القولين في المسألة ، و ذكر اختيارات الفقهاء فيها بترجيح إحدى مجموعتي الروايات على الأخرى استظهارًا ، بينما القضية في واقع ما عرضه ( رحمه الله ) تعطي تكافؤاً واضحاً بين مجموعتي الروايات ، و هنا طرح نكتته العلمية في المسألة بحكومة رواية من روايات إحدى المجموعتين على الأخرى بما يرجحها علمياً على رصيفتها .
و أتذكّر هنا ـ أيضًا ـ أن بعض الفقهاء القائلين بخلاف رأيه تأثروا بما تنبه له و عدلوا عن رأيهم إلى رأيه .
و من خلال تتبعي للمسألة رأيت أن جميع الذين بحثوا المسألة من بعده تبنوا دليله و اختاروا رأيه ، لهذه اللمحة العلمية الفنية التي ذكرتها .
و هذه الميزة الذهنية لا توجد إلاّ عند القليل من العلماء .
و بهذه و أمثالها شق ( أعلى الله مقامه ) طريقه في تاريخ الفقه الإسلامي ليكون اسمه قرين الأرقام الأولى في القائمة .
و في أصول الفقه تتلمذ على أقطاب المدارس الأصولية الثلاث المتعاصرة : الشيخ العراقي و الشيخ الأصفهاني و الميرزا النائيني .
و كان لكل واحدة من هذه المدارس الثلاث منهجها الخاص بها ، و منطلقاتها في إعطاء النظريات و الفقه .
فقد عرفت مدرسة الأصفهاني بطابعها الفلسفي ، و يعود هذا إلى أن مؤسسها الأصفهاني كان ـ مضافًا إلى تخصصه في الفقه و أصوله ـ حكيمًا متألهًا ، هيمنت الفلسفة الإلهية بأبعادها الثقافية المعروفة على آفاقه الذهنية و منطلقات تفكيره .
و عرفت مدرسة العراقي بطابعها العلمي الذي نأى بها عن إخضاع الظواهر العلمية لمبادئ الفلسفة و نظرياتها ، و ذلك للفرق بين العلم و الفلسفة ، و أصول الفقه ـ كما هو واضح ـ علم لا فلسفة .
و كانت مدرسة النائيني تجمع بين الطابعين الفلسفي و العلمي .
و بمقتضى نضج المنهج طرحت هذه المدارس الثلاث المتعاصرة ، كثيرًا من الفكر الأصولي القديم ، و أضافت كثيرًا من الفكر الأصولي الحديث .
و لأن أستاذنا الخوئي كان من أوعى الطلاّب الذين حضروا منابر هؤلاء الأقطاب الثلاثة صبت كلها في محيطه العلمي صبًّا حيًّا حيث استوعبها منهجًا و مادّة ، ثم و من على منبره للدرس الأصولي جمع بينها في مقارنة علمية واعية و منتجة ، كونت له مدرسة أصولية خاصة به ربّع بها مدارس أساتذته المشار إليهم .
فكانت آراؤه الأصولية تذكر في الدراسات الأصولية إلى جانب آراء أساتذته ، و لعمق أبعاد مدرسته علميًا وقف عندها ـ حتى الآن ـ تطوّر أصول الفقه من ناحية علمية ، فلم يقدر لي أن رأيت من جدّد من تلامذته في أصول الفقه علميًا بالشكل الذي يعد معه صاحب مدرسة .
و في علم الرجال ألف موسوعته القيمة " معجم رجال الحديث " التي انفرد فيها بتحديد مركز الراوي في السلسلة السندية عمن يروي هو عنهم و عمن هم يروون عنه فحل بهذا مشكلة معقدة ، و يسر أمام الباحثين مؤنة المراجعة و البحث ، و أعاد به لعلم الرجال قيمته العلمية و أهميته تعلمًا و تعليمًا .
و في المدخل إلى التفسير كانت له آراء كشف فيها عن جوانب مهمة في منطلقات التفسير و مناهجه .
هذا كله إلى قيامه لأكثر من عشرين عامًا بأعباء المرجعية الدينية من الإفتاء و إدارة شؤون الحوزات العلمية في النجف و خارجها ، و مؤسساته الخيرية في البلدان النائية عن النجف في ظروف سياسية عصيبة أثقلته بالهموم و المتاعب حتى الرمق الأخير من حياته الشريفة .
و ختامًا إخال أن ما ذكرته فيه الكفاية لأن يعطي الصورة الواضحة عن تجديد هذا العالم العَلَم ، و لأن يدعو الدارسين و الباحثين حوزويين و جامعيين إلى الكتابة في معطيات هذه الشخصية العلمية الفذة .
تغمّد الله أستاذنا العظيم بواسع رضوانه و جزاه عن العلم و أهله أفضل ما يجزي به العلماء العاملين .
تعليق واحد
ثناء وشكر
أضافه taha khder في
ليس لي ان اصل مستوى الثناء على ماقدمته فهو ثناء
الشرح النفصيلي العميق ولوكان شبه مختصروهذا الجضوريسجل في صفحة ثواب اعمالك ان شاء الله
الف شكر والشكر على نعمة العلماء وطلابهم الاوفياء
وتغمد الله ارواح الماظين ..الجنة ..وشكر