مجموع الأصوات: 20
نشر قبل 6 أشهر
القراءات: 1415

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

النفس وأسماؤها وقواها الأربع

ما عرفت من تجرد النفس إنما هو التجرد في الذات دون الفعل لافتقارها فعلا إلى الجسم والآلة، فحدها أنها جوهر ملكوتي يستخدم البدن في حاجاته، وهو حقيقة الإنسان وذاته، والأعضاء والقوى آلاته التي يتوقف فعله عليها، وله أسماء مختلفة بحسب اختلاف الاعتبارات، فيسمى (روحا) لتوقف حياة البدن عليه و (عقلا) لإدراكه المعقولات و (قلبا) لتقلبه في الخواطر، وقد تستعمل هذه الألفاظ في معان أخرى تعرف بالقرائن.
وله قوى أربع: قوة عقلية ملكية، وقوة غضبية سبعية، وقوة شهوية بهيمية، وقوة وهمية شيطانية. و (الأولى) شأنها إدراك حقائق الأمور، والتمييز بين الخيرات والشرور، والأمر بالأفعال الجميلة، والنهي عن الصفات الذميمة و (الثانية) موجبة لصدور أفعال السباع من الغضب والبغضاء، والتوثب على الناس بأنواع الأذى. و (الثالثة) لا يصدر عنها إلا أفعال البهائم من عبودية البهائم من عبودية الفرج والبطن، والحرص على الجماع والأكل. و (الرابعة) شأنها استنباط وجوه المكر والحيل، والتوصل إلى الأغراض بالتلبيس والخدع.
والقائدة في وجود القوة الشهوية بقاء البدن الذي هو آلة تحصيل كمال النفس. وفي وجود الغضبية أن يكسر سورة الشهوية والشيطانية، ويقهرها عند انغمارهما في الخداع والشهوات، وإصرارهما عليهما، لأنهما لتمردهما لا تطيعان العاقلة بسهولة، بخلاف الغضبية فإنهما تطيعانها وتتأدبان بتأديبها بسهولة.

ولذا قال أفلاطون في صفة السبعية والبهيمية: " أما هذه أي السبعية فهي بمنزلة الذهب في اللين والانعطاف، وأما تلك أي البهيمية فهي بمنزلة الحديد في الكثافة والامتناع " وقال أيضا: " ما أصعب أن يصير الخائض في الشهوات فاضلا، فمن لا تطيعه الواهمية والشهوية في إيثار الوسط فليستعن بالقوة الغضبية المهيجة للغيرة، والحمية حتى يقهرهما " فلو لم يمتثلا مع الاستعانة فإن لم تحصل له ندامة بعد ارتكاب مقتضاهما دل على غلبتهما على العاقلة ومقهوريتها عنهما، وحينئذ لا يرجى صلاحه، وإلا فالإصلاح ممكن فليجتهد فيه ولا ييأس من روح الله، فإن سبل الخيرات مفتوحة، وأبواب الرحمة الإلهية غير مسدودة.
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ... 1.
والفائدة في القوة الوهمية إدراك المعاني الجزئية، واستنباط الحيل والدقائق التي يتوصل بها إلى المقاصد الصحيحة.
وبيان ذلك أن الواهمة والخيال والمتخيلة ثلاث قوى متباينة، ومباينة للقوى الثلاث الأول، وشأن الأولى إدراك المعاني الجزئية، وشأن الثانية إدراك الصور، وشأن الثالثة التركيب والتفصيل بينهما. وكل من مدركاتها إما مطابق للواقع، أو مخترع من عند أنفسها من غير تحقق له في نفس الأمر أيضا، وأما من مقتضيات العقل والشريعة، ومن الوسائل إلى المقاصد الصحيحة، أو من دواعي الشيطان وما يقتضيه الغضب والشهوة، وعلى الأول يكون وجودها خيرا وكمالا، وإن كان وجودها على الثاني شرا وفسادا. والحال في جميع القوى كذلك.
هذا وقيل: ما ورد في القرآن من النفس المطمئنة واللوامة والأمارة بالسوء، إشارة إلى القوى الثلاث أعني العاقلة والسبعية والبهيمية.
والحق أنها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاث الأخر، وصارت منقادة لها مقهورة منها، وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سميت " مطمئنة "، لسكونها حينئذ تحت الأوامر والنواهي، وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها، وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع، وكلما صارت مغلوبة عنها بارتكاب المعاصي حصلت للنفس لوم وندامة سميت " لوامة ". وإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت " أمارة بالسوء " لأنه لما اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة، فكأنما هي الآمرة بالسوء.
ثم مثل اجتماع هذه القوى في الإنسان كمثل اجتماع ملك، أو حكيم وكلب وخنزير وشيطان في مربط واحد. وكان بينها منازعة، وأيها صار غالبا كان الحكم له، ولم يظهر من الأفعال والصفات إلا ما تقتضيه جبلته، فكان إهاب الإنسان وعاء اجتمع فيه هذه الأربع، فالملك أو الحكيم هو القوة العاقلة، والكلب هو القوة الغضبية، فإن الكلب ليس كلبا ومذموما للونه وصورته بل لروح معنى الكلبية والسبعية أعني الضراوة والتكلب على الناس بالعقر والجرح. والقوة الغضبية موجبة لذلك، فمن غلب فيه هذه القوة هو الكلب حقيقة، وإن أطلق عليه اسم الإنسان مجازا. والخنزير هو القوة الشهوية، والشيطان هو القوة الوهمية، والتقريب فيها كما ذكر، والنفس لا تزال محل تنازع هذه القوى وتدافعها إلى أن يغلب إحداها، فالغضبية تدعوه إلى الظلم والإيذاء، والبغضاء، والبهيمية تدعوه إلى المنكر والفواحش، والحرص على المآكل والمناكح، والشيطانية تهيج غضب السبعية وشهوة البهيمية، وتزيد 2 فعلهما. وتغري إحداهما بالأخرى، والعقل شأنه أن يدفع غيظ السبعية بتسليط الشهوية عليها، ويكسر سورة الشهوية بتسليط السبعية عليها، ويرد كيد الشيطان ومكره بالكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة، ونورانيته الباهرة، فإن غلب على الكل بجعلها مقهورة تحت سياسته غير مقدمة على فعل إلا بإشارته جرى الكل على المنهج الوسط، وظهر العدل في مملكة البدن، وإن لم يغلب عليها وعجز عن قهرها قهروه واستخدموه فلا يزال الكلب في العقر والإيذاء، والخنزير في المنكر والفحشاء، والشيطان في استنباط الحيل، وتدقيق الفكر في وجوه المكر والخدع، ليرضى الكلب ويشبع الخنزير، فلا يزال في عبادة كلب عقور، أو خنزير هلوع أو شيطان عنود، فتدركه الهلاكة الأبدية، والشقاوة السرمدية إن لم تغثه العناية الإلهية، والرحمة الأزلية.
وقد يمثل اجتماع هذه القوى في الإنسان براكب بهيمة طالب للصيد يكون معه كلب وعين من قطاع الطريق، فالراكب هو العقل، والبهيمة هي الشهوة، والكلب هو الغضب، والعين هو القوة الوهمية التي هي من جواسيس الشيطان، فإن كان الكل تحت سياسة الراكب فعل ما يصلح للكل ونال ما بصدده، وإن كانت الغلبة والحكم للبهيمة أو الكلب لهلك الراكب بذهابه معهما فيما لا يصلح له من التلال والوهاد، واقتحامه في موارد الهلكات وإن كان الكل تحت نهي العين وأمره، وافتتنوا بخدعه ومكره لأضلهم بتلبيسه عن سواء السبيل حتى يوصلهم إلى أيدي السارقين.
وكذلك لو كانت القوى بأسرها تحت إشارة العقل وقهرها وغلب عليها وقعت لانقيادها له المسالمة والممازجة بين أكل، وصار الجميع كالواحد، لأن المؤثر والمدبر حينئذ ليس إلا قوة واحدة تستعمل كلا منها في المواضع اللائقة والأوقات المناسبة، فيصدر عن كل منها ما خلق لأجله، على ما ينبغي من القدر والوقت والكيفية، فتصلح النفس وقواها. ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾ 3.
ولو لم يغلب العقل حصل التدافع والتجاذب بينه وبين سائر القوى، ويتزايد ذلك إلى أن يؤدي إلى انحلال الآلة والقوة لو يصير العقل مغلوبا فتهلك النفس وقواها. ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ 4.
(تتميم) لما تبين أن للنفس أربع قوى متخالفة، ولها قوى أخر أيضا كما تبين في العلم الطبيعي، فبحسب غلبة بعض هذه القوى على بعض يحصل في النفس اختلاف عظيم، والاختلاف في النفوس إنما هو باختلاف صفاتها الحاصلة من غلبة بعض قواها المتخالفة. إذ هي في بدو فطرتها خالية عن جميع الأخلاق والملكات، وليس لها فعلية، بل هي محض القوة، ولذا ليس لها قوام بذاتها وإنما تتقوم بالبدن، ثم بتوسط قواها تكتسب العلوم والأخلاق وترتسم بالصور والأعمال إلى أن تتقوم بها، وتصل إلى ما خلقت لأجله.
ولما كانت قواها متخالفة متنازعة فما لم يغلب إحداها لم تدخل النفس في عالمه 5 الذي تخصه فلا تزال من تنازعها معركة للآثار المختلفة والأحكام المتباينة إلى أن يغلب إحداها فتظهر في النفس آثاره ويدخل في عالمه الخاص.
ولما كانت القوة العاقلة من سنخ الملائكة، والواهمة من حزب الأبالسة والغضبية من أفق السباع، والشهوية من عالم البهائم، فبحسب غلبة واحدة منها تكون النفس إما ملكا أو شيطانا أو كليا أو خنزيرا، فلو كانت الغلبة والسلطنة لقهرمان العقل ظهر في مملكة النفس أحكامه وآثاره، وانتظمت أحوالها، ولو كانت لغيره من القوى ظهر فيها آثاره فتهلك النفس ويختل معاشها ومعادها.
ثم المنشأ للتنازع والتجرد والبقاء في نفس الإنسانية إنما هو قوتها العقلية لأن التدافع إنما بينها وبين سائر القوى، فليس في نفوس سائر الحيوانات لفقدانها العاقلة تنازع وتجادب وإن اختلفت في غلبة ما فيها من القوى، فإن الغلبة في الشياطين للواهمة، وفي السباع للغضب، وأما الملائكة فتنحصر قوتها بالعاقلة فليس فيها سائر القوى فلا يتحقق فيها تدافع وتنازع.
فالجامع لعوالم الكل هو الإنسان وهو المخصوص من بين المخلوقات بالصفات المتقابلة، ولذلك صار مظهرا للأسماء المتقابلة الإلهية، وقابلا للخلافة الربانية وقائما بعمارة عالمي الصورة والمعنى.
والملائكة وإن كانوا مخصوصين بالجنة الروحانية ولوازمها من الإشراقات العلمية، وتوابعها من اللذات العقلية، إلا أنه ليس لهم جهة جسمانية ولوازمها والأجسام الفلكية وإن كانت لها نفوس ناطقة على قواعد الحكمة إلا أنها خالية عن الطبائع المختلفة، والكيفيات المتباينة، وليس لها سير في المدارج المتخالفة، والمراتب المتفاوتة، ولا تقلب في أطوار النقص والكمال، ولا تحول في جميع التقاليب والأحوال، بخلاف الإنسان فإنه محيط بجميع المراتب المختلفة، وسائر في الأطوار المتباينة من الجمادية والنباتية والحيوانية والملكية، وله الترقي عن جميع تلك المراتب بأن تتحقق له مرتبة مشاهدة الوحدة الصرفة فيتجاوز عن أفق الملائكة، فهو النسخة الجامعة لحقائق الملك والملكوت، والمعجون المركب من عالمي الأمر والخلق، قال أمير المؤمنين (ع) " إن الله خص الملك بالعقل دون الشهوة والغضب، وخص الحيوانات بهما دونه وشرف الإنسان بإعطاء الجميع، فإن انقادت شهوته وغضبه لعقله صار أفضل من الملائكة لوصوله إلى هذه المرتبة مع وجود المنازع والملائكة ليس لهم مزاحم ".

وصل

قد ظهر بما ذكر أن الإنسان ذو جنبة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة والملائكة القادسة، وذو جنبة جسمانية يشابه بها السباع والأنعام، فبالجزء الجسماني أقيم في هذا العالم الحسي مدة قصيرة، وبالجزء الروحاني ينتقل إلى العالم العلوي، ويقيم فيه أبدا في مصاحبة الأرواح القدسية، بشرط أن يتحرك بقواه نحو كمالاتها الخاصة، حتى يغلب الجزء الروحاني على الجسماني وينفض عن نفسه كدورات الطبيعة، وتظهر فيه آثار الروحانيات من العلم بحقائق الأشياء والأنس بالله تعالى والحب له والتحلي بفضائل الصفات.
وحينئذ يقوم بغلبة روحانيته بين الملأ الأعلى يستمد منهم لطائف الحكمة.
ويستنير بالنور الإلهي ويزيد ذلك بحسب دفع العلائق الجسمية، حتى إذا ارتفعت عنه حجب الغواسق الطبيعية بأسرها، وأزيلت عنه أستار العوائق الهيولانية برمتها، خلي عن جميع الآلام والحسرات، وكان أبدا مسرورا بذاته، مغتبطا بحاله، مبتهجا بما يرد عليه من فيوضات النور الأول، ولا يسر إلا بتلك اللذات، ولا يغتبط إلا بها، ولا يهش إلا بإظهار الحكمة الحقة بين أهلها، ولا يرتاح إلا بمن ناسبه وأحب الاقتباس منه، ولا يبالي بمفارقة الدنيا وما فيها، ويرى جسمه وماله وجميع خيرات الدنيا وبالا وكلا عليه إلا ما هو ضروي يحتاج إليه بدنه الذي يفتقر إليه في تحصيل كما له، ويحن أبدا إلى مصاحبة الذوات النورية، ولا يفعل إلا ما أراد الله تعالى منه، ولا يتعرض إلا لما يقربه إليه، ولا يخالفه في متابعة الشهوات الردية، ولا ينخدع بخدائع الطبيعة، ولا يلتفت إلى شئ يعوقه عن سعادته، ولا يحزن على فقد محبوب، ولا فوت مطلوب، وإذا صفى من الأمور الطبيعية بالكلية زالت عنه العوارض النفسانية، والخواطر الشيطانية بأسرها، وفنى عنه إرادته المتعلقة بالأمور الخارجة. وحينئذ يمتلي من المعارف الإلهية، والشوق الإلهي والبهجة الإلهية، والشعار الإلهي، وتتقرر الحقائق في عقله كتقرر القضايا الأولية فيه، بل يكون علمه بها أشد إشراقا وظهورا من علمه بها.
وإذا بلغ هذه الغاية فقد استعد للوصول إلى المرتبة القصوى، ومجاورة الملأ الأعلى فيصل إلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويفوز بما أشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ... 6 7.