الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الوحدة والنهضة والمستقبل

في إطار التفكير بالمستقبل، يأتي الحديث حول الوحدة الإسلامية، بقصد النظر لهذه القضية برؤية مستقبلية، وفي نطاق إدماجها بمستقبليات الأمة. وهنا نصل إلى ضرورة أن يقترن مفهوم الوحدة بمفهوم النهضة والتقدم في الأمة؛ الاقتران الذي يحدد لنا مدخلاً حضارياً في تكوين عملية الفهم لهذه القضية، ولتجديد مناهج النظر فيها، وذلك بإخراجها من الفهم التقليدي الجامد الذي ينـزع نحو الماضي ويتشبث به، إلى الفهم الذي يعيش واقع العصر وينـزع نحو المستقبل ويتمسك به. فالأمة بحاجة إلى نهضة فكرية ترتقي بوعيها الجمعي والعام، من أجل إدراك هذه القضية بصورة جادة وفاعلة، وتضعها كمصير في رؤيتها للمستقبل، ولموقعها في هذا العالم.
وبقدر ما تتحرك خطوات الأمة نحو النهضة والتقدم، بقدر ما تترسخ قناعاتها وتتحرك إرادتها تجاه هذه القضية. فالقناعة والإرادة هما من أكثر ما تحتاج إليه الأمة في هذا الشأن، القناعة من موجبات الذهن، والإرادة من موجبات العمل. والوحدة بحاجة إلى قناعة كبيرة بها، وإلى تأكيد هذه القناعة في الأمة، وضرورة أن تتحول هذه القناعة إلى إرادة حقيقية تنزع نحو الدفاع عنها، والعمل من أجلها، وتحمل الصعوبات في سبيلها، لا أن تكون مجرد تعبير عن رغبة أو مجرَّد طموحٍ لا غير.
والوحدة هي من صور العلاقات الفكرية والاجتماعية والإنسانية، ضمن إطار الأمة الواحدة، وكلّ صور العلاقات هذه بحاجة إلى قدر من الوعي والنضج الحضاريين، لأن المشكلة بالتأكيد ليست في الاختلاف بين المذاهب أو في تعدد مناهجها، أو تنوع اجتهاداتها، وإنما المشكلة في طريقة الفهم والنظر لهذا الاختلاف والتعدد والتنوع، وهذا هو جوهر المشكلة المعرفية لهذه القضية. فالاختلاف قد يكون سبباً للنـزاع وقد يكون سبباً للرحمة، والتعدد قد يكون سبباً للصدام وقد يكون سبباً للتطور، والتنوع قد يكون سبباً للانقسام وقد يكون سبباً للتجدد والإبداع. فالذي اختلف هنا هو طريقة النظر، بين طريقة متأزمة تصور الأمور بشكل معين، وبين طريقة ناضجة تصور النظر للأمور بشكل مختلف. والانتقال من تلك الطريقة الأولى في النظر إلى الطريقة الثانية بحاجةٍ إلى انتقال من زمان تلك الرؤية المتأزمة أو المتخلفة إلى زمان الرؤية الناضجة أو المتحضّرة، وذلك عبر إصلاح مناهج الفكر والنظر، وسعي الأمة نحو النهضة والتقدم.
لذلك فإن ظواهر التعصب والتطرف والكراهية والقطعية وعدم التسامح، هذه الظواهر وغيرها، لا يمكن معالجتها أو التخلص منها إلا من خلال مفهوم النهضة والتقدم في الأمة، فهذه الظواهر لا يمكن معالجتها على مستوى الأمة بكل شرائحها وفئاتها، إلا عبر نهضة فكرية تطور وعي الأمة بقضية الوحدة، وطريقة التعامل معها.
وفي تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، ارتبطت قضية الوحدة بقضية النهضة والإصلاح، فقد ارتبطت بحركة السيد جمال الدين الأفغاني الإصلاحية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، الذي رفع لواء الدفاع عن الجامعة الإسلامية، وكان تجسيداً حياً لهذا المفهوم الذي عرف به، وتميزت به حركته، حيث اشتهرت بحركة الجامعة الإسلامية. لقد بعث السيِّد جمال الدين الأفغاني وحركته الإصلاحية روح الوحدة والتضامن والتقارب في الأمة بتعدّد مذاهبها وقومياتها ولغاتها، من تركيا إلى إيران، ومن الهند إلى أفغانستان، ومن العراق إلى مصر، ووصف في كتابات الباحثين والمؤرخين العرب والمسلمين بموقظ الشرق أو حكيم الشرق، ووصفه مالك بن نبي بضمير العالم الإسلامي.
وفي خطاب الأفغاني، ارتبطت دعوته للوحدة والتقارب بدعوته للنهضة والإصلاح في الأمة، وهكذا كان نهج الشيخ محمد عبده ومدرسته الإصلاحية1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 19 ابريل 2006م، العدد 14480.