حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
تولِّي المرأة لمنصبَي القضاء والمرجعيَّة
المسألة
هل تُشترط الذكورة في منصب مرجعية التقليد وفي منصب القضاء؟
الجواب
ذهب جمعٌ من العلماء إلى عدم اعتبار هذا الشرط في كلا المنصبين واعتمدوا في ذلك على إطلاقات الأدلَّة حيث إنَّ مقتضى عدم تقييدها بالرجل هو عدم اشتراط الأهليَّة للمنصبين بالذكورة.
فكلُّ مَن كان واجدًا لملكة الفقاهة فقولُه حجَّة على المكلَّف الجاهل، بقطع النظر عن طبيعة جنسه وأنَّه ذكرٌ أو أنثى، فالآيات والروايات لم تشتمل على ما يقتضي تقييدها بأحدهما.
وهكذا الحال بالنسبة للسيرة العقلائيَّة، فهي قاضية برجوع الجاهل للعالم بقطع النظر عن طبيعة جنسه، وحيث إنَّ الإمضاء من قِبل الشريعة وقع على معْقدِ هذه السيرة دون التصرُّف في حدودها من هذه الجهة فلهذا يتعيَّن البناء على حجيَّة فتوى المرأة لو كانت واجدةً لملكة الفقاهة.
وأمَّا فيما يرتبطُ بمنصب القضاء فأكثرُ الروايات التي استُفيد منها جعل الحجيَّة لحكم القاضي مطلقة، نعم ثمة روايتان يمكن ادِّعاء دلالتهما على اختصاص الحجيَّة بحكم القاضي الرجل.
الرواية الأولى: رواها الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه (ع) في وصيِّة النبيِّ (ص) لعليٍّ (ع) قال: "يا عليُّ ليس على المرأة جمعة إلى أن قال: ولا تولِّي القضاء"1.
والرواية الثانية: هي معتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمَّال قال: أبو عبد الله (ع): "إيَّاكم أن يُحاكم بعضُكم بعضًا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلمُ شيئًا من قضايانا .."2.
أما الرواية الأولى فضعيفةُ السند، فلا يصحُّ الاحتجاجُ بها على اعتبار الذكورة في منصب القضاء، وأمَّا الرواية الثانية فلا دلالة لها على اعتبار الذكورة في منصب القضاء، ذلك لأنَّ عنوان الرجولة في الرواية سِيق على أساس غلبة تصدِّى الرجال لهذا المنصب، فالروايةُ ليست في مقام حصر منصب القضاء بالرجال، وإنَّما هي في مقام نفي الحجيَّة عن أحكام قضاة الجور، وهي في ذات الوقت ظاهرة في حجيَّة أحكام القاضي العارف بقضايا أهل البيت (ع)، وأمَّا استظهار حصر الحجيَّة بالقاضي الرجل فهو غير تامٍّ لعدم كونها بصدد البيان من هذه الجهة.
وبما ذكرناه يتَّضح بأنَّه لا موجب لدعوى اشتراط الذكورة في منصبي القضاء والمرجعية.
هذا ما يُمكن أنْ يُقال في مقام الانتصار لدعوى النافين لشرطيَّة الذكورة في المنصبين.
إلا أنَّ الصحيح هو عدم صحَّة الاعتماد على شيءٍ مما ذُكر، وذلك لأنَّ عمدة ما تمَّ التمسُّك به لنفي اشتراط الذكورة في المنصبين هو دعوى إطلاق الآيات والروايات في الموردين والحال أنَّ الظُهور في الإطلاق غيرُ منعقدٍ في تمام هذه الآيات والروايات، إذ أنَّها سيقت في أجواءٍ تمنعُ من انعقاد الظهور في الإطلاق.
وبيان ذلك:
أنَّه حينما نلتفت إلى أنَّ الشريعة حرصت على أنْ تكون المرأة في منأى عن محافل الرجال وأنَّ اللائق بمقامِها هو عدم الاختلاط بهم، وعدم المحادثةِ معهم إلا بمقدار الضرورة وأنَّ المناسب لها هو عدمُ الحضور حتى للمساجد وصلاة العيد وتشييع الجنائز.
وحينما نقفُ على أنَّ الشريعة لم تُعطِ القيمومةَ للمرأة حتى في إطار الأسرة، ولم تجعلْ لها الولاية حتى على الصغار، ونفت عنها حقَّ إيقاع الطلاق بل جعلتْ عليها الولايةَ من قِبل الأب والجد لو كانت بكرًا والقيمومةَ من قِبل الزوج.
وحينما نقفُ على أنَّ الشريعة نفتْ صحَّة الاعتماد على شهادة المرأة في مجموعة من الموارد مثل الطلاق والهلال وبعض الحدود ولم تقبل بشهادتِها في مواردَ أخرى إلا أنْ ينضم إليها رجلٌ وامرأةٌ أخرى، ومنعتْها من أنْ تؤم الرجالَ في صلاة.
كلَّ ذلك وغيرُه يخلقُ جوًّا متشرعَّيًا يمنعُ من استظهار الإطلاق في الآيات والروايات المُشار إليها فيكون هذا الارتكاز المتشرعي بمثابة القرينة اللبيَّة المتَّصلة المانعةِ من انعقاد الظهور في الإطلاق من أول الأمر.
وأمَّا الاستدلال بالسيرة العقلائيَّة فيكفي للردع عن إطلاق معقدها هذا الارتكاز المتشرعي المُنتج لعدم إحراز الإمضاء في هذا المقدار.
والنتيجة هي عدم وجود ما يُبرِّر ثبوت الحجيَّة لحكم القاضي أو فتوى الفقيه لو كان امرأة، إذ أنَّ ثبوت الحجيَّة خلاف الأصل، وذلك يقتضي عدمها ما لم يَقُم على ثبوتها دليل، فالشكُّ في الحجية يُساوق القطع بعدمها.
وبتعبير آخر:
إنَّ المورد وعلى أحسن التقادير من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجيَّة، فنفوذُ حكم القاضي الرجل وكذلك أهليَّتُه للمرجعيَّة ثابت على كلِّ تقدير وأمَّا حكم المرأة وفتواها فلو كان لهما الحجيَّة فهو بنحو التخيير بينه وبين حكم وفتوى الفقيه الرجل، والأصل في الفرض المذكور هو التعيين المقتضي لعدم حجيَّة حكم وفتوى الفقيه لو كان امرأة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ اعتبار الذكورة في منصب القضاء والمرجعيَّة لا يُعبِّر عن بخس المرأة حقَها في التصدِّي للشأن الاجتماعي العام كما أنَّه ليس انتقاصًا لأهليَّتها ولياقتها الفكريَّة.
أمَّا أنه ليس انتقاصًا لأهليَّتِها الفكريَّة فلأنَّ الدين قد أعطى للمرأة صلاحيَّة النظر في الأدلَّة واستنباط الأحكام الشرعيَّة من مصادرها المعتبرة، أي أنَّ لها تمام الحقِّ في التصدِّي للتحصيل العلمي الديني، وحينما تتوفَّر على ملكة الاجتهاد يكون لها الحقُّ في معالجة الأدلَّة واستنتاج الأحكام الشرعية وإصدار الفتاوى، وذلك هو أعلى وسامٍ فكري في الشريعة الإسلامية، فلا فرق بينها وبين الرجل من هذه الجهة، فكما أنَّ الرجل إذا توفَّر على ملكة الاجتهاد لزمه العمل بمقتضى اجتهاده فكذلك الحال بالنسبة للمرأة، غايتُه أنَّه لا يصحُّ للمرأة التصدِّي لشؤون المرجعيَّة والقضاء رغم أهليَّتها الفكريَّة وذلك نظرًا لمنافاة تصدِّي المرأة لهذين المنصبين للمقاصد الشرعيَّة المتقوِّمة على أساس ملاحظة اختلاف الخَلق والتكوين والمصالح والمفاسد العامَّة.
وبما ذكرناه يتَّضح أنَّ اعتبار الذكورة في منصبي القضاء والمرجعيَّة ليس بخسًا لحقِّ المرأة، وذلك لأنَّ المرجعية والقضاء لا يتقوَّم التأهُّل لهما على اللياقة العلميَّة وحسب بل إنَّ ثمة عنصرًا أساسيًأ يتوقَّف عليه التأهُّل لهذين المنصبين وهو ما يُمكن التعبير عنه بالعنصر النفسي.
فمنصبُ القضاء وكذلك المرجعيَّة يقتضي التصدِّي للنظر في الخصومات والمنازعات في الدماء والأموال الخطيرة والأعراض كما يقتضي التصدِّي لعويصات القضايا الاجتماعية العامَّة، وقد يقتضي المقارعة للطواغيت والفسَقة والانتصار للمظلومين والمغلوب على أمرهم كما يقتضي التصدِّي للولاية على الأموال العامَّة والأوقاف والقُصَّر من الأيتام والمجانين، وكذلك التصدِّي للأمور الحسبيَّة الأخرى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من شؤون الحِسبة، وكلُّ ذلك يتوقَّف على رباطةٍ في الجأش وقوةٍ في القلب وشجاعةٍ متميِّزة كما يتوقَّف على مستوىً راقٍ من الحِكمة وحسن التدبير والقدرة على استجماع النظر وتقليب الأمور بتأنٍّ ورويَّة، وذلك ما يصعب على المرأة الاشتمال عليه نظرًا لمقتضى طبيعة خَلقها وتكوينها، فغلبةُ العاطفة وما يجيش به قلبُ المرأة من رقَّةٍ وحنانٍ ورحمة وما يكتنفُه من وجلٍ وخوف، ومشاعر الحياء والخجل والتي هي كاللازم الذاتي للمرأة كلُّ ذلك يحولُ دون قدرتِها على التأهُّل للملكات النفسيَّة التي يسترعيها منصبا القضاء والمرجعية.
فمشاعرُ العطف والرقَّة والخوف والحياء تنافي ملكة الشجاعة والجرأة وهدوء النفس والقدرة على استجماع الرأي والتأنِّي في تقليب الأمور وتدبيرها، فهي متغالبة، فمتى ما استحكمت العاطفة في النفس كان نصيبُ التأني منها ضئيلاً، ومتى ما استحكم الخوفُ والحياء في النفس كان نصيبُ الشجاعة والإقدام منها ضئيلاً، وهكذا يكون العكس، ولذلك اختلفت الوظائف المُناطة بالمرأة عن الوظائف المُناطة بالرجل.
فاختلاف الوظائف نشأ عن التفاوت في طبيعة الخَلْق والتكوين، وذلك لا يمثِّل نقصًا في طبيعة خَلْق المرأة وتكوينها وإنَّما هي العناية الإلهيَّة التي اقتضت أنْ يتمَّ البناءُ الاجتماعي على أساس التفاوت في الملكات والمؤهلات النفسيَّة والجسدية، فكما أنَّ البناء الاجتماعي يتقوَّم بوظائف الرجل الذي أهلَّته لها ملكاتُه المناسبة لمقتضى طبيعة خَلْقه وتكوينه كذلك هو يتقوَّم بوظائف المرأة التي أهَّلتها لها ملكاتُها المناسبة لمقتضى طبيعة خَلْقها وتكوينها.
إنَّ اقتحام المواقع الاجتماعيَّة على غير أهليَّةٍ نابعةٍ من مقتضيات الخلق والتكوين يُنتج نقضَ البناء الاجتماعي أو على أقلِّ تقدير يُساهمُ في تأخير عمليَّة البناء، وذلك هو ما يُحتِّم عدم المحاباة في توزيع الوظائف، وقد فصَّلنا الحديث حول ذلك في "بحث قيمومة الرجل" فمَن أراد فليراجع.
ثم إنَّ أمرًا يصعب على الآخرين تفهُّمه نظرًا لعدم استيعابِهم لواقع التربية الإسلاميَّة وهو أنَّ الوظائف التي تنوء بها مختلفُ الشرائح الاجتماعيَّة كلٌ بحسبه ليست من قبيل الامتيازات والغنائم حتى يصحَّ تصنيف المجتمع بلحاظِها إلى محرومٍ منها وغير محروم، فالوظائفُ بحسب المنظور الاسلامي ليست سوى مسئوليَّات دينيَّة تُناط بالشرائح الاجتماعية انطلاقًا من مقتضيات المصالح العامَّة الواقعة في سياق الغرض الإلهي، وهو البناء الاجتماعي المتكامل، لذلك لا يستشعر المتديِّن بالغبن بل يحرصُ على أن يتكامل في الإطار المناسب لمسئوليَّاته.
على أنَّ ثمة مساحةً واسعة من الوظائف الاجتماعيَّة تنسجم مع مقتضى طبيعة التكوين عند كلا الجنسين ويعتمدُ التأهُّل لهما على مثابرة الإنسان ومستوى جدِّيته، فليست الوظائف جميعًا قدَرًا على الإنسان إلا أنَّ من المكابرة ادَّعاء أنَّ كلَّ الوظائف تليقُ بكلِّ إنسان و من المكابرة أنْ نعالجَ القضايا بقطع النظر عن مقتضيات الطبع التكوين.
بقي أنْ نُشير إلى أمرٍ وهو أنَّ تصدِّي المرأة لمنصب القضاء والمرجعية يتنافى والمنظومة القِيَمية التي أطَّر فيها الإسلام حدودَ العلاقة بين المرأة والرجل.
فلأنَّ منصبي القضاء والمرجعيَّة يقتضيان الاختلاط الدائم بالرجال ومحادثتهم في أخصِّ الأمور ومعاشرتهم والاختلاء بهم، وكلُّ ذلك يتنافى مع الحشمة التي حرصَ الإسلام على أن تتحلَّى بها كلُّ امرأة، فمِن غير المعقول أنْ يُبالغ الإسلام في توصيته للمرأة بالحشمة ثم يدعوها للتصدِّي لمسئوليَّات دينيَّة لا تنسجم مع مقتضى ما بالغ في الإيصاء به 3.