حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
- الحكم - القضاء - المرأة - النساء - الولاية الشريعية - عبد الهادي الفضلي - قيمومية الرجل - ولاية المرأة - ولاية المراة
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
حول ولاية المرأة
تمهيد و تعريف
من خلال قراءاتي ـ و هي غير كثيرة ـ لما كتب في الفقه عن و حول إشغال المرأة لبعض المناصب أو الوظائف في الدولة الإسلامية ، رأيتها تركز على أساس واحد ، و تنطلق منه في الانتهاء إلى النتيجة و إصدار الفتوى ، ذلك الأساس هو أن المنصب المعين الذي يراد إسناده للمرأة يعطيها الولاية ، و ليس لها هنا حق الولاية .
و تتحرك الكتابات ـ و فيها البحوث ـ حول الموضوع المشار إليه ، و كأن الولاية مصطلح فقهي ذو معنى واحد محدد و معين ، في الوقت أن الأمر ليس كذلك ، و ذلك أننا عندما نرجع إلى المعجم اللغوي العربي و المعجم الفقهي الإسلامي ، بغية الوقوف على ما يسعفنا في هذا المجال ، لا نجد ما يمكننا الاستفادة منه كمحور للبحث ، و منطلق لإبداء الرأي .
و يعود هذا إلى أن الولاية ليست مصطلحاً فقهياً ، و غير ذات معنى واحد في عالم الاستعمالات الفقهية .
و من هنا ليس أمام الباحث إلا محاولة تتبع و استقراء الاستعمالات الفقهية لكلمة الولاية من تكلم الاستعمالات المشار إليها .
و الذي انتهيت إليه ـ في هذه العجالة ـ هو التالي :
1 ـ يمكننا أن نسمي الولاية في الفقه الإسلامي ( الولاية الشرعية ) في مقابلة ( الولاية القانونية ) المصطلح المعروف في أدبيات القوانين الوضعية .
2 ـ يمكننا أن نلخص المفاهيم الفقهية لمصطلح الولاية الشرعية بالمعاني التالية :
ـ حق التسلط .
ـ حق التصرف .
ـ حق القيام بشؤون الآخر .
ـ واجب المسؤولية .
3 ـ يمكننا أن نقسم الولاية الشرعية ـ و من واقع استخداماتها الفقهية ـ إلى القسمين التاليين :
أ ـ الولاية المنصوصة :
و أعني بها الولاية التي تستفاد من نص شرعي ـ آية أو رواية ـ ، مثل :
ـ مسؤولية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر المستفادة من الآية الكريمة : ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ... ﴾ 1 .
ـ مسؤولية الرعاية المستفادة من الحديث الشريف " كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته " .
ـ حق تسلط الإنسان على ماله المستفاد من الرواية " الناس مسلطون على أموالهم " .
ب ـ الولاية غير المنصوصة :
و يراد بها تكلم الولايات التي لم تستفد من نص شرعي ، و إنما استفيدت من الإجماعات أو من المبادئ العقلية كسيرة الناس أو ما يعبر عنه بـ ( سيرة العقلاء ) أو ( بناء العقلاء ) ، مثل ولاية الأب و الجد على عقد نكاح الصغير و الصغيرة ، فإنها مما درجت عليه سيرة الناس ، و ليس للشريعة الإسلامية دور إلا إقرارها .
و منه نفهم أن الولاية الشرعية إذا حاول الباحث دراستها داخل إطار التشريع الإسلامي بعيدا عن معطيات العرفان و التصوف و حتى الفلسفة ، و إنما يدرسها في هدي معطيات المبادئ الإسلامي الأساسية ، و تحت ظلال مقاصد الشريعة .
و أعني بذلك أن المشرع الإسلامي يراعي في وضعه للأحكام جلب المصلحة للإنسان المسلم .
و من خلا الاستقراء للأحكام الشرعية في شتى مجالاتها ، و على مختلف أنماطها و جدنا أن المشرع الإسلامي لكي يحقق هدفه المشار إليه يراعي في تشريعه لأحكامه أن توجد التوازن بين كل القوى لدى الإنسان في الجانب البيولوجي و الفسيولوجي و العقلي و الروحي و النفسي و البدني .
و الفروق في التشريع بين الرجل و المرأة و الكبير و الصغير تنشأ عن مراعاة هذا التوازن ، و هو أمر طبيعي .
كما أن أحكام التشريع الإسلامي في تنظيم العلاقات بين الفرد و الفرد ، و الفرد و الأسرة ، و الفرد و المجتمع ، و بين المجتمعات بعضها مع البعض ، يراعى أن تأتي متوازنة بما يحقق المصلحة و يدرأ المفسدة ، و يوصل إلى تحقيق مقاصد الشريعة .
و في إسناد الوظيفة و إناطة المسؤولية يشترط التشريع الإسلامي التوفر على عنصرين ، هما :
ـ الكفاءة .
ـ الأمانة .
و في ضوء ما تقدم لا توجد ولاية بمعنى التسلط لأن الموظف أو المسئول في أعلى مسؤولية و أقل وظيفة دوره هو أن يقوم بتنفيذ و تطبيق التشريع ، و لا يسمح له بتجاوز حدود المسؤولية المناطة به .
و قياس المنصب في الدولة الإسلامية على مجتمعات الأسياد و العبيد قياس مع الفارق ، لأن السيادة في الإسلام للتشريع و الطاعة من المسلم لله تعالى بامتثاله للتشريع .
و بعد هذا : أعود فأقول : متى درس الباحث الولاية الشرعية داخل هذا الإطار فإنه سوف يرى أنها تتنوع للتالي :
ـ إعطاء حق .
ـ فرض واجب .
ـ إناطة مسؤولية .
و متى نظرنا إلى الولاية ـ كما ينظرها الآخرون ـ نوعاً من التسلط فإنه من الطبيعي أن يكون لصاحب الحق المجال في ممارسة حقه ، و هو شيء من السلطة ، و أن يكون لمن يقوم بواجبٍ ما المجال لأداء الواجب ، و هو ـ أيضاً ـ شيء من السلطة ، و أن يكون لصاحب المسؤولية المجال للقيام بمسؤوليته ، و هو شيء من التسلط أيضاً .
و بهذا ندرك أن الولاية بمعنى السلطة أو السلطنة أو التسلط ملازمة لكل هذه المذكورات .
و متى فهمت الولاية بالشكل المذكور ـ في أعلاه ـ تكون للمرأة كما تكون للرجل عند ممارسة حق أو أداء واجب أو قيام بمسؤولية ، من غير فرق بينهما .
و التشريع ـ دينياً كان أو مدنياً ـ هو الذي يمنح الحق و يفرض الواجب و ينيط المسؤولية .
فالدين عندنا ، و القانون عند غيرنا ، هو الذي له حق هذا التشريع .
و هنا لا بد من وقفة مع ( الأصل ) الذي وضعه الفقهاء ، و اعتمدوه أساساً يرجعون إليه في مقام الشك ، و يفتون حسب ما ينهي إليه .
و أريد به ما يسمونه بـ ( أصالة العدم ) ، و هو ـ كما ذكر في كتاب ( الولاية و الشفعة و الإجارة من الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ) للسيد هاشم معروف الحسني ، 2 ـ نظرياً و تطبيقياً : " الأصل عدم الولاية بجميع معانيها لأحد على أحد ، لأنها سلطة حادثة ، و الأصل عدمها ، لأنها تقتفي أحكاماً توقيفية ، و الأصل عدمها أيضاً .
و القدر المتيقن منها هو ولاية النبي (صلى الله عليه و آله ) و الأئمة ( عليهم السلام ) لما دل من العقل و النقل على أن لهما الولاية في التصرف في نفوس الناس و أموالهم من غير توقف على إذن أحد الناس ، على حد تعبير السيد بحر العلوم في بلغته " .
إن مثل هذا التأصيل هو مما أملاه المنهج الفلسفي الذي اتبعه أكثر الفقهاء المسلمين في أكثر من مرحلة من مراحل الدرس الفقهي .
و هذا الأصل ـ كما أشرت ـ وضع ليرجع إليه في مقام الشك في الأمور الحادثة ، و الولاية وصف حادث ، و الأمور الحادثة ـ كما تقول الفلسفة ـ إذا شك في وجودها ينفى بأصالة العدم ، أي أننا أخذاً بهذا الأصل عندما نشك في ثبوت الولاية لأحد نحكم بعدم ثبوتها .
قد كان هذا الأصل أقوى مساعد للفقهاء في نفي ولاية المرأة عن كثير من الأمور ، و من ثم منعها من ممارسة كثير من الأعمال و الوظائف .
و أول ما يلاحظ على هذا الأصل هو أن هذا الأصل معدود من مبادئ المنهج الفلسفي العقلي الذي يقوم على أساس من الاستنتاج العقلي .
و الفقه لأنه تشريع تستقى مادته من المصادر النقلية ( الكتاب و السنة ) تكون الطريقة السليمة لدراسة قضاياه هي الاستقراء لا الاستنتاج فتتبع فيه بغية الوصول إلى الحكم الخطوات التالية :
1 ـ مراجعة النصوص الخاصة :
و أعني بها تلكم النصوص التي ترتبط بموضوع البحث مباشرة .
2 ـ و في حالة عدم العثور على نص خاص يستفاد منه حكم المسألة يرجع إلى النصوص العامة ، و هي ما يصطلح عليه فقهيا العمومات و الإطلاقات التي تشمل بعمومها أو إطلاقها موضوع البحث .
و النصوص الشرعية بفئتيها الخاصة و العامة هي من الكثرة بحيث تغطي كل ما يحتاجه الفقيه في مجال استنباط الأحكام الشرعية .
و على هذا لا نكون بحاجة لمثل هذا الأصل ، و لا تصل النوبة إليه .
و يلاحظ عليه ثانياً : أن الفلسفة تجري مثل هذا الأصل في مجالات بحثها و هي الأمور التكوينية .
و يعنى بالأمور التكوينية هنا الأشياء الممكنة التي لها قابلية الاتصاف بالوجود و الاتصاف بالعدم ، و قد عبروا عنها في هذا السياق بالحوادث .
و الولاية ـ بجميع جزيئاتها و التي ذكرت شيئاً منها ـ هي من التشريعات التي لا مجال لإجراء المبادئ الفلسفية عليها .
3 ـ و الإجماعات إذا كانت بمستوى الحجية فإنها تثبت الولاية و تنفيها ، و على هذا : يؤخذ لها في حالة الإثبات و في حالة النفي .
و إذا لم تكن بمستوى الحجية لا يؤخذ لها .
4ـ لا فرق بين الرجل و المرأة في توليهما الأعمال التي فيها ولاية ، إلا ما استثني بنص معتبر الإسناد ، واضح الولاية .
هذه هي أهم الخطوات التي على الباحث الفقهي إتباعها .
و الآن لنتناول ـ و باختصار غير مخل ـ أهم الولايات التي أثير البحث فيها و حولها لنرى مكان المرأة فيها ، نتناولها كالأمثلة و نماذج فقط .
و لنبدأ بـ ولاية النبي ( صلى الله عليه و آله ) من باب التبرك و التيمن و لأركّز على تبيين المواد من الولاية ـ هنا ـ و ذكر دليلها ، و نوعيتها تشريعية أم عقائدية ( كلامية ) .
إن ولاية النبي ( صلى الله عليه و آله ) ـ المشار إليها ـ مستفادة من قوله تعالى : ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ... ﴾ 3.
والآية تنص على ولاية النبي ( صلى الله عليه و آله ) على النفوس ، و بقياس الأولوية ( مفهوم الأولوية ) أفاد الفقهاء الولاية على الأموال ، فقالوا : للنبي ( صلى الله عليه و آله ) الولاية على النفوس و الأموال .
و الولاية ـ هنا ـ تعني التسلط على نفوس المؤمنين و أموالهم ، و التصرف بها ، من باب تقديم ولاية النبي ( صلى الله عليه و آله ) على ولاية المؤمنين .
و بيان ذلك : أن للإنسان السلطة على نفسه و ماله سلطة تشريعية ، أي إن له التصرف بنفسه و ماله في حدود المسموح به شرعاً . . و لكن لو اقتضى الأمر أن تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة تقدم بأولوية ولاية النبي ( صلى الله عليه و آله ) .
و في تبيان شمولية ولاية النبي ( صلى الله عليه و آله ) على النفوس و الأموال يقول أستاذنا السيد الحكيم في كتابه ( نهج الفقاهة ) 4 : " مقتضى قوله تعالى : ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ... ﴾ 3 ، و نحوه مثل قول النبي ( صلى الله عليه و آله ) في رواية أيوب بن عطية : ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ) و قوله ( صلى الله عليه و آله ) في حديث الغدير : ( ألست أول بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ) ثبوت الولاية للنبي ( صلى الله عليه و آله ) و الإمام ( عليه السلام ) على النفوس .
و مقتضى عدم الفصل ، و الأولوية ، ثبوت الولاية على الأموال أيضاً " .
و المراد بالنبي في الآية الكريمة نبينا محمد ( صلى الله عليه و آله ) بقرينة السياق حيث جاء بعد الفقرة المذكورة في الآية نفسها قوله تعالى : ﴿ ... وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ... ﴾ 3 ، و لاتفاق علمائنا من مفسري وفقها على ذلك .
و لكي نتفهم نوع الولاية ـ هنا ـ علينا أن نمهد لذلك ببيان الفرق بين وظائف أو مسؤوليات النبي ، و التي تتمثل بالتالي : النبوة ـ الرسالة ـ الإمامة .
( النبوة )
أصل كلمة ( نبوة ) : ( نبؤة ) بالهمزة ، و خففت لتسهيل الاستعمال ، فهي من ( أنبأ ) بمعنى ( أخبر ) ، لأنها ـ في هذا السياق ـ إخبار عن الله تعالى .
فالنبي سمي نبياً لأنه يخبر عن الله تعالى .
( الرسالة )
هي الشريعة الإلهية التي يرسل بها النبي متحملاً مسؤولية تبليغها للناس ، و لهذا سمي رسولاً ، من الفعل الممات ( رسل ) بمعنى أرسل .
( الإمامة )
هي رئاسة الدولة و زعامة الأمة و حماية الدين .
و للإمامة مفهوم آخر ، و هو خلافة النبي في كل ما للنبي من صفات و مسؤوليات عدا النبوة .
و هو المفهوم الذي لا ينطبق عندنا ـ معاشر الإمامية ـ إلا على الأئمة الاثني عشر .
و بعد هذا التقسيم لا بد من الإشارة إلى أن علماء الكلام يقسمون الولاية إلى قسمين : الولاية التكوينية و الولاية التشريعية . . و يقولون : إن الولاية التكوينية هي التي تكون للنبي بصفته نبياً ، و للإمام بصفته إماماً بالمعنى الثاني للإمامة . . و يعكسها الولاية التشريعية فإنها هي التي تكون للنبي بصفته إماماً بالمعنى الأول للإمامة الذي هو رئاسة الدولة و زعامة الأمة و حماية الدين .
فالولاية قد تكون مسألة كلامية و هي الولاية التكوينية ، و قد تكون مسألة فقهية و هي الولاية التشريعية .
ثم الولاية التشريعية لأنها ترتبط بتطبيق النظام الإسلامي في مادة مهمة من مواده التشريعية ، و هي التي نصت على وجوب تقديم المصلحة العامة ( المصلحة العليا للدين كمبدأ و المصلحة العليا للمسلمين كأمة ) على المصلحة الخاصة من باب تقديم الأهم على المهم إذا كان موضوع التزاحم النفوس أو الأموال ، و أن يتم التقديم بأمر الحاكم الإسلامي العام لأن ذلك من صلاحياته الخاصة .
أقول : لأنها كذلك لا تكون إلا بجعل شرعي لمن يشغل منصب الإمامة ( بمعنى رئاسة الدولة و زعامة الأمة و حماية الملة ) نبياً كان أو إماماً أو معصوماً أو فقيهاً عادلاً .
و ما جاء في حديث الغدير من قول النبي ( صلى الله عليه و آله ) : ( ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ) يدل دلالة واضحة على نصب الإمام علي ( عليه السلام ) إماماً ( رئيساً للدولة و زعيما للأمة و حاميا للدين ) ، و جعل الولاية له على النفوس و الأموال تلك الولاية جعلت للنبي ( صلى الله عليه و آله ) .
والتوقيع الصادر عن الإمام المهدي ( عليه السلام ) : ( و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله تعالى ) ، واضح في دلالته على نصب الفقيه العادل إماماً للشيعة بمعنى زعامة الطائفة و حفظ المذهب .
و مثله ما جاء في مقبولة ابن حنظلة : ( فإني قد جعلته عليكم حاكماً ) ، و يقول الشيخ صاحب الجواهر في تبيان ذلك : ( و لظهور قوله ( عليه السلام ) ( فإني قد جعلته عليكم حاكماً ) في إرادة الولاية العامة نحو المنصوب الخاص ، كذلك إلى أهلا الأطراف ، و الذي لا إشكال في ظهور إرادة الولاية العامة في جميع أمور المنصوب عليهم فيه ، في قوله ( عليه السلام ) : ( فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله ) أشد ظهوراً في إرادة كونه حجة فيما أنا فيه حجة الله عليكم )5
و مما تقدم تبينا الرأي الفقهي الإمامي في الحاكمية الإسلامية و الحاكم الإسلامي العام ، و هو ـ أعني الرأي ـ يقوم على المبدأ الإسلامي العام المتفق عليه بين الفقهاء المسلمين ، و هو أن الحاكمية لله تعالى .
و على أساس من ذلك : لا يخلفه فيها أحد في قيادة و إدارة المجتمع البشري إلا بجعل منه .
و قد تم هذا بالنسبة لنبينا محمد ( صلى الله عليه و آله ) ، و كذلك لا يخلف النبي محمدا ( صلى الله عليه و آله ) من يقوم بالمهمة المذكورة إلا بجعل أو نصب منه ( صلى الله عليه و آله ) عن أمر من الله تعالى ، و قد تم هذا لعلي و بقية الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) عندنا ـ معاشر الإمامية ـ و ذلك بنصوص عامة و خاصة صدرت منه ( صلى الله عليه و آله ) ، توفرت على ذكرها الكتب المعنية بذلك ، و ذكرت منها حديث الغدير فقط لأجل الاختصار ، و لشهرته و تواتره .
وأيضا لا يخلف الأئمة أحد للقيام بهذه المسؤولية إلا بجعل منهم ( عليهم السلام ) .
و قد تم هذا في حق الفقيه العادل من قبل الإمام المهدي ( عليه السلام ) بنص التوقيع الشريف الصادر منه ( عليه السلام ) .
و هنا حيث انتهينا إلى هذا أحاول أن أشير إلى الرأي الفقهي في تولي المرأة المسلمة لمنصب رئاسة الدولة ، و ذلك أن تولي الرجل للمنصب المذكور متفق عليه ، فهو شيء مفروغ منه ، لإيثار البحث فيه .
إن مسألة تولي المرأة رئاسة الدولة الإسلامية لم يثر البحث فيها من قبل فقهائنا المتقدمين و المتأخرين عدا المعاصرين .
و قد يرجع هذا لعدم ابتلاء الشيعة في الدولة الإسلامية السنية ، و كذلك في الدولة الإسلامية الشيعية لعدم الحاجة لطرح المسألة للدراسة لقيام الرجل بذلك .
و لكن الأمر اختلف عنه في عصرنا هذا المسمى بالعصر الحديث عصر حقوق الإنسان ، و المناداة بمساواة الرجل بالمرأة في الحقوق و الواجبات .
و من الرادة الأوائل في إثارة البحث في المسألة الشيخ حسين علي المنتظري ، فقد تناولها بالدراسة في كتابه ( دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية ) 6 .
و النتيجة التي انتهى إليها من بحثوا المسألة هي ترجيح كفة اعتبار الذكورة في رئيس الدولة .
و سأحاول ـ هنا ـ أن ألخص أدلتهم ، ثم أسلط الضوء عليها توضيحاً و نقداً ما تأتى لي ذلك في هدي ما يسلمني إليه مسار البحث .
و أهم ما استدلوا به :
القرآن الكريم
و استدلوا منه بأكثر من آية ، و أهمها الآية 34 من سورة النساء ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ... ﴾ 7 .
و يأتي الاستدلال بهذه الآية لإثبات ولاية الحكم للرجل و نفيها عن المرأة ، وفق الخطوات التالية :
1 ـ أن المراد من القوامية في قوله تعالى ( قوامون ) السلطة ، و السلطة معنى من معاني الولاية ، 8 : ( أي قيمون على النساء ، مسلطون عليهن في التدبير و التأديب و الرياضة و التعليم ) .
2 ـ أن سبب قوامية الرجال على النساء هو تفضيله تعالى للرجال على النساء ، ففي ( مجمع البيان ) ـ أيضا ـ : ﴿ ... بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ... ﴾ 7 هذا بيان سبب تولية الرجال عليهن ، أي إنما ولاهم الله أمرهن لما لهم من زيادة الفضل عليهن بالعلم و العقل و حسن الرأي و العزم ﴿ ... وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ... ﴾ 7 عليهن من المهر و النفقة ، كل ذلك بيان علة تقويمهم عليهن و توليتهم أمرهن )
3 ـ و يقرب السيد الطباطبائي في الميزان 9 الاستدلال بالآية على إثبات ولاية الحكم للرجال و نفيها على النساء بقوله ( و عموم هذه العلة ( أي الفضل و الإنفاق ) يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ... ﴾ 7 غير مقصور على الأزواج بأن تختص القوامية بالرجل على زوجته ، بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبليين جميعا ، فالجهات العامة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كتجربتي الحكومة و القضاء ـ مثلا ـ اللذين تتوقف عليهما حياة المجتمع ، و إنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء ، و كذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة و قوة التعقل ، كل ذلك مما يقوم به الرجال على النساء .
و على هذا : فقوله : ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ... ﴾ 7 ذو إطلاق تام ) .
و ناقش الشيخ المنتظري الاستدلال المذكور بقوله : ( و لكن عندي في التمسك بالآية للمقام إشكال ، إذ شأن النزول و كذا السياق شاهدان على كون المراد قيمومة الرجال بالنسبة إلى أزواجهم ، إذ لا يمكن الالتزام بأن كل رجل بمقتضى عقله الذاتي و بمقتضى إنفاقه على خصوص زوجه له قيمومة على جميع النساء حتى الأجنبيات ، و لو سلم الشك ، فصرف الاحتمال يكفي في عدم صحة الاستدلال .
فإن قلت : عموم العلة ـ كما مر عن تفسير الميزان ـ يقتضي ذلك ، فيؤخذ به إلا فيما ثبت خلافه .
قلت : أولاً : إن العلة الثانية لا عموم لها ، إذ إنفاق الرجل يختص بزوجه ، و لا يرتبط بسائر النساء .
و ثانياً : إن الأخذ بالعموم و تخصيص ما ثبت خلافه يوجب تخصيص الأكثر ، إذ قيمومة الرجل على سائر النساء إلا في مورد الولاية أو القضاء .
و يمكن المناقشة ـ أيضاً ـ بالتالي :
1 ـ كلمة ( قوامون ) ليست حقيقة شرعية و لا مصطلحاً فقهياً .
و من هنا لابد من تحديد المراد منها من خلال الاستعمالات اللغوية الاجتماعية .
جاء في ( معجم ألفاظ القرآن الكريم ) ـ مادة قوم ـ : و تدور المعاني التي تفيدها هذه المادة حول النهوض أو انتصاب القامة ، أو الاعتدال بمعانيه المادية أو المعنوية .
ـ قام على أهله أو نحوه : رعاهم و تولى الإنفاق عليهم .
ـ قوام : صيغة مبالغة في ( قائم ) ، يقال هو قوام على أهله : دائم القيام بشؤونهم و السهر على مصالحهم . الجمع قوامون .
ـ قوامون ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ... ﴾ 7 : أي يرعونهن و يقومون بمصالحهن .
و نستفيد من هذا أن القوامية لا تعني القيمومة التي فهم منها المستدلون التسلط و التصرف ، و إنما تعني إناطة مسؤولية رعاية مصالح النساء و تدبير شؤونهن بالرجال ، و من أظهر مصاديق تلك الرعاية و ذلك التدبير ، هو وجوب إنفاق الرجل ( الزوج ) على زوجته ، و هذا يعني أن الإنفاق من القوامية ، و ليس من القيمومة ، و قد يرجع هذا إلى أن أكثر المجتمعات ـ و منها المجتمعات العربية التي نحاول معرفة معنى القوامية لديهم ـ مجتمعات ذكورية ، تحمل الرجل مسؤولية رعاية مصالح المرأة و تدبير شؤونها .
و هم لا يرمون من هذا إلى أن تلك الرعاية و ذلك التدبير هما من نوع الولاية السلطوية ، و إنما هما شأن من شؤون تركيبة المجتمع .
و الإطلاق أو العموم في الآية الكريمة المتمثل في كلمتي ( الرجال ) و ( النساء ) لا يمكن الأخذ به و الركون إليه مع وجود قرينة السياق التي اعتبرت الإنفاق على الزوجة من أظهر مصاديق القوامة .
فالمراد من الرجال ـ هنا ـ الأزواج ، و من النساء الزوجات ، فلا نظر للآية و لا شمولية فيها لكل الرجال مطلقاً و كل النساء مطلقاً حتى ندخل رئيس الدولة في عمومها و نحكم له بالقيمومة أو الولاية على المرأة .
2 ـ أن التفضيل المشار إليه في الآية الكريمة لا يعني تفضيل الرجال خاصة ، كما أنه لا يعني تفضيل النساء خاصة ، و إنما يراد به أن إناطة المسؤوليات و فرض الواجبات يعتمد قاعدة التفضيل الذي يقوم على أساس من القدرة على النهوض بالمهمة و القيام بها .
ونخلص من كل ذلك إلى أن القوامية غير القيمومة ، و أن الآية الكريمة لا إطلاق فيها و لا عموم ، و على هذا لا يتم الاستدلال بها و لا يصح .
الحديث الشريف
و من أهم ما استدلوا به لنفي ولاية الحكم على المرأة الحديث المروي في الوسائل 10 عن محمد بن علي بن الحسين ( الصدوق ) في ( الخصال ) عن أحمد بن الحسن القطان عن الحسن بن علي العسكري عن محمد بن زكريا البصري عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه ( عن عمرو بن شمر ) عن جابر بن يزيد الجعفي : قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر ( عليه السلام ) يقول : ( ليس على النساء أذان و لا إقامة و لا جمعة و لا جماعة . . . . و لا تولى المرأة القضاء و لا تلي الإمارة . . . ) .
و يناقش بأن سند الرواية المذكور ضعيف بعمرو بن شمر الذي سقط من إسناد الوسائل ، ذلك أن محمد بن عمارة يروي عن جابر الجعفي ، بواسطة عمرو بن شمر ، و ورد تضعيف عمرو بن شمر في رجال النجاشي و رجال ابن الغضائري ، و قال أستاذنا الخوئي 11 : ( أقول : الرجل لم تثبت وثاقته ، فإن توثيق ابن قالويه إياه معارض بتضعيف النجاشي ، فالرجل مجهول الحال ) .
و مثله أحمد بن الحسن القطان و محمد بن زكريا الغلاي البصري لم ينص عليهما بتوثيق و لا بعدمه .
و عليه : لا يتم الاستدلال بهذا الحديث لضعفه سنداً .
أصالة العدم
و مما استدلوا به لنفي ولاية الحكم عن المرأة أصالة العدم ، و قد أوضحت ـ فيما سبق ـ فحوى هذا الأصل ، و كيفية استدلالهم به ، ثم ناقشت في جريان الأصل هنا ، و أوضحت المنهج السليم الذي ينبغي أن يتبع هنا .
و النتيجة التي يسلمنا إليها البحث هي :
1 ـ عدم وجود نص معتبر يعتمد عليه في نفي تولي المرأة الحكم .
2 ـ إن نفي تولي المرأة للإفتاء أو القضاء يقتضي ـ كما يقولون ـ نفي توليها للحكم بطريق أولى .
إن هذا يتطلب ـ إذا صح القياس المشار إليه ـ تحقق نفي تولي المرأة للإفتاء و القضاء ، ثم القياس ، و هو ما لم يتحقق - كما سيأتي .
3 ـ لا إجماع معتبر يركن إليه في نفي تولي المرأة للحكم ، لأن الكاشف منه غير متحقق ، و المدركي ليس بحجة .
4 ـ و الميل إلى اشتراط الذكورة في الحاكم آت من أنه الأمر الغالب ، لأن المجتمعات في أغلبها ذكورية ، درجت على إسناد منصب رئاسة الدولة للرجل من المنطلق المشار إليه .
و لنعقب مسألة تولي المرأة منصب الحكم بمسألة الإفتاء :
تبحث هذه المسألة ـ عادة ـ ضمن شروط المفتي ، و تحت عنوان ( اشتراط الذكورية ) أو ( اشتراط الرجولية ) من موضوع الاجتهاد و التقليد ، الذي كان يبوب قديما في موضوعات علم أصول الفقه ، ثم نقل إلى موضوعات علم الفقه ، و أخال أن هذه النقلة تمت من قبل السيد اليزدي في كتابه ( العروة الوثقى ) .
و يقول الشيخ الجيلاني في بحثه القيم ( شرطية الذكورة في المفتي ) 12 : ( لم نجد من عظمائنا الماضين حديث التضييق إلا من الشهيد الثاني ( قدس سره ) ، فإنه قال في كتاب القضاء من ( الروضة ) ، في شرح عبارة الماتن : ( و في الغيبة ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء ) : ( و هي البلوغ و العقل و الذكورة ) . . . . نعم ، اشتهر هذا الشرط بعدما انتهت نوبة المرجعية و الزعامة الدينية إلى الفقيه الأكبر آية الله العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ فألف رسالته العملية المباركة المسماة بـ ( العروة الوثقى ) ، و صرح فيها باشتراط الذكورة في المفتي ، و سهل الطريق لمن بعده من أعلام الشيعة في انتشار آرائهم في الفتوى بالتعليق و التخشية و الشرح عليها ، فتلقى أكثرهم هذا الاشتراط بالقبول من دون أي غمز فيه ، فمنهم السيد السند آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني ، و الآيات العظام : الحائري اليزدي ، و ضياء الدين العراقي ، و السيد أحمد الخونساري ، و الإمام الخميني ، و الشيخ الأراكي ، و السيد الخوئي ، و السيد الكلبايكاني أعلى الله درجاتهم في بحبوحات الجنات ) . . .
إن كل من بحث موضوع الاجتهاد و التقليد من الأصوليين و الفقهاء ممن تناول مسألة اشتراط الذكورة أو الرجولية في المفتي كانت نتيجة بحوثهم اختلافهم في جواز تولي المرأة لوظيفة الإفتاء .
و في جواز تقليدها : ذهب بعضهم إلى القول بالجواز ، و قال آخرون بعدم الجواز .
و ممن قال بعدم الجواز السيد الخوئي و السيد السبزواري ، فقد جاء في ( التنقيح ) 13 تعليقا على قول السيد اليزدي في ( العروة الوثقى ) : 14 ( يشترط في المجتهد أمور : البلوغ و العقل و الإيمان و العدالة و الرجولية ) ) تحت عنوان ( الرجولية ) ما نصه : ( استدلوا على عدم جواز الرجوع إلى المرأة في التقليد ، بمحسنة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال : قال : قال أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) : ( إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، ولكن أنظروا إلى رجل منكم يعلم . . . ) لدلالتها على اعتبار الرجولية في باب القضاء ، و من المعلوم أن منصب الإفتاء لو لم يكن بأرقى من القضاء فلا أقل من أنهما متساويان ، إذ القضاء أيضا حكم و إن كان شخصيا و بين اثنين أو جماعة رفعا للتخاصم ، و الفتوى حكم كلي يبتلي به عامة المسلمين ، فإذا كانت الرجولية معتبرة في باب القضاء كانت معتبرة في باب الإفتاء بالأولوية .
و يرد على هذا الوجه أن أخذ عنوان الرجل في موضوع الحكم بالرجوع إنما هو من جهة التقابل بأهل الجور و حكامهم حيث منع ( عليه السلام ) عن التحاكم إليهم ، و الغالب المتعارف في القضاء هو الرجولية ، و لا نستعهد قضاوة النساء ولو في مورد واحد ، فأخذ عنوان الرجولية من باب الغلبة لا من جهة التعبد و حصر القضاوة بالرجال ، فلا دلالة للحسنة على أن الرجولية معتبرة في باب القضاء فضلا عن الدلالة عليها في الإفتاء لو سلمنا أن القضاء و الفتوى من باب واحد ، على أنه لم يقم أي دليل على التلازم بينهما ليعتبر في كل منهما ما اعتبر في الآخر بوجه .
و أيضا استدلوا عليه بمقبولة عمر بن حنظلة ، حيث ورد فيها : ( ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا ) .
و قد ظهر الجواب عنها بما بيناه في الحسنة المتقدمة ، مضافا إلى أنها ضعيفة السند ، على أن قوله ( عليه السلام ) : ( من كان ) مطلق ، و لا اختصاص له بالرجال ، إذا لم يقم دليل على أن الرجولية معتبرة في المقلد ، بل مقتضى الإطلاقات و السيرة العقلائية عدم الفرق بين الإناث و الرجال .
هذا ، و الصحيح أن المقلد يعتبر فيه الرجولية ، و لا يسوغ تقليد المرأة بوجه ، و ذلك لأننا قد استفدنا من مذاق الشارع أن الوظيفة المرغوبة من النساء إنما هي التحجب و التستر و تصدي الأمور البيتية ، دون التدخل فيما بينا في تلك الأمور ، و من الظاهر أن التصدي للإفتاء ـ بحسب العادة ـ جعل للنفس في موضع الرجع السؤال ، لأنها مقتضى الرئاسة للمسلمين ، و لا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضا لذلك أبدا ، كيف و لم يرض بإمامتها للرجال في صلاة الجماعة ، فما ظنك بكونها قائمة بأمورهم و مديرة لشؤون المجتمع ، و متصدية للزعامة الكبرى للمسلمين .
و بهذا الأمر المرتكز القطعي في أذهان المتشرعة ، يقيد الإطلاق ، و يردع عن السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقا رجلا كان أو امرأة ) .
و قال السيد السبزواري 15 تعليقا على قول صاحب العروة المتقدم : السيرة المتشرعة ، و انصراف الأدلة عن المرأة ، مع ذكر الرجل في بعضها .
و دعوى أن قيام السيرة على الرجوع إلى الرجال إنما هو لعدم وجود امرأة مجتهدة جامعة للشرائط من كل جهة ، لا أنه مع وجودها لا يرجع إليها ، و أن الانصراف بدوي لا اعتبار به كما ثبت في محله ، وأن ذكر الرجل إنما هو من باب المثال لا التخصيص كما هو الأغلب ، مردودة بأن المستفاد من السيرة قيامها على اعتبار الرجولية حتى مع و جود امرأة مجتهدة كما هو المشاهد بين المتشرعة في عدم رجوعهم إلى النساء مع وجود الرجال في أحكام الدين ، و الانصراف محاوري معتبر ، و نعلم أن ذكر الرجل من باب التخصيص لا المثال ، مع أنه و ردت إطلاقات من الروايات على عدم الاعتماد عليهن ، و يشهد له ما ورد من أنه ( ليس على النساء جمعة و لا جماعة ) إلى أن قال ( عليه السلام ) : ( و لا تولى القضاء و لا تستشار ) .
و ممن لم يذهب إلى القول باشتراط الرجولة في المفتي : السيد الحكيم و السيد رضا الصدر و السيد تقي الطباطبائي القمي .
ففي ( المستمسك )16 : ( و أما اعتبار الرجولة فهو أيضا كسابقه عند العقلاء ( يعني أن اشتراطها غير ظاهر عند العقلاء كالعدالة و الإيمان ) ، و ليس عليه دليل ظاهر غير دعوى انصراف إطلاقات الأولة إلى الرجل ، و اختصاص بعضها به ، لكن لو سلم فليس بحيث يصلح رادعا عن بناء العقلاء ، و كأنه لذلك أفتى بعض المحققين بجواز تقليد الأنثى و الخنثى ) .
و يقول السيد رضا الصدر في كتابه ( الاجتهاد و التقليد ) 17 ، و هو في معرض تعداد شروط المفتي تحت عنوان ( الرجولة ) : ( قيل باشتراط الرجولة في المفتي ، لكن الإطلاقات و سيرة العقلاء حاكمتان بعدم اشتراطهما فيه ، و ليس هناك ما يصلح لتقييد الإطلاقات ، و للردع عن السيرة ( و ) أما قوله ( عليه السلام ) : ( فانظروا إلى رجل منكم ) فلا يصح للتقييد ، و لا الردع لما عرفت في البحث عن اشتراط البلوغ ( و يعني به قوله : لاحتمال كون التعبير بالرجل من باب المثال أو لكونه واردا مورد الغالب ) ، و لعله لذلك قال بعض المحققين بجواز تقليد الأنثى و الخنثى .
و يشهد لعدم اشتراط الرجولة في المفتي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) في حديث ، قال : قلت له : إن معنا صبيا مولودا فكيف نصنع به ؟ فقال : مر أمه تلقى حميدة فتسألها كيف تصنع بصبيانها ، فأتتها فسألتها كيف تصنع ؟ فقالت إذا كان يوم التروية فأحرموا عنه ، و جردوه و غسلوه كما يجرد المحرم ، وقفوا به المواقف ، فإذا كان يوم النحر فارموا عنه و احلقوا رأسه ، ثم زوروا به البيت ، و مري الجارية أن تطوف به بالبيت ، و بين الصفا و المروة .
فإن الظاهر منها الإرجاع إلى حميدة لأخذ الحكم لا لأخذ الحديث ، كما أنها لم ترو حديثا لزوجة الحجاج ، بل أخبرتها بالحكم و بما يجب أن تصنعه في حج ولدها ، و الإخبار بالحكم عن مثلها ليس إلا الإفتاء .
و يشهد لعدم اعتبار الرجولة في المفتي اتفاق أهل السنة على جواز تقليد المرأة فإنهم يعدون عائشة أم المؤمنين من المفتين .
و هذا الاتفاق كان بمرأى من الأئمة الطاهرين جميعا ، و لم يصدر عنهم تخطئة له ، و لو صدر لوصل ، و ذلك يكشف عن إمضائهم له .
و قال السيد تقي الطباطبائي القمي في كتابه ( مباني منهاج الصالحين )18 تعليقا على قول أستاذه السيد الخوئي في تعداده لشروط المفتي : ( . . . و الذكورة ) : ( ما يمكن أن يذكر في هذا المقام أمور :
الأول : الإجماع ، و إشكاله ظاهر .
الثاني : ما رواه أبو خديجة ، بتقريب أن عنوان ( الرجل ) لا يصدق على غير المذكر .
وفيه : أن الرواية واردة في القضاء ، و مقامنا البحث عن الفتوى .
الثالث : ما رواه ابن حنظلة ، و فيه : أن الرواية ضعيفة سندا بـ ( عمر ) ، مضافا إلى أنها واردة في حكم القضاء فلا يرتبط بالمقام .
و في المقام : روي مرسلا ( عن عامر بن عبدالله بن حنظلة بن جذاعة ، قال : قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) : امرأتي تقول بقول زرارة و محمد بن مسلم في الاستطاعة ، و ترى رأيهما ، فقال : ما للنساء و للرأي ) ، و هذه الرواية ساقطة سندا ، فإن عامرا لم يوثق .
الوجه الثالث : ما أفاده سيدنا الأستاذ ، و ملخصه : أنه فهم من مذاق الشرع أن اللازم على المرأة الاستتار ، و لم يرض الشارع بتصدي المرأة للأمور العامة و إدارتها ، و هذا رادع عن السيرة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم .
و هذا الوجه لا يرجع إلى محصل ، و أنه أخص من المدعى ، فإن جواز تقليد المرأة لا يستلزم تصديها للأمور العامة ، و بين المقام و بينه بون بعيد ، إذ يمكن أن تكون امرأة مجتهدة متسترة في كمال التستر و الجاهل يعمل بآرائها لا سيما إذا كان المرجع امرأة مثلها ، كما يجوز إمامتها للنساء ) .
و الآن ـ بعد نقلنا لهذه النصوص الفقهية بكاملها ـ لنحاول أن نستخلص و نلخص ، ثم نحاول إلقاء الضوء عليها نقدا و اختيارا :
أن خلاصة ما استدل به المانعون من تولي المرأة منصب المرجعية و تصديها للإفتاء هو :
الإجماع
ورد بأن الكاشف منه غير موجود ، و المدرك ليس بحجة .
مشهورة أبي خديجة
و موضع الاستدلال فيها هو قول الإمام ( عليه السلام ) : ( و لكن انظروا إلى رجل منكم . . . ) بدعوى أن كلمة ( رجل ) في المشهورة لم ترد بعنوان المثال ، و أنها بعنوان التخصيص ، فتقيد الإطلاقات الواردة في المقام .
ورد هذا الاستدلال بأن كلمة ( رجل ) ـ هنا ـ استعملت مثالا لأن الغالب في المفتين أن يكونوا من الرجال ، و بأن المشهورة جاءت في موضع القضاء ، فلا نظر فيها إلى مقام الإفتاء ، و لا تشمله إلا بقياس الأولوية ، و هو غير تام هنا .
مقبولة عمر بن حنظلة
و موضع الاستدلال فيها هو قول الإمام ( عليه السلام ) : ( ينظران إلى من كان قد روى حديثنا . . ) ، بتقريب أن الظاهر منها إرادة الرجل .
ورد الاستدلال بهذه المقبولة ، بضعف سندها بـ ( عمر بن حنظلة ) ، و أشكل على الاستدلال بها بما أشكل به على مشهورة أبي خديجة .
مرسلة عامر بن عبدالله بن جذاعة
ورد الاستدلال بضعف سندها بـ ( عامر ) فإنه لم يوثق .
الاستدلال بارتكاز المتشرعة
و خلاصته : أن المستفاد من مذاق الشارع المقدس : أن الوظيفة المرغوب فيها من النساء إنما هي التحجب و التستر و التصدي للأمور البيتية ، دون التدخل فيما بينا في تلك الأمور .
و أن هذا المستفاد هو المرتكز في أذهان المتشرعة ، فيقيد به الإطلاق ، و يردع عن السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقا رجلا كان أو امرأة .
و يناقش بأن الارتكاز يختلف باختلاف الأزمنة و الأمكنة ، فمثلا تغطية المرأة و جهها يعد في بعض المجتمعات المسلمة من الحجاب ، بينما لا يعد من الحجاب في مجتمعات مسلمة أخرى ، و كذلك عمل المرأة قد يعد في مجتمع مسلم جائزاً ، و في مجتمع مسلم آخر غير جائز .
على أن ( حجية مثل هذا الارتكاز لا تتم إلا إذا علمنا بوجوده في زمن المعصومين و إقرارهم لأصحابه عليه ، و مثل هذا العلم يندر حصوله جدا .
و تكوين الارتكاز في نفوس الرأي العام لا يحتاج من وجهة نفسية إلى أكثر من إمرار فتوى ما في جيلين أو ثلاثة على الحرمة مثلا ليصبح ارتكازا في نفوس العاملين عليها ) 19 .
و ما ذكر من عدم إنكار المعصومين على إفتاء بعض الصحابيات أمثال عائشة ، و كذلك إرجاع الإمام الصادق ( عليه السلام ) إلى حميدة ، و إفتاؤها في مسائل الحج ، ينافي الارتكاز المذكور ، و يبطله .
1 ـ و استدل القائلون بالجواز :
ـ بسيرة المسلمين بوجود مفتيات في عهود المعصومين و كن يستفتين و يفتين ، و لم ينكر الأئمة المعصومون ذلك .
ـ و يفاد من صحيحة ابن الحجاج إقرار هذه السيرة من قبل الأئمة ( عليهم السلام ) حيث أمر الإمام الصادق ( عليه السلام ) بالرجوع إلى حميدة .
ـ و استدلوا أيضا بسيرة العقلاء و بالإطلاقات التي لم يفرق فيها ـ في مقامنا هذا ـ بين الرجل و المرأة .
وهي ـ واقعها ـ أدلة ناهضة بالإثبات .
و عليه ، نقول : متى توافرت الشروط المطلوب توافرها في المرأة لتكون مفتية جاز لها الإفتاء و جاز لغيرها تقليدها .
و في تولي المرأة منصب القضاء في الدولة الإسلامية :
ـ قال السيد الخوئي في ( مباني تكملة المنهاج ) 20 تعليقا على شرط الذكورة في القاضي : ( بلا خلاف و لا إشكال ، و تشهد على ذلك صحيحة الجمال المتقدمة ( يعني مشهورة أبي خديجة ) ، و يؤيدها ما رواه الصدوق ( قدس سره ) بإسناده عن حماد بن عمرو و أنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه ( عليهم السلام ) في وصية النبي ( صلى الله عليه و آله ) لعلي ( عليه السلام ) قال : ( يا علي ليس على المرأة جمعة و لا جماعة ـ إلى أن قال ـ : و لا تولى القضاء ... الحديث ) .
وقال السيد الأردبيلي في ( فقه القضاء ) 21 :
( قال المحقق الحلي ( قدس سره ) : ( و لا ينعقد القضاء للمرأة ، و إن استكملت الشرائط ) ، و علل الشيخ محمد حسن ( قدس سره ) هذا الرأي بوجود النص ، و يمكن أن نذكر أدلة البحث بالترتيب التالي :
ـ الكتاب :
قال تعالى : ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ... ﴾ 7 .
بيان الاستدلال : أن للرجال قيمومة على النساء ، و لازم القيمومة السلطة و الحكومة .
و لما كان القضاء نوعا من الولاية و الحكومة ، فلو قرر أن تتولى المرأة القضاء ، لكان لها بمقتضى ذلك الولاية و الحكومة على الرجال ، و هذا خلاف المطلوب من الآية المذكورة .
و لكن قليلا من التدبر في الآية و ذيلها يظهران بوضوح أن هذه الآية إنما نزلت بمناسبة تقنين نظام العائلة و مسؤولية كل من الرجل و المرأة فيها ، و على أساس أن القيمومة هي بيد الرجل لا غير .
بمعنى : أن مهمة الحماية و التدبير و الإنفاق ، إنما أوكلت مسؤوليتها إلى الرجل لا المرأة و لا لكليهما .
و عليه : فإن استفادة معنى كلي عام من الآية ليشمل في تطبيقاته حتى الروابط الاجتماعية الأخرى لا يخلو من إشكال .
حيث أن القيام بشؤون المرأة في العلاقات الزوجية و الحياة العائلية المشتركة لا يستلزم بالضرورة أن تكون بقية علاقاتها و مسؤولياتها الاجتماعية كذلك .
و إلا فعلى هذا الفهم يلزم أن نمنع النساء من كل الأعمال الإدارية و النشاطات الحكومية في جميع مرافق الدولة .
فلا يجوز للمرأة أن تتولى مسؤولية واحدة صناعية أو غير صناعية ، و زارية أو نيابية ، أو أية مسؤولية في أية تنظيمات حرفية أو غيرها .
لوجود الولاية و السلطة على الرجال في كلها .
فاستفادة هذا الحكم من هذه الآية الكريمة لا يخلو من إشكال .
ـ السنة :
[ عن ] ( محمد بن علي بن الحسين [ الصدوق ] بإسناده عن حماد بن عمرو و أنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النبي ( صلى الله عليه و آله ) لعلي ( عليه السلام ) قال : يا علي ليس على المرأة جمعة . . . ـ إلى أن قال ـ و لا تولى القضاء ) .
و أقول : هذا الحديث مخدوش سندا و دلالة ، و لا يمكن تصحيحه بأي نحو .
ـ الإجماع :
فقد نقله جمع .
ولم ير مخالف في المسألة ، حتى ذلك الذي نقل عن ( المبسوط ) من أن بعضهم جوز لها القضاء في الموارد التي تقبل فيها شهادتها .
ولكن ـ على الظاهر ـ أن المراد من البعض هو البعض من علماء العامة لا الخاصة .
وعليه : مقدم الخلاف محرز ، ولو أن الإجماع لم يظفر به .
ـ العقل :
فقد قيل : بأن عدم جواز إمامة المرأة حتى للنساء لهو دليل على عدم جواز قضائها عليهم بالأولوية .
و قيل أيضا : بأن عدم تصديها للقضاء منذ صدر الإسلام حتى عهد الأئمة ـ عليهم السلام ـ و إلى يومنا هذا ، مع وجود الكثيرات العالمات منهن ، لهو أقوى دليل على عدم جواز القضاء لها .
بل الذي يهون الخطب أن هذا هو مقتضى الأصل .
و هو : عدم وجود دليل عام أو مطلق في المقام يركن إليه في جواز القضاء لعموم الرجال و النساء حتى نحتاج لإخراج النساء من بينهم إلى دليل معتبر في التخصيص .
و إزاء هذا المقتضي فلا بد من أنرجع إلى الأصول العملية في تحقيق مثل ذلك .
فقد ( روى جابر عن الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : ( و لا تولى المرأة القضاء و لا تولى الامارة ) حكاها في ( الكشف ) و ( المفتاح ) و غيرهما .
و روى : ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) .
هذا و من الواضح للمتأمل أن في جميع ما ذكرناه ـ إلا الذي قلنا في مقتضى الأصل ـ مواضع للنظر ، و لا حاجة إلى مزيد بحث و توضيح ) .
وقال السيد هاشم معروف في ( الولاية و الشفعة و الاجارة من الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ) 22 : ( و أما الذكورة فقد أجمع الفقهاء على اعتبارها في القاضي بشهادة كل من صاحب الدروس و الشهيد الثاني في مسالكه و الشيخ النجفي في جواهره و غيرهم .
هذا بالإضافة إلى ما جاء عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : ( لا تولى المرأة القضاء و لا الامارة ) ، و إلى ما جاء عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أن النبي ( صلى الله عليه و آله ) قال لعلي ( عليه السلام ) : ليس على المرأة جمعة و لا تولى القضاء ) ، و أنه قال : ( لا يفلح قوم وليتهم امرأة ) .
و الظاهر عدم الاختلاف في ذلك ، ولو افترضنا أن المجمعين قد اعتمدوا على هذه المرويات مع ضعف أسانيدها - كما يبدو ذلك - من استشهادهم بها ، ولو افترضنا ذلك يفقد الإجماع قيمته كدليل في المقام .
و يلتقي فقهاء السنة مع الشيعة في اعتبار هذا الشرط عملا بقول الرسول ( صلى الله عليه و آله ) : ( ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) ، و لأنها ناقصة العقل ، ضعيفة الرأي ـ على حد تعبيرهم ـ ، و لأنها لا تصلح للولاية العظمى ، و لا لتولية البلدان ، و من كانت هذه حالها بنظر الدين فأولى بها أن لا تتولى القضاء ، و لم يخالف ذلك سوى ابن جرير حيث أباح لها أن تتولى ما يتولاه الرجل ، و قال أبو حنيفة : يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود ، لأنه يجوز لها أن تكون شاهدة ( إلا ) في غيرها ـ على حد تعبيره ـ ، كما جاء في ( المغني ) لابن قدامة الحنبلي ) . . أي أنه يجوز لها القضاء فيما تقبل فيه شهادتها .
والخلاصة مما تقدم
1 ـ استدلوا بالإجماع ، و لعله عمدة ما استدلوا به .
و يناقش بأن الكاشف منه غير موجود ، و المدركي غير حجة .
2 ـ استدلوا بمشهورة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال ، قال : قال أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه ) .
و هي معتبرة من حيث السند لأنها إما صحيحة أو حسنة .
و موضع الاستدلال هو قوله ( عليه السلام ) : ( انظروا إلى رجل منكم ) .
و يناقش الاستدلال بها : بأن ذكر الرجل جاء لأنه المألوف اجتماعيا حيث لم يعهد آنذاك أن أسند منصب القضاء لامرأة ، و أن غاية ما يدل عليه هذا ، هو جواز أن يكون القاضي رجلا ، أما عدم جواز أن يسند منصب القضاء للمرأة فغير منظور إليه في الرواية .
و معنى هذا : أن يحمل ذكر الرجل في الرواية على أنه من باب المثال لا التنصيص .
3 ـ رواية الصدوق المذكورة في نص السيد الخوئي و نص السيد الأردبيلي الذي علق عليها ـ بعد نقلها لها في الهامش ـ بقوله : ( و أقول : هذا الحديث مخدوش سندا و دلالة ، و لا يمكن تصحيحه بأي نحو ) .
4 ـ و استدلوا بقوله تعالى : ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ... ﴾ 7 .
و ناقش دلالتها السيد الأردبيلي بعد بيان الاستدلال بها في نصه المنقول في أعلاه ، و مرت مناقشتنا لها فيما سبق ، فلتراجع .
5 ـ و استدلوا بالعقل ضمن النقاط التالية :
أ ـ إن عدم جواز إمامة المرأة حتى للنساء يستلزم عدم جواز إسناد منصب القضاء إليها من طريق أولى .
و يناقش :
أولا : بأنه لا دليل عندنا يثبت عدم جواز إمامة المرأة حتى للنساء .
و ثانيا : لا ملازمة في البين لاختلاف الصلاة عن القضاء بأنها عبادة و أهم عبادة ، بينما القضاء ليس كذلك .
ب ـ إن عدم إسناد منصب القضاء للمرأة منذ صدر الإسلام و إلى عصرنا هذا دليل حرمة توليها القضاء .
و يناقش : بأن الإسناد إلى الرجل ـ كما تقدم ـ لأنه الشيء المألوف اجتماعيا ، فلا دلالة فيه على حرمة الإسناد للمرأة ، لأن الإسناد فعل ، و الفعل إذا لم يقترن بما يدل على وجوبه لا يحمل على أكثر من الجواز ، و الجواز لا يدل على حرمة الطرف المقابل له ، إن لم يستفد منه جوازه .
ج- و استدلوا بالأصل ( أصالة العدم ) :
وقد تقدمت مناقشته .
و النتيجة
هي جواز إسناد منصب القضاء للمرأة إذا توفرت فيها الشروط المطلوبة .
و قد يستظهر جواز إسناد منصب القضاء للمرأة من العلامة الطباطبائي صاحب الميزان ، قال كتابه الإسلام الميسر 23 تحت عنوان ( القضاء في الإسلام ) :
( الصفات التي تحققها في القاضي شرعا هي :
1- البلوغ .
2- كمال العقل .
3- الإسلام .
4- العدالة ، بحيث يكون القاضي على نمط سلوكي لا يرتكب فيه الذنوب الكبيرة و لا يصر على الصغيرة .
5- طهارة المولد ، أي أن يكون مولده مشروعا .
6- العلم ، بحيث يحيط بالمسائل الحقوقية و أحكامها عن طريق اجتهاده الشخصي ، و لا يكفي القضاء بفتاوى الآخرين .
7- الضبط ، فلا يستطيع المبتلى بالنسيان أن يمارس القضاء .
8- البصر ، إذ يذهب أكثر الفقهاء بعدم إمكان قضاء الأعمى .
فإذا ما افتقد القاضي إحدى هذه الصفات يعزل من منصب القضاء تلقائيا ) .
وكما ترى ، لم يذكر ( قدس سره ) شرط الذكورة أو الرجولة .
و قول جرير ابن الطبري يرفع عن القائل بالجواز وحشة المسير في طريق عز سالكوه أو قلوا .
على أن اختلاف الزمان يتدخل في اختلاف المستوى لتحمل المسئولية .
فيوم كانت المرأة ربة بيت فقط ، غير مفسوح لها المجال في تعلم العلم و التزود بالثقافة العامة و الخاصة التي تسهم في بناء المجتمع و رفع مستواه إلى ما هو أفضل كانت غير مؤهلة للقيام بأعباء المسؤوليات الكبار .
أما اليوم حيث فسح لها المجال للتعلم و التزود بالثقافة و ممارسة مختلف المهارات العلمية ، و الفعاليات الاجتماعية ، و أثبتت قدرتها من خلال التجارب على تحمل أعباء المسؤوليات الكبار ، أصبحت لا تختلف عن الرجل في ذلك ، و هي و إياه على صعيد واحد من حيث المستوى و القدرة .
- 1. القران الكريم : سورة التوبة ( 9 ) ، الآية : 71 ، الصفحة : 198 .
- 2. الولاية و الشفعة و الإجارة من الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد : 22
- 3. a. b. c. القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 6 ، الصفحة : 418 .
- 4. نهج الفقاهة : 1 / 279 .
- 5. انظر : الدين و الولاية : بحوث في الفكر السياسي الإسلامي ، للشيخ مهدي هادوي طهراني : 98 عن جوهر الكلام 21 / 395
- 6. دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية : 1 / 335 ـ 361 في الفصل العاشر من الباب الرابع ، تحت عنوان ( في اعتبار الذكورة )
- 7. a. b. c. d. e. f. g. h. القران الكريم : سورة النساء ( 4 ) ، الآية : 34 ، الصفحة : 84 .
- 8. في مجمع البيان : 5 /94
- 9. الميزان : 5 / 343
- 10. وسائل الشيعة : 20 / 220 برقم 25473
- 11. في معجم رجال الحديث : 13 / 107
- 12. المنشور في العدد الخامس و السادس ـ السنة الثانية 1418هـ ـ1997م من مجلة ( فقه أهل البيت ) :162
- 13. التنقيح : 1 / 224
- 14. العروة الوثقى : مسألة 22
- 15. مهذب الأحكام : 10 / 39
- 16. مستمسك العروة الوثقى : 1 / 43 ط 4
- 17. الاجتهاد و التقليد : 107
- 18. مباني منهاج الصالحين : 10 / 30
- 19. انظر : الأصول العامة للفقه المقارن :201 ط 2
- 20. مباني تكملة المنهاج : 1 / 10
- 21. فقه القضاء :80 ـ 83
- 22. الولاية و الشفعة و الاجارة من الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد : 11
- 23. الاسلام الميسر : 360 ط العربية 1419هـ