الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

دور المجالس الحسينية في نهضة الامة

لا يخفى على الباحث الخبير أنّ الثورة التي قادها الإمام الحسين (عليه السلام) ضدّ الحاكم الجائر "يزيد بن معاوية" مغتصب الخلافة الإسلامية وراثةً عن أبيه كانت ثورة هادفة إلى إصلاح مسيرة الأمة بعد الفساد الذي طرأ عليها، وكانت قمة الإنحراف قد حصلت وتحقّقت من خلال استلام يزيد للخلافة وإدارة شؤون الأمة الإسلامية مع ما هو عليه من مواصفات الكفر والنفاق والزندقة والإنحراف عن الصراط المستقيم.
وقد أوضح الإمام الحسين (عليه السلام) رفض مبايعته ليزيد بالخلافة بالنص المشهور عنه وهو: (إنَّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجلٌ فاسق فاجر شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة "ومثلي لا يبايع مثله").
هذا الموقف الحسيني الرائع المنطلق من عمق الرسالة الإسلامية أدى إلى أن يستشهد الإمام الحسين (عليه السلام) ومن معه من أهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه المخلصين ويدفعوا حياتهم ثمناً لهذا الموقف الرسالي الإيماني الجهادي.
والموقف الذي اتّخذه الإمام الحسين (عليه السلام) من يزيد ليس موقفاً من شخص يزيد، بل هو موقف من كلّ حاكمٍ ظالم لا يطبّق شرع الله وقانون المسلمين في إدارة شؤون العباد والبلاد الإسلامية، وقد استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) بالنصوص الواردة عن جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الذي رواه عنه والذي جاء فيه: (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لِحُرَم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيِّر عليه بقولٍ ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يُدخِله مدخله) "وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وإنّي أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)". وهذا المقطع هو ما أضافه الإمام الحسين (عليه السلام) كتطبيقٍ لكلام جده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لإظهار فساد النظام الأموي ووجوب الثورة عليه حفظاً للإسلام ولمسيرة الأمة وإيقاظاً وتنبيهاً للمسلمين للأخطار المحدقة بهم مع خليفة كيزيد. وورد عن الإمام الحسين (عليه السلام) نصٌ آخر يبرز فيه مصير الأمة التي يحكمها يزيد فيقول (عليه السلام): (إنّا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُلِيَت الأمة براعٍ مثل يزيد).
وهكذا سار الحسين (عليه السلام) إلى موطن استشهاده في كربلاء وارتحل إلى الله تعالى مقدّماً صورة رائعة وزاهية ومشرقة عن التضحية والفداء والإيثار في سبيل دين الله ورسالته، وقدَّم يزيد وجلاوزته وجلاّدوه أبشع صورة عن الحاكم الظالم المستبيح لكلّ الحرمات والحدود في سبيل الحكم الدنيوي الزائل.
ولهذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) الحديث المعروف: (كلّ أرضٍ كربلاء، كلّ يومٍ عاشوراء)، لأنّ كلّ أرض تُسْفَك فيها الدماء المحرّمة على أيدي الجبارين الظالمين هي كربلاء، لأنّ كربلاء صارت أرض الرمز والمثال لكلّ بقعةٍ من العالم تُراق فيها دماء الأبرياء على يد السفهاء، وكلّ يومٍ يُسفَك فيه الدم الحرام وتُزْهَق فيه أرواح الشرفاء على يد أهل الكفر والنفاق هو يوم عاشوراء، لأنّ ذلك اليوم صار رمزاً خالداً لكلّ الأيام التي يسقط فيها أهل الحق على أيدي أهل الباطل.
فالإمام الحسين (عليه السلام) ومن استشهد معه من أهل بيته وخالص أصحابه عندما قاموا بتلك التضحية، فهي بلا شكّ لم تكن بلا هدف أو غاية، بل لا شكّ أنّ كلّ ذلك كان من أجل هدفٍ عظيم ونبيل ومشرق وهو "تصحيح مسار الأمة والحاكم لتتوافق مع الصراط المستقيم الذي أمرنا الله بالسير عليه" وهذا ما أوضحه الإمام الحسين (عليه السلام) عندما قال معبّراً وموضّحاً لأهداف ثورته: (ألا وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطر، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب "الإصلاح" في أمة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليَّ أصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين).
وهكذا صار الإمام الحسين (عليه السلام) القدوة والمثال والنموذج الحي الخالد لكلّ الثوار والمجاهدين والأحرار في العالم، وكلّ من رفع راية لقتال الظلم يضع نصب عينيه تضحية الحسين (عليه السلام) لكي يقوّي عزيمته ويشدّ إرادته ويصمّم على المضي في سبيل الجهاد حتى نيل الشهادة كالحسين (عليه السلام) أو تحقيق النصر المبين على الكفر والكافرين، وبذلك بقي الحسين (عليه السلام) حيّاً في القلوب والنفوس والعقول، ولم يغب منذ كربلاء وإلى اليوم لحظة من وجدان الناس وضمائرهم وحواسّهم ومشاعرهم.
وما يهمّنا من هذا الموضوع اليوم هو توضيح الصورة التي ينبغي أن نقيم فيها عاشوراء، وكيف نحييها، وكيف نحوّلها إلى فعلٍ ثوري جهادي ينبض بالحياة والحيوية والقدرة على تحريك الجماهير لتثور ضدّ الظلم والعدوان والإحتلال وضدّ كلّ من يحاول قهر إرادة الناس والجماهير ليستقوي عليهم ويصادر حريتهم وقرارهم ويجعل حياتهم حياة مليئة بالذل والهوان والخنوع.
وهذا ممّا لا شكّ فيه لا يتحقّق بمجرّد التعاطف وإظهار الحزن والأسى أو البكاء والعويل، أو لبس الأسود وما شابه ذلك وإن كان كلّ هذا مطلوباً من باب التأسّي بالأئمة الأطهار (عليهم السلام) الذين كانت أيام عاشوراء أيام حزنهم وبكائهم وأسفهم على ذلك الإستشهاد وبتلك الطريقة الدموية البشعة التي ارتكبها الأمويون وعلى رأسهم "يزيد بن معاوية"، ومواساة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام).
إنّ الذي يحقّق التفاعل مع الثورة الحسينية ومع شعاراتها هو ذلك التفاعل الذي يتحوّل إلى جهاد وصبر وإرادة وعزيمة وقوة وقدرة وبأس وشدّة على أعداء الإسلام والأمة الإسلامية وعلى رأسهم في منطقتنا الإسلامية الكيان الغاصب للقدس الشريف ولفلسطين، وفي العالم الشيطان الأكبر "أمريكا" التي تريد الهيمنة والتسلّط على العالم وفرض إرادتها على الشعوب من دون احترام لتاريخهم أو حضارتهم مع السعي لإذلالهم واحتقارهم.
وقد رأينا كيف استطاعت المقاومة الإسلامية المظفّرة في لبنان أن تقهر العدو الإسرائيلي وتجبره على الإنسحاب من أرضنا اللبنانية مندحراً ذليلاً منكسراً بشعار "هيهات منّا الذلّة" وهو شعار "الحسين"، وبشعار "موتٌ في عزّ خيرٌ من حياةٍ في ذلّ" وهو شعار آخر للحسين (عليه السلام).
ورأينا كيف أنّ المجاهدين من أبناء هذه المقاومة كانوا يتسابقون للجهاد والشهادة لكي تدركهم ويلتحقوا بالركب الحسيني من الشهداء والمجاهدين ولكي يكونوا أفراداً وجنوداً في جيش الشهداء الذي يقوده الحسين (عليه السلام) يوم القيامة على مرأى من الجمع الكبير للناس يوم الحساب، وهناك يتمنّى كلّ إنسانٍ لو كان مجاهداً واستشهد ليكون في ذلك الجيش العظيم الذي بذل جنوده أرواحهم في سبيل الله عزّ وجلّ.
من هنا ينبغي أن نهتم لأمر الثورة الحسينية المباركة التي أنتجت لنا كلّ هذا العز والفخر والشرف والكرامة وسموّ المنزلة عند الله وعند الناس، وأن نحافظ على نقاوتها وصفائها، وأن نعرضها على الناس بالطريقة التي تشدّهم إلى الحسين (عليه السلام) وإلى التأسّي به والإقتداء بنهجه وسيرته وجهاده وتضحياته.
ومن هنا أيضاً ينبغي الإبتعاد عن كلّ مظهرٍ سلبي من مظاهر إحياء هذه المناسبة الجليلة، لأنّ المظاهر السلبية تنفّر الناس وتبعدهم عنها وهذا يخالف وصية الأئمة (عليهم السلام) الذين قالوا لنا: (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا).
فالبعض من المظاهر السلبية كالإدماء من خلال التطبير وطرح الشعارات المذهبية الحادة أو الضرب بالسلاسل المعدنية أو المبالغة في عرض الثورة الحسينية كما نسمع من بعض قرّاء العزاء، كلّ هذا يجب الإجتناب عنه وطرحه جانباً لأنّه سوف يكون مضرّاً بسمعة ومكانة الثورة الحسينية.
ولذا سوف نذكر في خاتمة هذه المقالة نماذج من أجوبة القائد الإمام الخامنئي "دام ظله" تشير إلى ما ذكرناه من أنّ الإحياء يجب أن يكون نموذجياً خالياً من أيّة شائبة أو إضافات تعطي انطباعاً غير مطلوب عن الثورة الحسينية.
س – 364 – تقام في الحسينيات والمساجد في أكثر نواحي البلاد خصوصاً في القرى مراسم الشبيه "تمثيل عاشوراء" باعتبارها من التقاليد القديمة، وأحياناً يكون لها أثر إيجابي في نفوس الناس، فما هو حكم هذه المراسم؟
ج – 364 – إن لم تتضمن مراسم الشبيه للأكاذيب والأباطيل ولم تستلزم المفسدة ولم توجب بملاحظة مقتضيات العصر وَهْنَ المذهب الحق فلا بأس فيها، ومع ذلك فالأفضل إقامة مجالس الوعظ والإرشاد والمآتم الحسينية والمراثي بدلاً عنها.
س – 365 – ما هو حكم ضرب الطبل، والصنج، ونفخ البوق، وضرب السلاسل التي يكون في رأس كلّ سلسلة منها موس حاد في مجالس ومواكب العزاء؟
ج – 365 – إن كان استخدام السلاسل الكذائي موجباً لوهن المذهب في نظر الناس أو كان مؤدياً للضرر البدني المعتد به والمعتنى به فلا يجوز، وأمّا استعمال البوق والطبل والصنج بالنحو المتعارف فلا بأس فيه.
س – 371 – يرتفع من مبنى الحسينية ومن عدّة مكبّرات للصوت صوت قراءة القرآن والمجالس الحسينية بصورةٍ عالية جداً بحيث يسمع حتى من خارج المدينة ويؤدي إلى سلب راحة الجيران، بينما يصرّ مسؤولو الحسينية والخطباء على هذا العمل، فما هو حكم ذلك؟
س – 371 – لا يحق لمجاوري الحسينية المطالبة بتعطيل إقامة المراسم والشعائر الدينية في الأوقات المناسبة في الحسينية، ولكن يجب على مقيمي المراسم وأصحاب المجالس للعزاء فيها الإجتناب عن إيذاء ومزاحمة الجيران بحسب المقدور ولو بخفض الصوت للمكبرات وتغيير اتّجاهها إلى داخل الحسينية.
س – 374 – هل يجوز ما شاع مؤخراً من إيجاد ثقب في لحم البدن ووضع قفل فيه أو تعليق معايير الأوزان بحجة العزاء على الإمام الحسين (عليه السلام)؟
ج – 374 – لا وجاهة شرعاً لمثل هذه الأفعال التي توجب وهن المذهب في نظر الناس.
س – 375 – إذا كان الضرب بالقامة في مآتم الأئمة (عليهم السلام) موجباً لموت الضارب، فهل يعد هذا العمل انتحاراً؟
ج – 375 – إذا أقدم على ذلك مع خوف الخطر على النفس منذ البداية وأدّى إلى موته فهو في حكم الإنتحار.
س – 384 – تقام في عاشوراء بعض المراسم مثل الضرب على الرأس بالسيف "التطبير" والمشي حافياً على النار والجمر، ممّا يسبب أضراراً نفسية وجسدية، مُضافاً إلى ما يترتّب على مثل هذه الأعمال من تشويه للتشيّع في أنظار علماء وأبناء المذاهب الإسلامية والعالم، وقد تترتّب على ذلك إهانة المذهب، فما هو رأيكم الشريف بذلك؟
ج – 384 – ما يوجب ضرراً على الإنسان من الأمور المذكورة أو يوجب وهن الدين والمذهب فهو حرام يجب على المؤمنين الإجتناب عنه، ولا يخفى ما في ذلك من المذكورات من سوء السمعة والتوهين عند الناس لمذهب أهل البيت وهذا من أكبر الضرر وأعظم الخسارة.
س – 385 – هل التطبير في الخفاء حلال أم أنّ فتواكم الشريفة عامة؟
ج – 385 – التطبير مُضافاً إلى أنّه لا يُعد عرفاً من مظاهر الأسى والحزن وليس له سابقة في عصر الأئمة عليهم السلام وما والاه ولم يرد فيه تأييد من المعصوم عليه السلام بشكلٍ خاص ولا بشكلٍ عام، يعد في الوقت الراهن وهناً ومشيناً على المذهب فلا يجوز بحال.
وأخيراً نسأل الله العلي القدير أن يوفّقنا لإقامة مراسم عزاء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بالنحو الذي يتحوّل فيه إلى رمزٍ إنساني عام لا إسلامي فقط من خلال مراعاة الجوانب الإيجابية والتركيز عليها، والإنتباه إلى النواحي السلبية والإمتناع عنها حتى نكون ممّن يؤدّون حقّ هذه المناسبة العظيمة التي ندين لها باستمرار الإسلام نظيفاً وصالحاً حتى اليوم لقيادة مسيرة الأمة والبشرية إلى طريق النجاة في الدنيا والآخرة. والحمد لله ربّ العالمين1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.