الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

في مفهوم الحوار الوطني

الحوار الوطني من أحدث المفاهيم التي دخلت على حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومن أكثرها حيوية وتقدماً، وهو المفهوم الذي أضاف زخماً وانتعاشاً، واكتسب قدراً كبيراً من الاهتمام بين مختلف أوساط النخب على كافة انتماءاتها واتجاهاتها، وتحول إلى إطار ينظم التداول في قضايا الشأن العام، ويفتح أوسع حديث حول حاضر الوطن ومستقبله. ولأهمية هذا المفهوم وقيمته الذاتية والموضوعية، الراهنة والمستقبلية، كان بحاجة إلى تكثيف النظر إليه، وتعميق التأمل فيه، وتوسيع المدارك حوله، ومن أجل تحويله إلى مفهوم له بنيته النسقية المكتملة، ومكوناته الناضجة، وتركيبته الثرية، لكي يحافظ على زخمه وديناميته، ويكون باعثاً على تجديد وتطوير الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية. وقد ساهم انعقاد اللقاء الوطني للحوار الفكري الأول بالرياض في يونيو من هذا العام، والذي كان حدثاً لافتاً في وقته ومازال، واستحوذ على اهتمامات واسعة، وأثار نقاشات لم تنقطع إلى هذا الوقت، هذا اللقاء ساهم في تحريك مفهوم الحوار الوطني، وأضاف له أبعاد مهمة. ومع الإعلان عن تأسيس مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، كمركز دائم للحوار والحوار الوطني، تجدد الحديث وتزايد الاهتمام مرة أخرى بمفهوم الحوار الوطني.

والسؤال الذي يطرح في هذا الشأن، ما هو مفهوم الحوار الوطني؟ أو كيف نطور الحوار الوطني إلى مفهوم له ملامحه ومكوناته وعناصره المحددة والبارزة؟
ما سوف أطرحه هو محاولة لتكوين رؤية حول هذا المفهوم الذي بحاجة إلى تفكيك وتركيب، وهي رؤية اجتهادية تقبل الموافقة والمخالفة، وإمكانية التناغم والائتلاف، أو التوازي والتجاور مع اجتهادات وتصورات أخرى في هذا الشأن. وابتداء يمكن القول بأن الحوار الوطني هو من المفاهيم الثنائية المركبة من عنصرين، عنصر الحوار وعنصر الوطني. الحوار يعبر عن عنصر الأداة والأسلوب والطريقة والمنهج، وبالمعنى الكلي يعبر عن منطق العلاقة والتعامل، والوطني يعبر عن عنصر القضية والمحتوى والمضمون والجوهر، وبالمعنى الكلي يعبر عن منطق القضايا الكلية والعامة. الحوار يرمز إلى الجانب الذاتي اللامرئي، والوطني يرمز إلى الجانب الموضوعي الذي لا يكون إلا مرئياً. الحوار يتبدل ويتطور في أشكاله ودرجاته وأنماطه ويكون بهذا اللحاظ من المتغيرات، والوطن هو الوطن، فهو الذي يرسم الثوابت وهو الثابت الذي لا يتبدل أو يتغير، عمليات تكوين الفهم حول الوطن قد تتبدل وتتغير لكن الوطن يبقى هو الوطن الثابت الذي لا يتبدل أو يتغير. وبضم العنصرين إلى بعضهما يتحدد المعنى الكلي والعام، فكل عنصر يضيف إلى الآخر من دلالاته ومكوناته وأبعاده، فالحوار يضيف إلى أن يكون هو منطق التعامل الصائب والصحيح مع الوطن وقضاياه وشؤونه، والوطن يضيف إلى أن يكون الحوار على مستوى الوطن وفضاءه ومساحته، أي إطلاق الحوار على مستوى الوطن برمته، فهو حوار الوطن مع نفسه، وحوار الأمة مع نفسها، الحوار الذي يفترض فيه أن يستوعب الجميع، ويعمل على اكتشاف الجميع، ويثرى من الجميع، والوطن لا يلزم إلا أن يكون التعامل معه بمنطق الحوار وبكل آدابه وفضائله وأخلاقياته، كما يلزم أن يكون الحوار بأعلى درجات الوعي والمسؤولية.
أما مكونات هذا المفهوم، مفهوم الحوار الوطني، منها:
أولاً: ضرورة أن يخرج الجميع من تلك الأطر الضيقة والفضاءات المحدودة، ومن تلك النظرات التي تتشكل حول الذات، وتجعل من الذات مركزاً، أو ما يشبه المركز، إلى أن يكون الوطن هو الإطار والفضاء والمركز، وضرورة تجاوز الانغلاق ومنطق الانغلاق بكافة صوره وأنماطه وأبعاده الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية، في المقابل تكريس مبدأ الانفتاح، وبناء جسور التواصل، وتعزيز مفهوم التضامن، وترسيخ نهج الوحدة الوطنية.
ثانياً: ضرورة الارتقاء إلى مستوى شرائط ومقتضيات الحوار الوطني، وتطوير مستويات الفهم والمعرفة والإدراك لتلك القضايا والموضوعات الكبرى والأساسية، وإتقان طرائق التعامل معها، والتي تمثل جوهر الحوار الوطني. وبقدر ما يتطور مستوى الفهم والمعرفة والإدراك بقدر ما يتطور ويتنامى مستوى الحوار الوطني، وبقدر ما يزداد نضجاً وتبلوراً. وهذا يعني ضرورة أن يتأسس الحوار الوطني على علم ومعرفة وعلى حقائق، وليس على مجرد عواطف ومشاعر ومقولات أدبية وبيانية.
ثالثاً: إن الحوار الوطني لا يعني على الإطلاق البحث عن المطابقة الصارمة، والائتلاف التام، الذي لا مساحة فيه للتعدد والاختلاف والتنوع في الأفكار والتصورات والاجتهادات، والتفكير بهذه الطريقة لا يؤسس حوارا، و لا يصدق عليه وصف الحوار أساساً. لأن الحوار إنما ينطلق من قاعدة الاختلاف ويتأسس عليه، ويتطور من خلاله، ويثرى بواسطته. وبالتالي فإن الحوار ليس من مقاصده الانتهاء إلى الرأي الواحد، أو إلى أحادية الرؤية، أو الانتصار لرأي واحد، أو لرؤية أحادية، فهذا لا يحقق الغاية من الحوار على مستوى الوطن.
رابعاً: لأن الاختلاف والتنوع هو سنة الحياة، وضرورة الاجتماع، ومن مقتضيات العقل والحكمة، لذلك ينبغي أن يتشكل الحوار الوطني على قاعدة التسامح، الذي يحفظ للجميع الحق في الاختلاف، وفي التعبير عن الرأي، ويجعل القلوب والعقول تتقبل هذا الاختلاف. التسامح الذي ينبغي أن يشكل المناخ العام للحوار الوطني، والمهيمن على أجواءه، و الموجه لمساراته. لأن التسامح هو الذي يحفظ الاعتدال في الاختلاف، ويحفظه من أن يتحول إلى ممارسات وسلوكيات سلبية أو ضارة.
خامساً: إن غاية الحوار الوطني هو تحريك عجلة التطور العام والتقدم الشامل، الذي يستوعب مختلف المجالات، ويتحول إلى إنجازات ومكتسبات على مستوى التقدم الاجتماعي، والتطوير السياسي، والتحديث الثقافي، والنهوض الاقتصادي، والإنماء التربوي.
سادساً: إن الحوار الوطني مهمة لا تتوقف أو تنتهي، لأن بناء الوطن وإعماره، مهمة لا تتوقف، ولأن الأجيال في حالة تعاقب مستمر ولكل جيل عصره ومتطلباته، ولأن العصر الذي نعيش فيه يتغير ويتقلب بسرعة، ولأن المعارف والعلوم تتراكم وتتضاعف بلا توقف1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 1 أكتوبر 2003م، العدد 13549.