مجموع الأصوات: 105
نشر قبل 8 سنوات
القراءات: 31219

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

ليلة القدر في القرآن الكريم

﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ 1 .

[1] عندما انهمر فيض الوحي على قلب الرسول صلى الله عليه وآله في ليلة القدر في شهر رمضان ، وتنزلت ملائكة الرحمة و الروح بالقرآن ، رسالة السلام ، وبشير الرحمة ، عندئذ خلد الله هذه المناسبة المباركة التي عظمت في السماوت و الارض ، وجعلها ليلة مباركة خيراً من ألف شهر .
إنها حقاً عيد الرحمة ، فمن تعرض لها فقد حظى بأجر عظيم !! فقال الله سبحانه : ﴿ ... إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 2.
وكذلك قال ربنا سبحانه : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ 3.
كذلك نزل القرآن كله على قلب الرسول في تلك الليلة ، ثم نزل بصورة تدريجية طيلة ثلاث و عشرين عاماً ، لتأخذ موقعها من النفوس ، وليكون كتاب تغيير يبني الرسول به أمة وحضارة ، ومستقبلاً مشرقاً للإنسانية .
وكذلك قال ربنا سبحانه : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... 4.
ومعروف أن القرآن تنـزل بصورته المعهودة في أيام السنة جميعاً ، فله إذاً نزلة أخرى جملة واحدة .

والسؤال : لماذا سميت هذه الليلة بليلة القدر ؟

يبدو أن أهم ما في هذه الليلة المباركة تقدير شؤون الخلائق ، وقد استنبط اللفظ منه ، فهي ليلة الأقدار المقدرة ، كما قال ربنا : ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ 5 .
وقال بعضهم : بل لأنها ليلة جليلة القدر ، قد أنزل الله فيها كتاباً قديراً ، ولأن الذي يحييها يكون عند الله ذا قدر عظيم .
[2] من ذا الذي يستطيع أن يدرك أبعاد تلك الليلة التي باركها الله لخلقه بالوحي ، وجعلها زماناً لتقدير شؤون العالمين ؟ من ذا الذي يدرك عظمة الوحي ، وجلال الملائكة ، ومعاني السلام الإلهي ؟ إنها ليست فوق الإدراك بصورة مطلقة ، ولكنها فوق استيعاب الإنسان لجميع أبعادها ، وعلى الإنسان ألا يتصور أنه قد بلغ علم ليلة القدر بمجرد معرفة بعض أبعادها ، بل يسعى ويسعى حتى يبلغ المزيد من معانيها ، وكلما تقدم في معرفتها كلما استطاع الحصول على مغانم أكبر منها .

﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ

سبق القول من البعض : إن هذه الجملة وردت في القرآن لبيان أهمية الحقيقة التي تذكر بعدها .
بينما تترك الحقيقة مجملة إذا ذكرت عبارة وما يدريك . . هكذا قالوا ، واعتقد أن كلتا الجملتين تفيدان تعظيم الحقيقة التي تذكر بعدها .
[3] كيف نعرف أهمية الزمان ؟ أليس عندما يختصر المسافة بيننا وبين أهدافنا ، فاذا حصلت في يوم على ميلون دينار ، وكنت تحصل عليه خلال عام أليس هذا اليوم خير لك من عام كامل ؟ كذلك ليلة القدر تهب للإنسان الذي يعرف قدرها ما يساوي عمراً مديداً؛ ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر . وبتعبير أبلغ؛ ألف شهر .

﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ

أجل الواحد منا مسمى عند الله ، وقد يكون قصيراً ، قد لا يبلغ الواحد منا معشار أهدافه فيه ، فهل يمكن تحدي هذا الواقع ؟ بلى؛ ولكن ليس بالصورة التي يتخيلها الكثير ، حيث يتمنون تطويل عمرهم ، وقليل هم الذين يحققون هذه الأمنية ، لأن عوامل الوفاة عديدة وأكثرها خارج عن إرادة الإنسان . فما هو إذاً السبيل إلى تمديد العمر ؟ إنما بتعميقه ، ومدى الانتفاع بكل لحظة لحظة منه . تصور لو كنت تملك قطعة صغيرة من الأرض ، ولا تستطيع توسيعها فكيف تصنع ؟ إنك سوف تبني طوابق فيها بعضها تحت الأرض وبعضها يضرب في الفضاء وقد تناطح السحب . كذلك عاش بعض الناس سنين معدودات في الأرض ، ولكنهم صنعوا عبرها ما يعادل قروناً متطاولة؛ مثلاً عمر رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله لم يتجاوز الثلاث والستين ، وأيام دعوته ثلاث وعشرون عاماً منها ، ولكنها أبعد أثراً من عمر نوح المديد ، بل من سني الأنبياء جميعاً . وهكذا خص الله أمته بموهبة ليلة القدر ، التي جعلها خيراً من ألف شهر ، ليقدروا على تمديد أعمارهم في البعد الثالث (أي بعد العمق) ولعل الخبر المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله يشير إلى ذلك ، فقد روي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته ألاّ يبلغوا من العمر مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر ، وجعلها خيراً من ألف شهر 6 .
وفي حديث آخر؛ أنه ذكر لرسول الله رجل من بني إسرئيل أنه حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب من ذلك رسول الله عجباً شديداً ، وتمنى أن يكون ذلك في أمته ، فقال : يا رب! جعلت أمتي أقصر الناس أعماراً ، وأقلها أعمالاً . فأعطاه الله ليلة القدر ، وقال: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ 7 الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك من بعدك إلى يوم القيامة في كل رمضان 8 .
إنك قد تحيي ليلة القدر بالطاعة فيكتب الله اسمك في السعداء ، ويحرم جسدك على نار جهنم أبداً ، وذلك بما يوفقك له من إصلاح الذات إصلاحاً شاملاً . من هنا جاء في الدعاء المأثور في ليالي شهر رمضان مجموعة من البصائر التي تتحول بتكرار تلاوتها إلى أهداف وتطلعات يسعى نحوها المؤمن بجد ومثابرة ، ويجتهد في طلبها من ربه .
"اللهم أعطني السعة في الرزق ، والأمن في الوطن ، وقرة العين في الأهل والمال والولد ، والمقام في نعمك عندي ، والصحة في الجسم ، والقوة في البدن ، والسلامة في الدين ، واستعملني بطاعتك وطاعة رسولك محمد صلى الله عليه وآله أبداً ما استعمرتني ، واجعلني من أوفر عبادك عندك نصيباً في كل خير أنزلته وتنزله في شهر رمضان في ليلة القدر" 9 .
وهكذا ينبغي أن يكون هدفك في ليلة القدر تحقيق تحول جذري في نفسك ، تحاسب نفسك بل تحاكمها أمام قاضي العقل ، وتسجل ثغراتها السابقة ، وانحرافاتها الراهنة ، وتعقد العزم على تجاوز كل ذلك بالندم من إرتكاب الأخطاء ، والعزم على تركها والالتجاء الى الله ليغفر لك ما مضى ويوفقك فيما يأتي .
وقد جاء في تأويل هذه الآية : أنها نزلت في دولة الرسول التي كانت خيراً من دول الظالمين من بني أمية ، حيث نقل الترمذي عن الحسن بن علي عليهما السلام : "أن رسول الله صلى الله عليه وآله أري بني أمية على منبره فساءه ذلك ، فنزلت ﴿ ... إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ 10 يعني نهراً في الجنة ، ونزلت ﴿ ... إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ 11 يملكها بعدك بنو أمية" 6 وكانت حكومة بني أمية ألف شهر لا تزيد ولا تنقص .
وهكذا فضيلة حكومة العدل وأثرها العظيم في مستقبل البشرية أكثر من ألف شهر من حكومة الجور .
لماذا أمست ليلة القدر خيراً من ألف شهر ؟ لأنها ملتقى أهل السماء بأهل الأرض ، حيث يجددون ذكرى الوحي ، ويستعرضون ما قدر الله للناس في كل أمر .

﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ ...

والكلمة أصلها تتنزّل ، وصيغتها مضارع تدل على الاستمرار ، فنستوحي منها؛ إن ليلة القدر لم تكن ليلة واحدة في الدهر ، وإنما هي في كل عـام مرة واحدة ، ولذلك أمرنا النبي صلى الله عليه وآله بإحيائها .
فقد جاء في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه لما حضر شهر رمضان ـ وذلك في ثلاث بقين من شعبان ـ قال لبلال : "ناد في الناس" فجمع الناس ، ثم صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أيها الناس؛ إن هذا الشهر قد خصكم الله به ، وحضركم ، وهو سيد الشهور ، ليلة فيه خير من ألف شهر" 12 .
وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لابن العباس : "إن ليلة القدر في كل سنة وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله . فقال ابن عباس من هم ؟ قال عليه السلام : " أنا وأحد عشر من صلبي" 13 .

﴿ ... وَالرُّوحُ ...

ما هو الروح ؟ هل هو جبرائيل عليه السلام أم هم أشراف الملائكة ؟ أم هم صنف أعلى منهم وهم من خلق الله ، أم هو ملك عظيم يؤيد به أنبياءه ؟
استفاد بعضهم من الآية التالية ، أن الروح هو جبرئيل عليه السلام ، حيث قال ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ 14 .
واستظهر البعض من الآية التالية ، أن الروح هي الوحي ، فإن الملائكة يهبطون في ليلة القدر به قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ... 15.
وجاء في حديث شريف ما يدل على أن الروح أعظم من الملائكة ، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه سئل هل الروح جبرئيل عليه السلام ؟ فقال : جبرئيل من الملائكة ، والروح أعظم من الملائكة ، أليس أن الله عز وجل يقول :﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ ... 16 17 .
وقد قال ربنا سبحانه : ﴿ ... وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ... 18 مما يدل على أن الروح هو ما يؤيد الله به أنبياءه .
ويبدو أن الروح خلق نوراني عظيم الشأن عند الله ، وأن الله ليس يؤيد أنبياءه عليهم السلام به فقط ، وإنما حتى الملائكة ومنهم جبرائيل يؤيدهم به . وبهذا نجمع بين مختلف الاحتمالات والأدلة ، والله العالم .

﴿ ... فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ...

عظيمة تلك الليلة التي تتنـزّل الملائكة فيها ، وعظيمة لأن الأعظم منهم هو الروح يتنـزّل أيضاً ، ولكن لا ينبغي أن نتوجه الى عظمة الروح بعيداً عن عظمة الخالق سبحانه ، فإنهم عباد مكرمون ، مخلوقون مربوبون ، وليسوا أبداً بأنصاف آلهة ، وليس لهم من الأمر أي شيء ، ولذلك فإن تنـزّلهم ليس باختيارهم ، وإنما بإذن ربهم .

﴿ ... مِنْ كُلِّ أَمْرٍ

قالوا : معناه لأجل كل أمر ، أو بكل أمر . فالملائكة ـ حسب هذا التفسير ـ يأتون لتقدير كل أمر ، ولكن أليس الله قد قدر لكل أمر منذ خلق اللوح وأجرى عليه القلم ؟ بلى؛ إذاً فما الذي تتنـزّل به الملائكة في ليلة القدر ؟ يبدو أن التقديرات الحكيمة قد تمت في شؤون الخلق ، ولكن بقيت أمور لم تحسم وهي تقدر في كل ليلة قدر لأيام عام واحد ، فيكون التقدير خاصاً ببعض جوانب الأمور ، وليس كل جوانبها . بلى؛ فالتقديرات جميع الأمور ، ولكن من كل أمر جانباً . وهكذا يكون حرف "من" للتبعيض وهو معناه الأصلي ، وهو أيضاً ما يستفاد من النصوص المأثورة في هذا الحقل .
سأل سليمان المروزي الإمام الرضا عليه السلام وقال : ألا تخبرني عن ﴿ ... إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 2 في أي شيء نزلت ؟ قال : "يا سليمان؛ ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة الى السنة ، من حياة أو موت, أو خير أو شر أو رزق . فما قدره الله في تلك الليلة ، فهو من المحتوم " 19 .
وهكذا تختلف بصائر الوحي عن تصورات البشر ، فبينما يزعم الإنسان أنه مجبور لا أثر لمشيئته في حياته يعطيه الوحي قيمة سامية ، حيث يجعله قادراً على تغيير مجمل حياته؛ من سعادة وشقاء ، وخير وشر ، ونفع وضر . . كل ذلك بإذن الله ، وعبر الدعاء الى الله في ليلة القدر.
إن البشرية في ضلال بعيد عن حقيقة المشيئة ، فهم بين من ظن أنه صاحب القرار ، وقد فوض الله الأمور إليه تفويضاً مطلقاً ، فلا ثواب ولا عقاب ولا مسؤولية ولا أخلاق ، وبين من زعم أنه مضطر تسوقه الأقدار بلا حرية منه ولا اختيار .
ولكن الحق هو أمر بين أمرين؛ فلا جبر لأننا نعلم يقيناً أن قرارنا يؤثر في حياتنا ، أولست تأكل وتشرب وتروح وتأتي حسب مشيئتك وقرارك ؟ وكذلك لا تفويض لأن هناك أشياء كثيرة لا صنع لنا فيها؛ كيف ولدت ، وأين تموت ، وماذا تفعل غداً ، وكم حال القضاء بينك وبين ما كنت تتمناه ، وكم حجزك القدر عن خططك التي عقدت العزمات على تطبيقها ؟
بلى؛ إن الله منح الإنسان قدراً من المشيئة لكي يكون مصيره بيده ، إما إلى الجنة وإما إلى النار ، ولكن ذلك لا يعني أنه سيدخل الجنة بقوته الذاتية أو النار بأقدامه , وإنما الله سبحانه هو الذي يدخله الجنة بأفعاله الصالحة ، أو يدخله النار بأفعاله الطالحة .
إذاً فالإنسان يختار ، ولكن الله سبحانه هو الذي يحقق ما اختاره من سعادة وشقاء ، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . وها هنا تتركز أهمية الدعاء وبالذات في ليلة القدر التي هي ربيع الدعاء ، وقد تتغير حياة الإنسان في تلك الليلة تماماً ، فكم يكون الإنسان محروماً وشقياً إن مرت عليه هذه الليلة دون أن يستفيد منها شيئاً .
ويتساءل البعض : أليس هذا يعني الجبر بذاته ؟ فإذا كانت ليلة تحدد مصير الإنسان فلماذا العزم والسعي والاجتهاد في سائر أيام السنة ؟!
كلا؛ ليس هذا من الجبر في شيء ، ونعرف ذلك جيداً إذا وعينا البصائر التالية :
البصيرة الأولى : يبدو أن التقدير في هذه الليلة لا يطال كل جوانب الحياة ، فهناك ثلاثة أنواع من القضايا :
نوع قدر في ليلة واحدة في تاريخ الكون ، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتدري ما معنى ليلة القدر ؟ فقلت : لا يا رسول الله ! فقال : إن الله تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فكان فيما قدر عز وجل ولايتك وولاية الأئمة من ولدك إلى يوم القيامة" 20 .
والنوع الثاني : تقديرات تتم في السنة التي يعيشها الإنسان .
بينما النوع الثالث : تبقى مفتوحة تخضع لمشيئة الإنسان وهي الفتنة . مثلاً؛ أن الله يقدر للإنسان في ليلة القدر الثروة ، أما كيف يتعامل الإنسان مع الثروة ، هل ينفق منها أم يبخل بها ويطغى ؟ فان ذلك يخضع لمشيئة الإنسان وبه يتم الابتلاء . كذلك يقدر الله للإنسان المرض ، أما صبر المريض أو جزعه فانه يتصل بإرادته .
ومع ذلك ؛ فإن لله البداء ، إذ لا شيء يحتم على ربنا سبحانه ، وقد قال سبحانه : ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ 21 وقد جاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق عليه السلام قال : "إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة الى السماء الدنيا ، فيكتبون ما يكون من قضاء الله في تلك السنة ، فإذا أراد الله أن يقدم شيئاً أو يؤخره ، أو ينقص أمر الملك أن يمحو ما شاء ، ثم أثبت الذي أراد" . قلت : وكل شيء هو عنده ومثبت في كتاب ؟ قال : "نعم" . قلت فأي شيء يكون بعده ؟ قال : "سبحان الله ! ثم يحدث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى" 22 .
هكذا تبقى كلمة الله هي العليا ، ومشيئته هي النافذة ، ولكن الاتكال على البداء ، وتفويت فرصة ليلة القدر نوع من السذاجة ، بل من السفه والخسران .
البصيرة الثانية : إن الله يقدر لعباده تبعاً لحكمته البالغة ولقضائه العدل ، فلا يقضي لمؤمن صالح متبتل ما يقدر لكافر طالح ، وما ربك بظلام للعبيد . وهكذا يؤثر الإنسان في مصير نفسه بما فعله خلال العام الماضي ، وما يفعله عند التقدير في ليلة القدر ، وما يعلمه الله من سوء اختياره خلال السنة . مثلاً؛ يقدر الله لطاغوت يعلم أن لا يتوب بالعذاب في هذه السنة لأنه سوف يظلم الناس خلالها ، ولو افترضنا أنه وفق للتوبة ولم يظلم الناس خلالها ، فإن لله البداء في أمره ، ويمحو عنه السقوط ويمد في ملكه ، وقد قال ربنا سبحانه: ﴿ ... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... 23 .
البصيرة الثالثة : إن الناس يزعمون أن هناك أحداثاً تجري عليهم ، لا صنع لهم فيها كموت عزيز ، والاصابة بمرض عضال ، والابتلاء بسلطان جائر ، أو بالتخلف ، أو بالجفاف ، ولكن الأمر ليس كذلك إذ أن حتى هذه الظواهر التي تبدو أنها خارج إطار مشيئة الإنسان إنما تقع بإذن الله وتقديره وقضائه ، وأن الله لا يقضي بشيء إلاّ حسبما تقتضيه حكمته وعدالته ، ومن عدله أن يكون قضاؤه وتقديره حسب ما يكسبه العباد ، أولم يقل ربنا سبحانه : ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ... 24.
وإن في ذلك لكرامة بالغة لمشيئة الإنسان أن يجعل الله تقديره وفق قرار ما ، أليس كذلك ؟
[5] السلام كلمة مضيئة تغمر الفؤاد نوراً وبهجة ، لأنها تتسع لما تصبو إليه النفس ، وتتطلع نحوه الروح ، ويبتغيه العقل ، فلا يكون الإنسان في سلام عندما يشكو من نقص في أعضاء بدنة ، أو شروط معيشته ، أو تطلعات روحه . فهل للمريض سلام ، أم للمسكين عافية ، أم للحسود أمن ؟ كلا؛ إنما السلام يتحقق بتوافر الكثير الكثير من نعم الله التي لو افتقرنا الى واحدة منها فقدنا السلام . أولم تعلم كم مليون نعمة تتزاحم على بدنك حتى يكون في عافية ، وكم مليون نعمة تحيط بمجمل حياتك وتشكلان معا سلامتها . وليلة القدر ليلة السلام ، حيث يقول ربنا سبحانه : ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ 25.
حينما تنسب هذه الموهبة الإلهية الى الزمن نعرف أنها تستوعبه حتى لتكاد تفيض منه . فالليل السلام كل لحظاته سلام لكل الأنام ، كما اليوم السعيد كله هناء وفلاح ، بينما اليوم النحس تتفجر النحوسة من أطرافه .

فماذا يجري في ليلة القدر حتى تصبح سلاما الى مطلع الفجر ؟

لا ريب أن الله سبحانه يغفر في تلك الليلة لفئام من المستغفرين ، وينقذهم ـ بذلك ـ من نار جهنم ، وأي سلام أعظم من سلامة الإنسان من عواقب ذنوبه في الدنيا والآخرة .
من هنا يجتهد المؤمنون في هذه الليلة لبلوغ هذه الأمنية وهي العتق من نار جهنم ، ويقولون بعد أن ينشروا المصحف أمامهم : " اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه ، وفيه اسمك الأكبر ، وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار" 26 .
كذلك يقدر للإنسان العافية فيها ، وإتمام نعم الله عليه ، وقد سأل أحدهم النبي صلى الله عليه وآله : أي شيء يطلبه من الله في هذه الليلة فأجابه ـ حسب الرواية ـ " العافية" 27 .
وقد تدخل على فرد هذه الليلة وهو من الأشقياء فيخرج منها سعيداً ، أوليست الليلة سلاماً ؟ من هنا ينبغي للإنسان أن يدعو فيها بهذه الكلمات الشريفة :
اللهم امدد لي في عمري ، وأوسع لي في رزقي ، وأصح لي جسمي ، وبلغني أملي ، وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء ، واكتبني من السعداء ، فإنك قلت في كتابك المنـزل على نبيك المرسل صلواتك عليه وآله : ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ 21 28 .
وفي هذه الليلة يقدر الله الرزق لعباده ، وهو جزء من السلام والأمن ، وعلى الإنسان أن يطلب منه سبحانه التوسعة في رزقه .
كما يقدر الأمن والعافية والصحة والذرية ، وكلها من شروط السلام .
حقاً؛ إن المحروم هو الذي يحرم خيرها كما جاء في حديث مأثور عن فاطمة الزهراء عليها السلام أنها كانت تأمر أهلها بالاستعداد ، لاستقبال ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان المبارك بأن يناموا في النهار لئلا يغلب عليهم النعاس ليلاً وتقول : " محروم من حرم خيرها " 29 .
وقال البعض : إن معنى السلام في هذه الآية ؛ أن الملائكة يسلمون فيها على المؤمنين والمتهجدين في المساجد ، وأن بعضهم يسلم على البعض . وقيل : لأنهم يسلمون على إمام العصر عليه السلام وهم يهبطون عليه 30 .