الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

مشروع الاسلام للوحدة

من اخطر ما ابتليت به البشرية الصراعات بين بني آدم، علماً ان الله سبحانه وتعالى قد انذر بني آدم بانهم عندما يهبطون الى الارض سوف يكون بعضهم لبعض عدوا، وقد حدث اول مظهر من مظاهر الصراع عندما قتل قابيل أخاه هابيل. ومنذ ذلك الحين استمرت المعارك الدامية حيناً، والباردة أحياناً أخرى.

ونحن لو تعمقنا في الأمر لوجدنا ان مشكلة الصراعات بين أبناء آدم تمثل اعمق واخطر معضلة ابتليت بها البشرية، ويكفينا في هذا المجال ان نلقي نظرة واحدة على ميزانيات التسلح في هذا العالم، وعلى الحروب التي تبتلع جهود البشرية، والاذاعات والصحف ووسائل الاعلام الاخرى الموظفة لهذه الحروب، لنعرف مدى عمق هذه المأساة.

اقرار الوحدة جوهر الرسالات الالهية

وقد أرسل الله عز وجل رسله لكي ينقذوا البشرية من مآسيها، ويقدموا اليها الحلول الناجعة والكفيلة بضمان سعادتها، ومن جهة اخرى فقد بينوا الأسس الواضحة والمتينة لإقرار الوحدة بين بني آدم.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا ان نصف القرآن الكريم يعالج هذه المشكلة الحادة في حياة الانسان، وكلما استطعنا ان نقترب من روح القرآن، وجوهر آياته الحياتية والحضارية، استطعنا ان نكون بمنجى عن هذا الداء العضال؛ اي داء الصراع بين بني آدم.

والصراع هذا يبدأ من الزوج مع زوجته، ومن الأخ مع أخيه، والجار مع جاره، ويستمر الى ان يتخذ شكل الحرب الباردة التي نراها سائدة اليوم بين الدول الكبرى في العالم.

نظريات الوحدة

ان هذه المشكلة العميقة الواسعة التي لم نر ان الانسان قد استطاع التخلص منها في حقبة من حقب التاريخ، جاء القرآن الكريم ليقدم الحلول الناجحة والحاسمة لها. وقبل كل شيء لابد ان نوضح ان العلماء والمفكرين، وعلماء الاجتماع قدموا من اجل اقرار الوحدة بين افراد المجتمع ثلاث نظريات:

1- ان الوحدة لابد ان تقوم بالقوة ومن خلال الدكتاتورية التي تضللها سحابة من التضليل الاعلامي، وهذه هي النظرية الفاشية والشيوعية.

2- ان الوحدة لايمكن ان تقوم إلا على اساس الثروة المدعومة بالاعلام او التضليل الدعائي، وهذه الثروة- حسب ما يزعم اصحاب هذه النظرية- هي التي لابد ان تحل مشاكل البشرية، وهي التي لابد ان تهيمن على الطاقات وتوحدها. والنظام الرأسمالي الذي يؤمن بهذه النظرية يطرح شعاراً مفاده ان جميع العالم لابد ان يخضع للرأسمال. ففي اي موقع من مواقع العالم الرأسمالي يكون الانسان اخا للانسان الذي يعيش في الموقع الآخر فيتحدون مع بعضهم، ويشكلون شبكة واسعة من المؤسسات التجارية والصناعية والمالية، وبالتالي فانهم يؤسسون الدولة التي توحد الأمة.

وبناء على ذلك فان الانسان الغربي يعني من الوحدة، وحدة الرأسمال، والقوى التي تمتص جهود الناس، وهذه الوحدة تقوم شبكاتها على اساس المال، ولكن هذه الشبكات تصبغ بصبغة الاعلام الذي يكون هو الظاهر، في حين ان الثروة تمثل حقيقة هذه الوحدة.

وإذا وجد في العصر الحديث انتشار لما يسمى ب- (الشركات المتعددة الجنسيات) فانما تتبع هذه النظرية، وهذه الحالة تسمى من الناحية السياسية والاقتصادية بالامبريالية.

3- اما النظرية الثالثة، فهي النظرية الاسلامية، وهي تقوم على اساس ان الوحدة لايمكن ان تبنى علياساس المال مضافا الى الاعلام، ولا على اساس القوة مضافة الى الاعلام، بل تقوم على اساس العقل مضافا الى الوحي.

ان العقل هو الحجة الباطنة، والوحي هو الذي يثير دفائن العقل، ويفجر طاقات الفكر، وهو الحجة الظاهرة لله سبحانه على العباد، وهو الاساس المتين للوحدة.

ان هذه البصيرة القرآنية تعني انه ليس من حق احد ان يلغي دور الآخرين. فالوحدة لاتعني وحدتي انا فحسب، بل تعني توحيد الله وحده، واستظلال (الانا) بظل رحمة رب العالمين، وبقاءنا جميعاً في ظل سحابة الرحمة الالهية الواسعة. فالذي ينظم علاقتي بك هو عقلي وعقلك، والوحي بدوره هو الذي ينظم عقلينا، ويفجر طاقات فكرينا.

الاعتصام بحبل الله اساس الوحدة

والله سبحانه وتعالى عندما يبين أسس الوحدة يقول: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ... 1. فهل حبل الله هو القومية او العنصرية او الديكتاتورية، وهل يعني الاقليم او الدولة؟ كلا بالطبع، فالحبل الالهي يعني ان الله جل وعلا هو رب كل شيء، وهو رب السماوات والارض، وخالقنا جميعاً. فعلاقة الله بي، وعلاقته بك، هي علاقة واحدة، لانه هو الذي خلقك وخلقني؛ فكلنا عباد له.

وعندما قال المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء هذا العالم المجاهد الفذ:" بني الاسلام على كلمتين؛ كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة" فقد ربط بين الاصل والفرع. فكلمة التوحيد لاتنفصل عن توحيد الكلمة، فمن يؤمن بالله لايمكن ان يجمع الى هذا الايمان، الايمان بارضه او قوميته او عنصره ... وإذا كان الجمع بين الايمان بالله والايمان بالاعتبارات الاخرى ممكنا، فماذا تعني الاصنام- اذن-؟ وهل كان الانسان غبياً في التاريخ الى درجة انه لايعلم ان هذا الصنم لم يخلقه، وذلك الانسان الجاهلي الذي كان يصنع صنماً من التمر حتى اذا جاع التهمه أفلم يكن يعلم ان هذا الصنم ليس الهه؟! بلى انه كان يعلم بذلك، ولكنه كان قد جعل من التمر رمزاً لقبيلته.

الايمان بالاصنام يوجب التفرق

وهذا يعني اننا عندما نقول (صنم) فان ذلك يقتضي ان نرفضه، ونرفض تلك القوة التي تدعم هذا الصنم. اما اذا كنا نؤمن بصنم من قبيل القومية او العنصرية او اي صنم آخر، فان هذا يعني استحالة ايماننا بالله الواحد؛ ويعني ان ايماننا بهذه الاصنام يستوجب عدم اتحادنا، لان الاصنام لابد ان تفرقنا. فاذا عبد كل واحد منا صنماً، فسوف يكون لكل انسان عشيرته، وارضه، وعنصره، ولغته المختلفة عن لغة الآخرين.

فلابد- اذن- من اسقاط وتحطيم هذه الاصنام، وحينئذ سنبدأ مسيرة العقل، والتفهم، والحرية. فمن المستحيل ان نحقق وحدة بدون حرية، فنحن لايمكن ان نقول بوجود الوحدة بين الجدران، والآجر الذي صنع هذه الجدران. فهذه ليست وحدة،

بل ان الوحدة انما تكون من خلال منح الحرية للجميع، وان يكون الرابط بينهم العقل والوحي.

ولذلك نجد الآيات القرآنية وخصوصاً في سورة الحشر تبين لنا اساس الوحدة بين ابناء الأمة الاسلامية قائلة: ان هذا الاساس هو اساس الحب والايثار والجهاد، والخروج من شح الذات الى رحاب الحقيقة 2.

ومتى ما استطعنا ان نربي انفسنا عبر هذا الافق استطعنا ان نحقق الوحدة بين انفسنا على تلك الاسس، واستطعنا ان ندعو الآخرين الى هذه الوحدة.

الوحدة لاتعني الغاء المعتقدات

ونحن عندما نقول وندعو الى الوحدة بين السنة والشيعة فان هذا لايعني ان يترك السني مذهبه، ويترك الشيعي مذهبه، ولا يعني ان يترك اي واحد منهم معتقداته وتقاليده، بل يعني ايجاد علاقة الحب، ورابطة الايثار، والتوحيد بين الطائفتين، وهذه الرابطة تمتنها الايات القرآنية، وتنميها مفاهيم العقل الذي يجلبه

وينميه الوحي.

ان الله سبحانه وتعالى يقرر عندما يبين لنا طبيعة المجتمع الاسلامي، ان اموال هذا المجتمع يجب ان تكون تحت اشراف القيادة الرسالية، فيقول في هذا المجال: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ 3. وهؤلاء المهاجرون هم فقراء ليسوا من اهل البلد الذي هجروا اليه؛ اي ان الوحدة بين ابناء الأمة الاسلامية لابد ان تقوم على اساس ان اهل البلد يجب ان يهتموا بمن يفد اليهم قبل ان يهتموا بانفسهم.

وبناء على ذلك فان علينا ان نهتم أولًا بالغريب ثم القريب، والجار ثم الدار .

فلننظر الى مدى القيمة التي يضفيها القرآن على هذا الانسان الذي يترك ارضه، فهو لايحدد انتماء هؤلاء المهاجرين، لان الهجرة هي بحد ذاتها قيمة. فلا بد ان نحقق الوحدة من خلالها، ولابد ان نربي المجتمع الذي يحب الانسان المهاجر اكثر مما يحب ارضه، ويقول ان هذا الانسان غريب ومن بلد بعيد وان فطرتي تدعوني الى ان احسن اليه. فاذا ما احسنت الى ذلك الغريب الذي لا يمت اليَّ بصلة القربى، لا اللغة ولا الجنس ولا اعرفه نهائياً ولا يعرفني فانني اكون بذلك قد اخلصت العمل لله جل جلاله؛ اي ارتفعت، وتساميت على الاعتبارات المادية الى مستوى الايمان الحق.

ثم من بعد ذلك تأتي الفئة الاخرى التي تمثل (الانصار) الذين يقول عنهم عز من قائل: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... 4. فما هي طبقة الانصار يا ترى؟

ان في كل بلد انصاراً، ولكل أمة انصاراً، وهؤلاء الانصار لا يدرورون حول محورهم وذواتهم. فمن أهم الصفات التي يبينها القرآن الكريم للانصار بعد الايمان انه يقول عنهم: ﴿ ... يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ... 4.

فالانصار يؤثرون على انفسهم، ومن المعلوم ان القرآن الكريم لا يمدح احداً لانه يأكل كثيراً، او يبني بيتاً واسعاً، ويتسنم منصباً مرموقاً، بل يمدحه لانه يرثر على نفمه إن كان يعاني من العوز والخصاصة. وهذا هو الفلاح المبين، كما يؤكد على ذلك تعالى في قوله: ﴿ ... وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 4. فاذا اردت الفلاح فلابد ان تخرج من الذات، ومن هذه النفس الضيقة، وان تنظر الى الحياة برحابتها، وسعة افقها.

ثم يضيف عز شأنه قائلًا: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ 5 .

وعندما نصل الى هذا المستوى، وعندما نريد ان نمتن اواصر الوحدة في قلوبنا عبر الحب، وانتزاع الغل من الصدور، فحينئذ سنكون مؤمنين حقاً، وسيحبنا الله تبارك وتعالى، وينعم علينا بنعمة الوحدة التي هي سر الانتصار على الاعداء 6.