مجموع الأصوات: 30
نشر قبل 6 سنوات
القراءات: 11163

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

مشكلة الغلو في القران الكريم

ظاهرة الغلو من اخطر الظواهر الفكرية التي تنشا في المجال الديني، وقد أخذت هذه الظاهرة تنبعث في عصرنا بصورة مقلقة للغاية، ويتزايد ظهورها بين أوساط الشباب خاصة، وبالشكل الذي يلفت النظر إليها، ويحرض على التأمل فيها. لهذا كان من الضروري العودة إلى القران الكريم الذي تحدث عن هذه الظاهرة. وذلك لمعرفة المنطق القرآني في النظر لهذه الظاهرة.

وكلمة الغلو وردت في القران الكريم مرتان، وجاءت في سياق الحديث عن نهي أهل الكتاب، والنصارى منهم بالذات عن الغلو في الدين. والآيتان هما، قوله تعالى﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ 1 وقوله تعالى﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ 2
وعند التأمل والنظر في هاتين الآيتين، يمكن أن نستفيد منهما الحقائق التالية:
أولاً: تتحدد كلمة الغلو من حيث الاستعمال الحقيقي لها في مجال العلاقة بالدين، ويراد من هذه الكلمة وصف العلاقة غير السوية بالدين، أي بتجاوز الحد زيادة وإضافة، أو نقصانا ونكرانا على ما حدده وقرره الدين. الزيادة والإضافة هو ما وقع فيه النصارى باعتقادهم أن المسيح هو ابن الله، أو أنه الله، أو القول بعقيدة التثليث. والنقصان والنكران هو ما وقع فيه اليهود بنكرانهم لنبوة نبي الله عيسى.
ثانياً: إن الخطاب في هاتين الآيتين موجه إلى أهل الكتاب الذين وقعوا في مشكلة الغلو، وكانت أعظم مشكلة وقعوا فيها. والقرآن ينبهنا إلى هذه المشكلة الخطيرة ويلفت نظرنا إليها لكي نكون على بصيرة في أمر ديننا.
ثالثاً: لقد حددت هاتان الآيتان مفهوم الغلو في إطار علاقته بمفهوم الحق﴿ ... لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... 1،وفي آية المائدة﴿ ... لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ... 2، وهذا يعني أن الغلو هو خروج أو تجاوز على الحق. والمقصود بالحق تارة ما قرره الوحي والكتاب وهذا من جهة النص، وتارة ما وافق السنن والقوانين الإلهية وهذا من جهة الواقع.
رابعاً: إن مشكلة الغلو قد تنشأ بطريقة ذاتية، وقد تنشأ بطريقة متوارثة من قوم سابقين. فآية النساء تشرح مشكلة الغلو حين ينشأ بطريقة ذاتية بسبب إشكاليات وتفسيرات بشرية خاطئة في فهم العقيدة﴿ ... وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... 1. وآية المائدة تشرح مشكلة الغلو حين ينشأ بطريقة متوارثة من قوم سابقين﴿ ... وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ ... 2.
خامساً: إن آية النساء تخاطب أهل الكتاب وتذكر بعصرهم القديم حين ظهرت عندهم مشكلة الغلو في الدين، وآية المائدة تخاطب أهل الكتاب بعد ظهور الإسلام وتذكرهم بألا يتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل.
سادساً: لقد حددت آية المائدة مصير الغلو في الدين، وأنه ينتهي بأهله إلى الضلال والابتعاد عن سواء السبيل. واللافت في هذه الآية أنها كررت كلمة الضلال بصيغة الفعل ثلاث مرات. مرة كان المقصود بها الذين أدخلوا الغلو في الدين وهم الذين وصفتهم الآية﴿ ... وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا ... 2. ومرة كان المقصود بها الناس الذين اتبعوا أولئك في ضلالهم، وهؤلاء هم الذين قالت عنهم الآية﴿ ... وَأَضَلُّوا كَثِيرًا ... 2 والكثرة هنا إشارة إلى الناس. ومرة كان المقصود بها الذين بقوا على ضلالهم بإعراضهم عن الإسلام بعد بلاغه إليهم، وهؤلاء هم الذين قالت عنه الآية﴿ ... وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ 2.
سابعاً: إن مشكلة الغلو التي ظهرت عند أهل الكتاب لا يمكن أن تحدث في الإسلام، لكن يمكن أن تحدث عند المسلمين أو عند بعضهم، ومن المفترض أن لا تحدث أساساً لأن الإسلام نزل بلسان عربي مبين، ويهدى من يتبعه سبل الرشاد، ولأنه نزل كاملاً﴿ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... 3. ولأنه يمثل سواء السبيل أي انه دين الوسطية والاعتدال والتوازن. والغلو يضل صاحبه عن سواء السبيل أي ينتهي بصاحبه إلى التطرف والتحجر والجمود.
لهذا فإن ظاهرة الغلو هي ظاهرة غريبة عن الإسلام، وهي من الظواهر الخطيرة التي تضل الإنسان عن سواء السبيل4.