تقيمك هو: 4. مجموع الأصوات: 50
نشر قبل 7 سنوات
القراءات: 8830

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

و من أحسن قولاً ممن دعا إلى الله

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 1.

كانت الآية الأولى من هذه الآيات الكريمة مجالاً لحديث خاص كان لي مع بعض إخواني من الأساتذة الأدباء في البحرين تعرّضت فيه لبعض أهداف الآية ، و أشرت إلى بعض آفاقها .
و قد رغبت أن أتحدث إليكم ـ أيها الإخوة ـ عن بعض آفاقها الأخرى .
و القرآن بعيد الآفاق ، عميق الأغوار لا ينتهي الباحث إلى غور منه الا ويجد أن وراءه أغواراً أبعد ، ولا يسمو إلى أفق الا ويرى أن فوقه آفاقاً أسمى وأوسع وأعظم .
وتسمو آفاق الكتاب العزيز وتسمو ، وتبعد أغواره وتعمق ، وينقلب البصر وهو حسير ، ويرجع الفكر مبهوراً يسبّح بعظمة القرآن ، و يلهج باكبار رسوله ( صلى الله عليه و آله ) .
إعجاز في اللفظ ، وإعجاز في المعنى ، وإعجاز في الأسلوب ، وإعجاز في البرهنة ، وإعجاز في التشريع وإعجاز في الحكمة ، وإعجاز في استقصاء طبائع هذا الكائن و أدوائه ، وإعجاز في علاجها ، وإعجاز حتى في حصر وجوه الإعجاز .

درس بليغ في الدعوة إلى الله

و الآيات الأربع الكريمة تحوي درساً عالياً في الدعوة إلى الله ـ سبحانه ـ ، تبيّن فيه حدود الدعوة وتُجمل شرائطها ، وترسم فيه صورة حيّة شاخصة للداعية الحق ، وتعيّن له خطته ، ومنهجهُ في الدعوة .
ولابد للأمة من تفهّم هذا الدرس ، ولابدّ لها من العمل على الإفادة منه ، ولابد لها من صوغ أفرادها على هذه الصورة الفريدة ، إذا رغبت في المنزلة التي أعدّت لها في التكوين .
وليست المسألة مسألة رغبة وأمنية ، فكل مسلم يجب أن يكون داعية من دعاة الله (جل شأنه) وشهيداً على الناس من شهدائه ، ولا عذر له أبداً في أن يتغاضى عن هذه المهمّة ، و لا مساغ له في أن يتهاون بها . وصدق الله العظيم فإنه يقول :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 2.
نعم ، و الظروف الراهنة للأمة من أشدّ الظروف الزاماً عليها بأن تتفهم هذا الدرس الرفيع ، وان تجهد في الإفادة منه .

المبدأ و الغاية و الحدود

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ 3.
هذا هو مبدأ الدعوة وهذه هي غايتها ، وهذه حدودها و أبعادها ، ثم هذه شرائطها .
استسلام واثق لله ، و انقياد خالص لأمره ، فالله ـ سبحانه ـ هو مبدأ الدعوة و هو غايتها .
وفي نطاق شريعته ، وفي إطار طاعته تنطلق الدعّوة وتتحدد ، و لا تتجاوزها أبداً ، و لا تقصر عنها ، فهذه هي حدودها وأبعادها .
ثم هي تطابق كامل بين القول والعمل ، وبين السرّ والجهر ، وبين الدعوة والعقيدة . و هذه هي شرائطها ومؤهلاتها .
ثم . . هذه هي الخطوط الأولى التي يضعها كتاب الله ـ سبحانه ـ لصورة الداعية الحق . .
إخلاص في الدعوة ، وإخلاص في العمل ، وإخلاص في الاعتقاد ، واستسلام كامل لله بحيث تذوب معه الشخصية ، وتمحي الغايات . .
ولنتحاكم إلى الفطرة الواعية ، والى العقل السليم في قيمة الدعّوة بعد كل هذه الأرصدة ، وهذه الضمانات .
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ 3.

داعية الله و العقبات

وتأتي الآية الثانية لتتم ملامح الصورة وتكمل مقوّماتها :
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ... 4.
وهذا الحكم كذلك بدهي لا يمتري فيه عقل . . إن الحسنة والسيئة لا تستويان خطراً ، ولا تستويان أثراً .
وكما لا تستوي الحسنة والسيئة فكذلك لا يستوي فاعل هذه و فاعل تلك .
وداعية الله هو الذي ترفّع عن صغار الغايات ، ومحض النصيحة ، ومحض الإخلاص ، فجدير به أن يستكمل هذه الأشواط العظيمة إلى نهاياتها : ان يربأ بنفسه وبدعوته وبإخلاصه من أن يقابل السيئة بمثلها .
. .إنه سيصطدم في دعوته بأهواء يحرص المدعّوون عليها ، وهو يريد تقويمها ، وبعادات وتقاليد فاسدة هم يقدّسونها وهو يريد تحطيمها ، وبأمور كثيرة يمدّها الجهل ، ويرفدها الغيّ وتقوّيها الشهوات والنزوات وهو يريد إصلاحها . . وستثور النفوس الصغيرة ، وتغضب لهذا التحدي ، وتواجه دعوته بالهزء ، ونصيحته بالاستكبار ، وتكيد له ما وسعها الكيد . . ستقابل الحسنة بالسيئة ، وعلى الداعية في هذه المواقف أن يتحرز من السقطة . . أن يبقى في أفق دعوته رفيعاً رفيعاً كالنجم يهدي الحائر ، ويقيل العاثر .
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ... 4.
ان العقول لا تمتري في هذه الحقيقة ، وإن مردت النفوس ، وان شذّت ، فعلى داعية الله أن يقابل السيئة بالحسنة ، فان ذلك الجامح الغاضب إذا رأى أن سيئته قوبلت بالصفح ، وأن جهله غمر بالحلم انكسرت سورته ، ولان جماحه ، وخجل من نفسه ، واستسلم طائعاً ، واستبدل بالبغض حبّاً وبالعداء ولاء :
﴿ ... ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 4.
نعم ، إنه حلم الحليم ، و سماح الكريم . . إنها أخلاق الإسلام ينشئ عليها بنيه يقوّم بها طباعهم ، ويروّض جماحهم ، ليقيم بهم المجتمع الأسمى الذي يبتغيه ، ويحقق لهم الغاية الكبرى التي ينشدها . .
. . إنها أخلاق الإسلام التي تجعل كل فرد من أبنائه دليلاً شاخصاً على عظمة الإسلام ، وعظمة أهدافه . .
. . إنها أخلاق الإسلام التي لن يسمع بها أحد إلا أيقن بأهليّة هذا الدين لقيادة الدنيا .
إنها أخلاق الإسلام ، واضافتها إلى الإسلام دليل على أنها لا توهب لكل احد ، ولا تؤتى بغير ثمن . .إنها تفتقر إلى بذل ، وتفتقر إلى جهاد نفس ، وجهاد نزعات . . إنها منحة لا توهب دون أهلية ولا تلقى دون استحقاق .
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ 5.

الاعتصام بالله وحده

ولكن نزعات النفس كثيرة العدد ومساربها إلى غاياتها كثيرة الالتواء شديدة التعقيد ، ولا يأمن الداعية المؤمن أن تطغى عليه نزعة من هذه النزعات فتتخذ سبيلها إلى قلبه ، ويتدخّل الشيطان فينزغ ، ويثير ليهوي بالداعية من افقه الرفيع .
وحصنه العظيم من ذلك كله هو الاعتصام بالله من النزعات والنزغات :
﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ 6.
اعتصم بالله وحده ، فانه الكافي وحده ، وهو الذي بوّأك هذه المنزلة وأمرك بالتعالي ، وأرشدك إلى الاعتصام ، وهو السميع لشكواك ، العليم بحالك . .
اعتصم بالله وكفى ، فكل محاولة من أي ذي قوة ستزول إذا عذت بهذا الحصن العظيم .
هذا هو الدرس الذي نتلقاه خاشعين من الآيات الأربع الكريمة ، وهذه هي الصورة الفريدة التي ترسمها أمامنا للداعية الحق . . فهل نحن داعون ؟ ، وهل نحن سامعون ؟ ، ثم هل نحن عاملون ؟ .
لابدّ للأمة من تفهّم هذا الدرس ، ولابدّ لها من العمل على الإفادة الصحيحة منه ، ولابدّ لها من أن تصوغ أفرادها على هذه الصورة الفريدة اذا رغبت في المنزلة التي اعدّها الله لها في التكوين . والظروف الراهنة من أشد الظروف الزاماً على الأمة بأن تتفهّم ، وأن تجهد في الإفادة .

مشكلة اليوم

أيها السادة !
وليست مشكلة اليوم للإسلام مشكلة مناهج ونظم ، ومفاهيم وكفاءة للقوامة على الحياة ، فقد اثبتت لغة الارقام أن الإسلام أغنى الأديان و المبادئ والشرائع بهذه الأشياء ، و أجدرها جميعاً بقيادة ركب الحياة .
وأقول : إن الإسلام أغناها جميعاً بهذه المؤهلات جرياً مع تصاريف اللغة ، وقد تضيق هذه عن التعبير ، و الا فقد أوضحت لنا الحقائق ـ حتى لم تذر مكاناً للريب ـ أنه لا غناء بغير دين الله .
ليست مشكلة اليوم للإسلام مشكلة مناهج ونظم تسيرّ الحياة ، ولكنها مشكلة من يحمل القبس المشعّ ليضيء الحياة . .
مشكلة جيل واع رشيد ، يفقه الإسلام و يحيا به ، ويعيش له ، ولا يجد السعادة الا في ظلاله .
وهي ـ قبل ذلك ـ مشكلة دعاة أبرار مخلصين يحملون المِشعل ، و يضيؤون الدرب ، ويتغلغلون إلى الفِطَر . . يطردون ما علق عليها من رين ، والى الضمائر يقوّمون ما طرأ عليها من زيغ ، والى العقول والمشاعر والأذهان و الاخلاق يصلحون ما عرض لها من انحراف . .
هذه هي مشكلة اليوم للاسلام . .
مشكلة الاساس الذي لن ترسو القواعد ، ولن تقوم الأضلاع ، ولن ينتهض البناء إلا بعد تثبيته .
فهل نحن سامعون ؟ ثم هل نحن عاملون ؟
﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ 7.
وصدق الله العظيم 8 .