الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المعذبون الذين اعتقهم ابوبكر

نص الشبهة: 

وممن عذب في سبيل الله بلال الحبشي، وعامر بن فهيرة، ويقولون: إن أبا بكر قد اشتراهما وأعتقهما، فكانت نجاتهما من العذاب بسببه.

الجواب: 

ولكنا نشك في أن يكون أبو بكر هو الذي اشتراهما، وذلك:
أولاً: لما ذكره الإسكافي، الذي قال: (أما بلال، وعامر بن فهيرة، فإنما أعتقهما رسول الله (صلى الله عليه وآله)، روى ذلك الواقدي، وابن إسحاق) 1.
وعدَّ ابن شهرآشوب بلالاً من موالي النبي (صلى الله عليه وآله) 2.
ثانياً: إنهم يروون روايات متناقضة في هذا المجال، حتى لا تكاد تلتقي رواية مع أخرى، ويكفي أن نذكر اختلافها في الثمن الذي أعطاه أبو بكر.
فرواية تقول: إنه أعطى ثمنه غلاماً له أجلد منه.
وأخرى: إنه أعطى غلاماً وزوجته، وابنته، ومائتي دينار.
وثالثة: اشتراه بسبع أواق.
ورابعة: بتسع.
وخامسة: بخمس.
وسادسة: برطل من ذهب.
وسابعة: إنه اشتراه بعبده قسطاس، الذي كان صاحب عشرة آلاف دينار، وجوار، وغلمان، ومواش.
وثامنة: ببردة، وعشر أواق من فضة، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف والتناقض 3.
ثالثاً: إنهم يقولون: إن قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ 4 نزل في أبي بكر بهذه المناسبة 5.
ونقول:
أ ـ لقد رد الإسكافي على ذلك: بأن هناك من يقول: إن هذه الآية نزلت في مصعب بن عمير 6.
ويروي الشيعة: أن الآية نزلت في علي (عليه السلام). ويورد الحلبي عليهم: بأن علياً (عليه السلام) كان للنبي (صلى الله عليه وآله) عليه نعمة تجزى، وهي تربيته له، والآية تقول: ﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَىٰ ﴾ 7 وبمثل ذلك أورد الرازي عليهم أيضاً 8.
ولكن قد فات الرازي والحلبي: أن المقصود هو أن هذا المال الذي ينفقه لا يريد أن يجازي بإنفاقه له نعمة من أحد عليه، وإنما ينفقه لوجه الله، ولوجه الله فقط، لا أنه تعالى يريد وصف الأتقى بأنه ليس لأحد عليه نعمة.
ب ـ قد ورد: عن ابن عباس وغيره، وحتى عن النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه، تفسيرها بمعنى عام لا يختص بأحد فراجع كتب التفسير للاطلاع على ذلك.
ج ـ وأخرج ابن أبي حاتم ما ملخصه: أن هذه السورة قد نزلت في رجل (هو سمرة بن جندب) الذي كان له نخلة فرعها في دار رجل، فكان إذا جاء ليأخذ عنها التمر، وصعد عليها ربما تقع تمرة، فيأخذها صبيان الفقير ؛ فينزل من نخلته ؛ فيأخذ التمرة من أيديهم، وإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه، حتى يخرج تمرة من فيه ؛ فشكاه الفقير إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم لقي الرسول صاحب النخلة ؛ فطلب منه أن يعطيه النخلة وله مثلها في الجنة، فقال:
لقد أعطيت، وإن لي نخلاً كثيراً، وما فيه نخل أعجب إلي ثمرة منها.
فسمع رجل ما دار بين النبي وبينه ؛ فجاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال: أعطني ما أعطيت الرجل إن أنا أخذتها؟
قال: نعم.
فذهب الرجل، ولقي صاحب النخلة، وفاوضه واشتراها منه بأربعين نخلة، ثم ذهب إلى النبي، فوهبها له.
فذهب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى صاحب الدار، فقال: النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله: ﴿ ... وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ 9 إلى آخر السورة 10.
ولأجل هذا نجد السيوطي يقول عن: (سورة الليل: الأشهر أنها مكية ؛ وقيل: مدنية لما ورد في سبب نزولها من قصة النخلة، كما أخرجناه في أسباب النزول) 11.
وهذه القضية هي المناسبة للآيات ؛ لأنها تذكر أن بعضهم أعطى واتقى، وبعضهم بخل واستغنى.
إلا أن يكونوا ـ والعياذ بالله ـ يقصدون بمن بخل النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه، مع أن فرض عدم مال له ينافي صدق البخل عليه.
ويشير إلى عدم المال عنده قولهم: إنه (صلى الله عليه وآله) هو الذي قال: لو كان عنده مال لاشترى بلالاً، أو يقصدون بمن بخل، العباس، الذي تقول الروايات: إنه ذهب فاشترى بلالاً، فأرسله إلى أبي بكر، فأعتقه.
د ـ لسوف يأتي إن شاء الله في حديث الغار، قول عائشة: إنه لم ينزل في آل أبي بكر شيء من القرآن، إلا أن الله أنزل عذرها، يعني الآيات المرتبطة بالإفك، وحتى عذرها هذا ؛ فإنه لم ينزل فيها، كما حققناه، فراجع 12.
رابعاً: لم نفهم معنى قوله (صلى الله عليه وآله) إنه لو كان عنده مال لاشترى بلالاً، وكيف نوفق بين هذا وبين قولهم: إنه (صلى الله عليه وآله) طلب من أبي بكر الشركة في بلال فأخبره أنه أعتقه؟! 13.
ثم أوليست أموال خديجة تحت تصرفه (صلى الله عليه وآله)؟! ألم يكن هو الذي ينفق على المسلمين في مكة، كما قالت أسماء بنت عميس لعمر حينما عيرها بأنها لا هجرة لها، حيث قالت له:
إنه ومن معه من المسلمين كانوا مع رسول الله يطعم جائعهم، ويعلِّم جاهلهم؟!! تقدمت من المصادر لذلك في الجزء السابق من هذا الكتاب في آخر فصل: بحوث تسبق السيرة..
وستأتي هذه القضية في موضعها إن شاء الله، واحتمال أن تكون قصة بلال في أواخر سني ما قبل الهجرة، لا يقبل به المؤرخون ؛ فإن النووي يذكر: أنه أسلم أول النبوة، وهو من أول من أظهر إسلامه 14.
إلا أن يقال: إن إسلامه، وإن كان متقدماً، لكن شراءه وعتقه يمكن أن يتأخرا لعدة سنوات.
هذا كله عدا عما تذكره بعض الروايات من أن العباس هو الذي ذهب فاشتراه، ثم أرسله إلى أبي بكر فأعتقه! 15.
وروايات أخرى تقول: بل اشتراه نفس أبي بكر مباشرة، وأعتقه.
وفي بعض الروايات: أنه لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال بلال لأبي بكر: إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فذرني 16.
وهذا يشير إلى أنه لم يكن قد أعتقه حتى وفاته (صلى الله عليه وآله)!!.
وبالنسبة لشراء العباس له ؛ فإن العباس إن كان قد اشتراه لنفسه، فلماذا لم يعتقه هو نفسه؟
وإن كان إنما اشتراه لأبي بكر فلا ندري: متى كان العباس وكيلاً لأبي بكر؟
ومتى كان العباس يهتم بأمور كهذه، وهو الذي لم يسلم إلا عام الفتح، أو في بدر، كما يقولون؟.
وحاول بعضهم أن يدعي: أن العباس فاوض أمية بن خلف، ثم جاء أبو بكر فاشتراه! 17 وهذا أعجب!! وما عشت أراك الدهر عجباً!!.
وأيضاً، فإن حالة أبي بكر الإقتصادية لم تكن تسمح له بأن يدفع تلك المئات من الدنانير، فضلاً عن أن يكون أحد مواليه يملك عشرة آلاف دينار، وجواري، ومواشي، وغير ذلك، لو فرض أن العرب كانوا يملّكون عبيدهم الأموال، حيث إن أبا بكر لم يكن تاجراً، وإنما كان معلماً، فمن أين تأتيه تلك الآلاف أو حتى المئات من الدراهم والدنانير لشراء سبعة أو تسعة وإعتاقهم؟!
ولسوف يأتي إن شاء الله البحث عن ثروة أبي بكر حين الكلام حول قضية الغار، بل لقد شك البعض في أن يكون كثير ممن ذكروا في مواليه شخصية حقيقية أو خيالية، ولا سيما مثل (زنيرة)، التي قال السهيلي عنها: (ولا تعرف زنيرة في النساء) 18.
ويقول العلامة السيد الحسني: (إن قريشاً كانت تعذب من آمن؛ من أجل أن لا ينتشر الإسلام، وكانت تود أن تبذل لمحمد كل غال ونفيس، ليتراجع عما جاء به، ودعا إليه؛ فكيف تتنازل قريش عن ملكيتهم لأبي بكر، وتترك تعذيبهم بهذه السهولة)؟! 19.
إلا أن يقال: إن حبها للمال، ثم اليأس من محمد (صلى الله عليه وآله) هو الذي يدفعها إلى ذلك كما يقوله البعض 20.

  • 1. راجع: شرح النهج للمعتزلي: ج13 ص273، وقاموس الرجال: ج5 ص196 وج2 ص238.
  • 2. المناقب لابن شهرآشوب: ج1 ص171.
  • 3. راجع ما تقدم في: السيرة الحلبية: ج1 ص298 و299، وقاموس الرجال: ج1 ص216، وسير أعلام النبلاء: ج1 ص353، والسيرة النبوبة لابن هشام: ج1 ص340، وحلية الأولياء: ج1 ص148، وغير ذلك كثير.
  • 4. القران الكريم: سورة الليل (92)، الآيات: 5 - 7، الصفحة: 595.
  • 5. الدر المنثور ج6 ص358 ـ 390 عن عدد من المصادر والسيرة الحلبية ج1 ص299، وشرح النهج للمعتزلي ج13 ص273 عن الجاحظ والعثمانية ص35.
  • 6. شرح النهج ج13 ص273.
  • 7. القران الكريم: سورة الليل (92)، الآية: 19، الصفحة: 596.
  • 8. السيرة الحلبية ج1 ص299.
  • 9. القران الكريم: سورة الليل (92)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 595.
  • 10. المصدر السابقالدر المنثور ج6 ص357 عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وتفسير البرهان ج4 ص470 عن علي بن إبراهيم، باختلاف مع ما عن الدر المنثور. وستأتي بقية المصادر في حرب أحد في فصل: قبل نشوب الحرب، حين الكلام حول إرجاع الصغار، والريب فيما ينقل عن سمرة.
  • 11. الإتقان: ج1 ص14.
  • 12. راجع: كتابنا حديث الإفك، وراجع أيضاً الجزء الثالث عشر من هذا الكتاب.
  • 13. طبقات ابن سعد: ج3 ص165.
  • 14. تهذيب الأسماء واللغات: ج1 ص136.
  • 15. السيرة النبوية لدحلان: ج1 ص126، والسيرة الحلبية: ج1 ص299، وراجع: المصنف: ج1 ص234 وغيره.
  • 16. طبقات ابن سعد: ج3 ص170.
  • 17. السيرة النبوية لدحلان: ج1 ص126، والسيرة الحلبية: ج1 ص299، وراجع المصنف للصنعاني ج1 ص234، وغيره.
  • 18. الروض الأنف ج2 ص78.
  • 19. سيرة المصطفى ص149.
  • 20. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، 2005 م. ـ 1425 هـ. ق، الجزء الثالث.