الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

تعدد الزوجات

نص الشبهة: 

كان الجَدل عَنيفاً حَول مسألة (تعدّد الزوجات)، كانت عادةً جاهليّة ومُهينة بموضع المرأة في الحياة الاجتماعيّة والأُسريّة، حينما نجد الإسلام قد أقرّها﴿ ... فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ... .

الجواب: 

غير أنّ الآية نزلت في ظروف خاصّة وعِلاجاً لمشكلةٍ اجتماعيّة كانت تَقتضيها طبيعة الإسلام الحركيّة ولا تزال، وهو دين كِفاح ونضال مستمرّ مع خُصوم الإنسانيّة عِبر الأجيال.

كان الإسلام مِن أَوّل يومه نهضةً إنسانيّةً ؛ دفاعاً عن حريم الإنسان وكسراً لشوكة خُصومه الألدّاء،﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ... 1،﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 2، فلا يَزال الإسلام في كِفاح مستمرّ مع المُستكبرِين في الأرض وفي صالح المُستضعفين، حتّى يتحقّق هذا الهدف المقدّس ويتمكّن الصالحون مِن الحُكم على أرجاء العالم المَعمور.
ولا شكّ أنّ ديناً كان ذلك مَنهجه وهذا دَأَبه كانت المشاكل الاجتماعيّة ـ التي تَستَعقِبُ هذا المنهج الحركي ـ حليفَتَه عِبر الأيام، فلابدّ هناك مِن وَضع برامج لمُعالجتها عِلاجاً حاسماً دون تَعقّد العراقيل.
ومِن المشاكل هذه مشكلة الأيتام القُصَّر وأموالهم إلى جَنب الأرامل الشابّات، التي تُخلِّفُها الحروب وهي تَلتَهم الشبّان مِن الرجال، فلابدّ مِن قَيمُومة بشأن القُصّر وعِلاج مُشكلة الأرامل دون تفشّي الفساد.
كان المسلمون بدورهم آنذاك موظّفين بكفالة الأيتام والقيام بشؤونهم دون ضياعهم وضياع أموالهم، وربّما كان بعضهم يتحرّجون مِن ذلك خَشيَة قصورٍ أو تقصير بشأن اليتامى، وهكذا كانت مشكلة الأرامل حقيقة واقعة لا مَهرب منها سِوى الترخيص في الزواج معهُنّ مِن قِبل رجال أكفاء، وكان في ذلك رعايةً لِكلا الجانبَينِ: عدم التحرّج في التصرّف في أموال اليتامى حسب مصالحهم وهم ربائب، والحَؤول دون تَفشّي الفساد والفحشاء ما دامت المرأة تجد نَفسَها في حماية رجل مؤمن كفؤ، والآية في وقتها نزلت بهذا الشأن.

﴿ وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ... 3.

انظر إلى التناسب القريب بين قوله تعالى:﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ ... 4‏وقوله:﴿ ... فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ... 4 أي الأرامل الشابّات، وهذا التفريع بالفاء ممّا يُنبئك على هذا الترابط بين الأمرين بوضوح.
فلنفرض أنّ مؤسّسات خيريّة قامت بشؤون اليتامى، ولكن ما هو العلاج الحاسم ـ الدائم مع دوام حركيّة الإسلام ـ بشأن الأرامل، فيما سِوى ترخيص التعدّد في الزواج، وعلى شَريطة التعادل في حمايتِهنّ وِفق موازين الشريعة بشأن الأزواج؟!
ومِن ثَمّ كانت قضيّة الترخيص في تعدّد الزوجات ـ مع ملاحظة هذه الشرائط والظروف والملابسات ـ قضيّةً حاسِمةً لمشكلة اجتماعيّة هي مِن أهمّ المشاكل التي قد تُعرقل في سبيل الحركة الإصلاحيّة، وهي فريضة إسلاميّة عامّة شاملة ودائمة.
هذا بالنظر إلى النصّ القرآني الوارد بشأن تشريع تعدّد الزوجات في حالات اضطراريّة وظروف حَرِجة ومشاكل لا يَحلّها سوى هذا التشريع العادل، وكم مِن مفاسد اجتماعيّة فظيعة قاستها أُمَم إثر حروب عارمة التهمت عامّة الرجال وبقيت النساء الأرامل يَبتَغِينّ حمايةَ رجال أكفاء فلا يَجدَنَ، ثمّ سادت الفحشاء وراج الابتذال الخُلقي لا في النساء فقط بل في الأطفال الضُيَّع الصِغار أيضاً.
وهذه الحرب العالميّة الثانية كم خلَّفت مِن مساوئ ومفاسد عمّت أرجاء البلاد الأُوربيّة ولا سيّما القُطر الألماني الذي تألّب عليه حَشدُ المُحاربِينَ مِن كلّ الجهات: حلفاء الدول الأُوربيّة وأمريكا والسوفيت في تَحالف ثلاثي ضدّ الألمان المُنكَسِر بعد ذلك التهاجم العنيف.
ثُمّ مع قطعِ النظر عن شأن نزول الآية نرى إنّ في هذا التشريع إجابةً لواقع الإنسان في فطرته، وصيانةً للمجتمع دون تفشّي الفساد فيه، وتشريعاً في ظروف خاصّة وفي ظلّ شرائط مُحدَّدة، فقد جاء الإسلام ليُحدّد لا لِيُطلق ويترك الأمر لهوى الرجل، فقد قَيّد التعدّد بالعدل وإلاّ امتنعت الرخصة.
ولكن لماذا أباح هذه الرخصة؟ إنّ الإسلام نظام للإنسان، نظام واقعي إيجابي يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيّرة في شتّى البقاع وشتّى الأزمان والأحوال، إنّه نظام واقعي إيجابي يَلتقط الإنسان مِن واقعه الذي هو فيه ومِن موقفه الذي هو عليه، ليَرتفع به في المُرتَقى الصاعد إلى القمّة السامقة، في غير إنكارٍ لفطرته أو تنكّر، وفي غير إغفالٍ لواقعه أو إهمال، وفي غير عُنفٍ في دفعه أو اعتساف.
إنّه نظام لا يَقوم على الحَذلَقة الجَوفاء، ولا على التظرّف المائع، ولا على المثاليّة الفارغة، ولا على الأُمنيات الحالِمة التي تَصطدم بفطرة الإنسان وواقعه ومُلابسات حياته ثمّ تتبخّر في الهواء.
وهو مع ذلك نظام يرعى خُلق الإنسان ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادّي مِن شأنه انحلال الخُلق وتلويث المجتمع تحت مَطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع، بل يتوخّى دائماً أن يُنشئ واقعاً يُساعد على صيانة الخُلق ونظافة المجتمع مع أَيسر جهدٍ يَبذله الفرد ويَبذله المجتمع.
فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسيّة في النظام الإسلامي ونحن ننظر إلى مسألة تعدّد الزوجات فماذا نرى؟ نرى أنّ هناك حالات واقعيّة في مجتمعات كثيرة ـ تأريخيّة وحاضرة ـ تبدو فيها زيادة عدد النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج، فيكف نعالج هذا الواقع الذي يقع ويتكرّر وقوعه بِنِسَب مُختلفة؟ هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار، أنعالجُه بهزّ الكَتِفَينِ؟ أو نتركه يعالج نفسَه بنفسه حسب الظروف والمصادفات؟!.
هزّ الكتفين لا يحلّ مشكلة كما أنّ ترك المجتمع ليعالج هذا الواقع حسبما اتّفق لا يقول به إنسان جادّ يحترم نفسه ويحترم الجنس البشري، فلا بدّ إذن مِن نظام، ولابدّ إذن مِن إجراء.
وعندئذٍ نجد أنفسنا أمام احتمال مِن ثلاثة احتمالات :
1 ـ أنْ يتزوّج كلّ رجل صالح للزواج امرأةً مِن الصالحات للزواج ثمّ تبقى واحدة أو أكثر ـ حسب درجة الاختلال الواقعة ـ بدون زواج، تقضي حياتها ـ أو حياتهنّ ـ لا تعرف الرجال الأكفاء.
2 ـ أنْ يتزوّج كلّ رجل صالح للزواج واحدةً فقط زواجاً شرعيّاً نظيفاً، ثُمّ يُخادن أو يُسافح واحدةً أو أكثر مِن هؤلاء اللواتي ليس لهُنّ مقابل كفؤ مِن الرجال، فيَعرفَنَ الرجل خديناً أو خليلاً في الحرام والظلام 5.
3 ـ أنْ يتزوّج الرجال الصالِحونَ ـ كلّهم أو بعضهم ـ أكثرَ مِن واحدة ـ وأنْ تَعرف المرأة الأُخرى الرجلَ ـ زوجةً شريفةً في وَضحِ النور لا خَدينَةً ولا خليلةً في الحرام والظلام.
الاحتمال الأَوّل ضدّ الفطرة وضدّ طبيعة المرأة في شعورها الأُنوثي ؛ إذ ليس الاشتغال بالاكتساب والعمل ممّا يسدّ حاجة المرأة في الحياة، فإنّ المسألة أعمق بكثير ممّا يظنّه هؤلاء المُتَحذلِقون السطحيّون، فكما أنّ الرجل يكتسب ويعمل ولكن هذا لا يَكفيه فيروح يسعى للحصول على العَشير، كذلك فهما من نفسٍ واحدةٍ على سواء.
والاحتمال الثاني ضدّ الاتّجاه الإسلامي النظيف وضدّ قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف وضدّ كرامة المرأة الإنسانيّة المترفِّعة عن الابتذال.
والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام، يختاره في إطارٍ محدود وعلى شرائط عادلة، وهو العلاج النافع لمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وللسيّد قطب هنا بحثٌ مُذيّل ومُستَوفٍ بجوانب الموضوع، وكذلك صاحب تفسير المنار، والعلاّمة الطباطبائي في الميزان، وغيرهم مِن أعلام 6.
ثمّ لم يكن هذا التشريع تشريعاً مُطلقاً بل مُتقيّداً برعاية العدل وفي رقابة مِن تقوى القلوب، نعم إنّ هذه الأرض لا تَصلح بالتشريعات والتنظيمات ما لم يكن هناك رقابة مِن التقوى في الضمير، وهذه التقوى لا تَجيش إلاّ حين يكون التشريع صادراً مِن الجهة المُطّلعة على السرائر الرقيبة على الضمائر، عندئذٍ يحسّ الفرد ـ وهو يَهمّ بانتهاك حرمة القانون ـ أنّه يَخون اللّه ويَعصي أَمره ويصادم إرادته، وأنّ اللّه مُطّلع على نيّته هذه ومرمى فعله هذا، وعندئذٍ تتزلزل أقدامه وترتجف مفاصله وتخور قواه ﴿ ... إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا 7﴿ ... وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا 8،﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ 9،﴿ ... وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ 10،﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ 11، هذه هي الرقابة الداخليّة التي يَحسّ بها كلّ إنسان صاحب ضمير.
إنّ اللّه أَعلم بعباده وأعرف بفطرتهم وأَخبر بتكوينهم النفسي والعاطفي ـ وهو خَلقهم ـ ومِن ثَمَّ جَعل التشريع تشريعه والقانون قانونه والنظام نظامه ؛ ليكون له في القلوب وزنُه وأثره ومخالفته ومَهابته، وإنّ الناس مهما أطاعوا أمثالهم تحت تأثير البَطش والإرهاب والرقابة الظاهريّة التي لا تَطَّلِع على الأفئدة فإنّهم لابدّ متفلِّتون منها كلّما غافلوا الرقابة وكلّما واتَتَهم الحيلة.
ومِن ثَمّ قال تعالى: )﴿ ... فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ... 4... ﴿ ... ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا 4 أي لا تَعدلوا وتَميلوا على الحقّ إلى الجَور. فهذه المسألة ـ مسألة إباحة تعدّد الزوجات بذلك التحفّظ الذي قرّره الإسلام ـ يُحسن أنْ تُؤخذ بيسرٍ ووضوحٍ وحسم، وأنْ تُعرف المُلابسات الحقيقيّة والواقعيّة التي تُحيط بها، فالإسلام نظامٌ يُراعي خُلق الإنسان ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادّي ملوّث من شأنه انحلال الخلق وتلويث المجتمع، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع، بل يتوخّى دائماً أنْ يُنشئ واقعاً يُساعد على صيانة الخُلق ونظافة المجتمع مع أَيسر جهدٍ يَبذله الفرد ويَبذله المجتمع 12.

  • 1. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 5 و 6، الصفحة: 385.
  • 2. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 105، الصفحة: 331.
  • 3. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 2 و 3، الصفحة: 77.
  • 4. a. b. c. d. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 3، الصفحة: 77.
  • 5. وقد عالجت فرنسا هذه المشكلة بإباحة اتخاذ الخليلة قانونيّاً إلى جَنب الزواج الشرعي، ولكن المشكلة لم تقف عند هذا الحدّ، حيث هناك مشكلة أعمق هي مشكلة نِتاج هذه الخليلة مِن أولاد، هل يُعتَبرون أولاداً شرعيّين أم ماذا؟ ولذلك طالبت الحكومة الفرنسيّة أخيراً من الحكومات الإسلاميّة أنْ ترفع إليها أطروحة تعدّد الزوجات، لعلّها تجد فيها حلاً لمشكلتها القانونيّة في هذا الجانب من الحياة العائليّة العويصة.
  • 6. راجع: في ظِلال القرآن، ج 4، ص 240 ـ 245، المجلّد الثاني، و تفسير المنار، ج 4، ص 357 ـ 362، و الميزان، ج 4، ص 195 ـ 207.
  • 7. القران الكريم: سورة النساء (4)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 77.
  • 8. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 52، الصفحة: 425.
  • 9. القران الكريم: سورة ق (50)، الآية: 18، الصفحة: 519.
  • 10. القران الكريم: سورة ق (50)، الآية: 4، الصفحة: 518.
  • 11. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 49، الصفحة: 299.
  • 12. شُبُهَات و ردود حول القرآن الكريم، تأليف: الأُستاذ محمّد هادي معرفة، تحقيق: مؤسّسة التمهيد ـ قم المقدّسة، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ص 162 ـ 167.

تعليق واحد

صورة كمال نابغ (Kamal Nabigh)

جناية المستشرقين

سأحاول في هذا المقال أن أقدم مقاربة وصفية لترجمة المستشرقين لمعاني القرآن الكريم، فقد كانت ولا زالت الترجمة بمثابة الجسر الذي تعبر ثقافة مجتمع ما من خلاله إلى باقي الثقافات من حولها، فكما أن الترجمة تلعب دورا كبيرا في خلق الحوار بين هذه المجتمعات، فإنها أيضا تمهد للسيطرة والاستعمار الثقافي والسياسي.إن الترجمة ليست عملا سهلا، فكل ترجمة لا تنقل المعنى المراد من النص، بأمانة وجدارة، عن قصد أو غير قصد، تؤدي إلى التباين وسوء الفهم، لاسيما في مجال الدين أو السياسة والعلاقات الدولية. فهذا أبو عثمان الجاحظ يقول في كتابه الحيوان:" ومتى لم يعرف ذلك المترجم أخطأ في تأويل كلام الدين. والخطأ في الدين أضر من الخطأ في الرياضة والصناعة، والفلسفة والكيمياء، وفي بعض المعيشية التي يعيش بها بنو آدم". لقد جذب القرآن الكريم، بطريقته المثلى في عرض عقيدته، وشريعته، وبأسلوبه المتفرد وصياغة أفكاره، ومبادئه اهتمام كثير من الأوروبيين، وبخاصة القساوسة والرهبان، فدعوا الى ترجمته أولا قبل دراسته، وكان أول من قام بذلك إلى اللاتينية الراهبان روبرت الإنجليزي وهرمان الألماني بطلب من الراهب بطرس رئيس دير كلوني جنوب فرنسا سنة 1143م. وظلت هذه الترجمة مخطوطة في نسخ عدة تتداول في الأديرة مدة أربعة قرون، إلى أن قام تيودور بيبلياندر بطبعها في مدينة بال في سويسرا عام 1543م، وقد تحدث عنها جورج سال قائلا:" إن ما نشره بيبلياندر في اللاتينية زاعما بأنها ترجمة للقرآن الكريم لا تستحق اسم ترجمة، فالأخطاء اللا نهائية، والحذف والإضافة، والتصرف بحرية شديدة في مواضع عدة يصعب حصرها، يجعل هذه الترجمة لا تشتمل على أي تشابه مع الأصل". ثم توالت الترجمات القرآنية إلى اللغات الأوروبية بعد ذلك في الظهور، يقول بيرسون:" إن الترجمة الفرنسية القديمة جدا هي ترجمة اندري دي ريور، طبعت كثيرا بين الأعوام 1647 و 1775، وكانت كلها تحتوي على مختصر لديانة الأتراك وبعض المستندات" .وفي القرن الثامن عشر ظهرت ترجمات أنجزت أيضا على أصل عربي، حيث نشر الانجليزي جورج سال ترجمة مباشرة من العربية إلى الانجليزية سنة 1734م، زعم في مقدمتها أن القرآن إنما هو من اختراع محمد ومن تأليفه، وأن ذلك أمر لا يقبل الجدل، ونشر الفرنسي سافاري ترجمة مباشرة الى الفرنسية سنة 1751م، حضيت بشرف نشرها في مكة المكرمة ، وفي سنة 1925 ظهرت ترجمة إدوارد مونتيه التي امتازت بالضبط والدقة. وفي العام 1949 ظهرت ترجمة بلاشير، التي توجد السور القرآنية فيها مرتبة حسب التسلسل التاريخي، وأهم ما يميزها إرفاق نص الترجمة ببعض التعاليق والبيانات، وكثيرا ما يورد للآية الواحدة ترجمتين يبين في إحداهن المعنى الرمزي، وفي الثانية المعنى الايحائي ،يقول جاك بيرك:" إن ترجمة بلاشير لها مزاياها فهو رجل من أفضل المستشرقين الأوروبيين اطلاعا على قواعد اللغة العربية وآدابها، ولكن من نواقصه أنه كان علمانيا، أي أنه لم يكن قادرا على تذوق المضمون الروحي للقرآن وأبعاده الصوفية". وسنرى زيف هذا الرأي ونفنده. وصدرت في العام 1990م ترجمة جاك بيرك، حيث استغرق ثمان سنوات من العمل المتواصل في إنجازها، استعان فيها بعدة تفاسير، أولها تفسير الطبري، وتفسير الزمخشري من التفاسير القديمة، وتفسير محمد جمال الدين القاسمي من التفاسير الحديثة، وأهم ما ميز هذه الترجمة، تلك المقدمة التي خصها بيرك لتحليل النص القرآني ومميزاته ومضامينه، والخصوصيات التي يتمتع بها، لكن بالرغم مما أحدثته هذه الترجمة من ضجة كبيرة في الأوساط الفرنسية، واعتبرت حينها حدثا ثقافيا بارزا، فإن صاحبها يرى أن عمله الترجمي لن يصل الى مرحلة الكمال، وإنما سيكون موجها الى المسلمين الذين لا يحسنون اللغة العربية، ويحسنون اللغة الفرنسية. وبالرجوع إلى تاريخ الترجمات الفرنسية لمعاني القرآن الكريم، يتضح لنا أنها مرت بثلاث مراحل رئيسة: مرحلة الترجمة من اللاتينية الى اللغة الفرنسية.

مرحلة الترجمة من اللغة العربية مباشرة الى اللغة الفرنسية، وهذا مسلك نهجه كثير من المستشرقين الفرنسيين في ترجماتهم للقرآن في القرن العشرين أمثال بلاشير وبيرك.

مرحلة دخول المسلمين ميدان الترجمة إلى اللغة الفرنسية، مثل ترجمة الجزائريين لايمش وابن داود والتي كانت بأسلوب بليغ وعجيب، وترجمة أحمد يتحاني سنة 1936م، وترجمة حميد الله سنة 1959م، وترجمة الدكتور صبحي صالح سنة 1979م. فصدق في حقهم" بلغوا عني ولو آية". نلاحظ أن الترجمات الأوروبية لمعاني للقرآن الكريم، كانت من قبل مترجمين يحسنون اللغة التي ترجموا إليها أكثر من اللغة العربية، أو العكس، ولذلك كانت تلك الترجمات الأوروبية معرضة للخلل والنواقص الكثيرة، ونلاحظ أيضا أن القرآن الكريم ترجم إلى أكثر من مائة لغة أوروبية، كما نلاحظ إعادة نشر وطبع ترجمات معينة، خصوصا تلك التي سادتها الضغينة وكثر فيها التحريف.والنتيجة كما قال لامينيز:" أننا لا نملك ترجمة جيدة للقرآن لا عيب فيها"، و يقول بوسكيه:" إن الترجمات الفرنسية كغيرها من الترجمات الاخرى للقرآن مهما كانت نوعيتها وضبطها وقيمة أسلوبها فإنها لا تؤثر في قلب غير المسلم كما يؤثر القرآن وحده في قلب المتقين". وتبقى المعرفة الرائجة حول الإسلام، أساسها الكثير من المغالطات والإسقاطات، وقد تأمل هشام جعيط مختلف آراء المفكرين الغربيين بخصوص علاقة الإسلام بالغرب، فأدرك أنها لا تخرج على دائرة علم الاستشراق، المحشو بالنظرة الامبريالية المجبولة على سرقة الآخر واضطهاده واستعماره، حيث أن مؤر خ الاستشراق رينان يختزل الإسلام في أنه عالم فاسد بحد ذاته. و الانطولوجي المشهور كلود ليفي ستراوش يجعل من الاسلام بنية للعداء والعنف والاستعباد. ونمثل لذلك بموقف بلاشير من القرآن الكريم الذي كان واضحا في منهجه في ترجمة معاني القرآن الكريم، فهو يشكك في أصالة ترتيب سور القرآن الكريم، ويزعم أن القرآن الكريم من تأليف محمد عليه الصلاة والسلام، ويوهم القارئ أن القرآن تأثر باليهودية والنصرانية، كما يزعم أن بعض الآيات في غير محلها، وأما الأخطاء النحوية واللغوية في ترجمته لمعاني القرآن الكريم فكثيرة نذكر مثالا لكل منها: ترجم قوله تعالى:" حتى يأتي الله بأمره" ، كما يلي:

Jusqu’à ce que Dieu vienne avec son ordre

والصواب هو:

Que Dieu fasse venir son ordre

وترجم قوله تعالى:" ويستحيون نساءكم" كما يلي:

Et couvraient de honte vos femmes

والصواب هو:

Laissaient vivantes vos femmes.

وأخيرا تؤكد الدكتورة زينب عبد العزيز في مقدمة كتابها ترجمات القرآن إلى أين؟،أن المستشرق جاك بيرك سار هو أيضا على نفس النهج في ترجمته لمعاني القرآن، حيث التعصب المغرض والرغبة في تشويه صورة الإسلام.