تبريرات شيطانية

رَوَى نَصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) حِينَ وَقَعَ الْقِتَالُ وَ قُتِلَ طَلْحَةُ تَقَدَّمَ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) " الشَّهْبَاءِ " بَيْنَ الصَّفَّيْنِ ، فَدَعَا الزُّبَيْرَ ، فَدَنَا إِلَيْهِ حَتَّى اخْتَلَفَ أَعْنَاقُ دَابَّتَيْهِمَا .
فَقَالَ : " يَا زُبَيْرُ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) يَقُولُ : إِنَّكَ سَتُقَاتِلُ عَلِيّاً وَ أَنْتَ لَهُ ظَالِمٌ " ؟
قَالَ : اللَّهُمَّ نَعَمْ .
قَالَ : " فَلِمَ جِئْتَ " !
قَالَ : جِئْتُ لِأُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ !
فَأَدْبَرَ الزُّبَيْرُ وَ هُوَ يَقُولُ :
تُرْكُ الْأُمُورِ الَّتِي تُخْشَى عَوَاقِبُهَا *** لِلَّهِ أَجْمَلُ فِي الدُّنْيَا وَ فِي الدِّينِ‏
نَادَى عَلِيٌّ بِأَمْرٍ لَسْتُ أَذْكُرُهُ *** إِذْ كَانَ عَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْرِ مُذْ حِينٍ‏
فَقُلْتُ حَسْبُكَ مِنْ عَذْلٍ أَبَا حَسَنٍ *** فَبَعْضُ مَا قُلْتَهُ ذَا الْيَوْمَ يَكْفِينِي‏
فَاخْتَرْتُ عَاراً عَلَى نَارٍ مُؤَجَّجَةٍ *** مَا إِنْ يَقُومُ لَهَا خَلْقٌ مِنَ الطِّينِ‏
أَخَاكَ طَلْحَةَ وَسَطَ الْقَوْمِ مُنْجَدِلًا *** رُكْنَ الضَّعِيفِ وَ مَأْوَى كُلِّ مِسْكِينٍ‏
قَدْ كُنْتُ أَنْصُرُ أَحْيَاناً وَ يَنْصُرُنِي *** فِي النَّائِبَاتِ وَ يَرْمِي مَنْ يُرَامِينِي‏
حَتَّى ابْتُلِينَا بِأَمْرٍ ضَاقَ مَصْدَرُهُ *** فَأَصْبَحَ الْيَوْمَ مَا يَعْنِيهِ يَعْنِينِي‏
قَالَ فَأَقْبَلَ الزُّبَيْرُ عَلَى عَائِشَةَ ، فَقَالَ : يَا أُمَّهْ وَ اللَّهِ مَا لِي فِي هَذَا بَصِيرَةٌ ، وَ أَنَا مُنْصَرِفٌ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَ فَرَرْتَ مِنْ سُيُوفِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ ؟!
فَقَالَ : إِنَّهَا وَ اللَّهِ طِوَالٌ حِدَادٌ تَحْمِلُهَا فِتْيَةٌ أَنْجَادٌ .
ثُمَّ خَرَجَ الزُّبَيْرُ رَاجِعاً ، فَمَرَّ بِوَادِي السِّبَاعِ ، وَ فِيهِ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ قَدِ اعْتَزَلَ فِي بَنِي تَمِيمٍ ، فَأُخْبِرَ الْأَحْنَفُ بِانْصِرَافِهِ .
فَقَالَ : مَا أَصْنَعُ بِهِ إِنْ كَانَ الزُّبَيْرُ لَفَّ بَيْنَ غَارَيْنِ 1 مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَ قُتِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ثُمَّ هُوَ يُرِيدُ اللِّحَاقَ بِأَهْلِهِ .
فَسَمِعَهُ ابْنُ جُرْمُوزٍ ، فَخَرَجَ هُوَ وَ رَجُلَانِ مَعَهُ ، وَ قَدْ كَانَ لَحِقَ بِالزُّبَيْرِ رَجُلٌ مِنْ كَلْبٍ وَ مَعَهُ غُلَامُهُ ، فَلَمَّا أَشْرَفَ ابْنُ جُرْمُوزٍ وَ صَاحِبَاهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَرَّكَ الرَّجُلَانِ رَوَاحِلَهُمَا وَ خَلَّفَا الزُّبَيْرَ وَحْدَهُ .
فَقَالَ لَهُمَا الزُّبَيْرُ : مَا لَكُمَا ، هُمْ ثَلَاثَةٌ وَ نَحْنُ ثَلَاثَةٌ !
فَلَمَّا أَقْبَلَ ابْنُ جُرْمُوزٍ ، قَالَ لَهُ الزُّبَيْرُ : إِلَيْكَ عَنِّي .
فَقَالَ ابْنُ جُرْمُوزٍ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّنِي جِئْتُكَ أَسْأَلُكَ عَنْ أُمُورِ النَّاسِ .
قَالَ : تَرَكْتُ النَّاسَ عَلَى الرَّكْبِ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ وُجُوهَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ .
قَالَ ابْنُ جُرْمُوزٍ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي عَنْ أَشْيَاءَ أَسْأَلُكَ عَنْهَا .
قَالَ : هَاتِ .
قَالَ : أَخْبِرْنِي عَنْ خَذْلِكَ عُثْمَانَ ، وَ عَنْ بَيْعَتِكَ عَلِيّاً ، وَ عَنْ نَقْضِكَ بَيْعَتَهُ ، وَ عَنْ إِخْرَاجِكَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، وَ عَنْ صِلَاتِكَ خَلَفَ ابْنِكَ ، وَ عَنْ هَذِهِ الْحَرْبِ الَّذِي جَنَيْتَهَا ، وَ عَنْ لُحُوقِكَ بِأَهْلِكَ ؟!
قَالَ : أَمَّا خَذْلِي عُثْمَانَ ، فَأَمْرٌ قَدَّمَ اللَّهُ فِيهِ الْخَطِيئَةَ وَ أَخَّرَ فِيهِ التَّوْبَةَ .
وَ أَمَّا بَيْعَتِي عَلِيّاً ، فَلَمْ أَجِدْ مِنْهَا بُدّاً ، إِذْ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَ الْأَنْصَارُ .
وَ أَمَّا نَقْضِي بَيْعَتَهُ ، فَإِنَّمَا بَايَعْتُهُ بِيَدِي دُونَ قَلْبِي .
وَ أَمَّا إِخْرَاجِي أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، فَأَرَدْنَا أَمْراً وَ أَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ .
وَ أَمَّا صَلَاتِي خَلْفَ ابْنِي ، فَإِنَّ خَالَتَهُ قَدَّمَتْهُ .
فَتَنَحَّى ابْنُ جُرْمُوزٍ ، وَ قَالَ : قَتَلَنِيَ اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ 2 .

  • 1. الغار : الجمع الكثير ، و قيل : الغاريين : الجيشين ، و الغار الجماعة .
  • 2. بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 32 / 198 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود بإصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .