الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

القرآن الكريم.. وروح المعاصرة

كيف نكتسب روح المعاصرة من القرآن الكريم؟ وكيف نكتشف هذه الروح ونبرهن عليها في الكتاب المجيد؟
نقصد بالمعاصرة القدرة المنهجية الواعية، في مواكبة حركة الحياة وتطوراتها السيالة، ومجاراة فاعلية الزمن بفيضه الذي لا ينقطع من الحوادث والتغيرات، والاستجابة لشرائط التقدم، ومقتضيات التمدن والحضارة.
وروح المعاصرة في القرآن الكريم هي من تجليات قوله تعالى:﴿ ... مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ... 1وقوله تعالى: ﴿ ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ... 2وقوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ... 3
والقرآن الكريم هو الكتاب الذي بإمكانه أن يصف نفسه بمثل هذا الوصف﴿ ... تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ... 2، الذي يفيد الإحاطة والسعة والشمول، ليكون كتاباً مرجعياً خالداً يرجع إليه الإنسان في كل زمان ومكان، بوصفه كتاباً فيه تبيان لكل شيء، ويفيض بعلمه ومعارفه بلا توقف أو انقطاع.
وعند البحث عن هذه المعاصرة وروحها ومنابعها في القرآن الكريم، يمكن التعرف والبرهنة عليها، عن طريق مجموعة من الحقائق، منها الطريقة التي تنزل فيها القرآن الكريم، حيث تكشف عن منطق وتجليات روح المعاصرة في هذا الكتاب، الذي ظل يتنزل متصلاً ومتفاعلاً مع الوقائع والحوادث، على اختلاف صفتها وطبيعتها، مستجيباً لشرائطها ومقتضياتها، شارحاً ومعرفاً لأحكامها وقواعد السلوك في التعامل معها، وكاشفاً عن العبرة والموعظة فيها.
فقد عرف القرآن الكريم عن نفسه بوصفه كتاباً متصلاً ومتفاعلاً مع الواقع والحياة، على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، وفي مختلف ميادين الحياة الدينية والتشريعية، الثقافية والاجتماعية، السياسية والاقتصادية، لكي يتلمس الناس هذه الحقيقة، ويتخذون منها منطقاً في النظر إليه، والتعامل معه.
فالقرآن الكريم هو كتاب عمل وسلوك، بصائر وهدى، وليس كتاباً للرأي والجدل الذهني والتجريدي، وإنه اتصل بالواقع والحياة منذ عهده الأول، وظل محتفظاً بهذه الصفة والطبيعة التي تجعله شديد الارتباط بحركة الحياة وفاعلية الزمن.
وقد بنى محمد إقبال فلسفة على هذه الحقيقة، وهي الفلسفة التي شرحها في كتابه الشهير: (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، الذي افتتحه بقوله: (القرآن الكريم كتاب يعنى بالعمل أكثر مما يعنى بالرأي)، واختتمه بقوله: (أن العالم ليس شيئاً لمجرد الرؤية، أو أنه يعرف بالتصور، وإنما هو شيء يبدأ ويعاد بالعمل المستمر).
وأقام إقبال هذه الفلسفة، على أساس الكشف عن التعارض والتناقض بين روح الفلسفة اليونانية وروح القرآن، ففي روح القرآن كما يقول تتجلى النظرة الواقعية، في حين امتازت الفلسفة اليونانية بالتفكير النظري المجرد، وإغفال الواقع المحسوس.
ويرى إقبال أن حديث القرآن الكريم حول الطبيعة، عن الشمس والقمر والكواكب والنجوم، وعن السماوات والأرض والجبال والبحار، وعن الليل والنهار.. الخ، يلفت الأنظار إلى الاتجاه التجريبي العام للقرآن، الأمر الذي كون في أتباعه شعوراً بتقدير الواقع الموضوعي، وجعل منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث.
ونفى إقبال أن يكون ظهور منهج الملاحظة والتجربة في الإسلام، قد نشأ عن توافق بين العقل الإسلامي والعقل اليوناني4