الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

النبوة

النبوة و النبي

كلمة ( نُبوّةُ ) مصدر الفعل ( نبأ ) ـ المهموز من آخره ـ ، فأصل الكلمة ( نبوءة ) ـ بالهمز ـ ثم خففت بقلب الهمزة واواً و ادغامها بالواو الأصلية ، كما يقال : مُروءة و مُروّة .
و استدل اللغويون على ذلك بتصغيرها حيث يقال فيها ( نُبيئة ) .
و معناها ـ لغة ـ : الإِنباء و الإِخبار ـ بكسر همزتهما الأولى .
و منه أخذت النبوة شرعاً إلا أنها قُيّدت بالإِخبار و الإِنباء عن اللّه تعالى ، و قُصرت على أن يكون المخبر أو المنبئ إنسانا .
و سمي الإنسان المخبر أو المبلغ عن اللّه تعالى ( النبي ) .
و عرّفه ( معجم ألفاظ القرآن الكريم ) : « من يصطفيه اللّه من عباده البشر لأن يوحي إليه بالدين و الشريعة فيها هداية للناس » .
و عرّف النبوة : « منصب النبي و جماع مميزاته و خصائصه التي بها يصير نبياً » .
و في ( مجمع البحرين ) : « النبي : هو الإنسان المخبر عن اللّه بغير واسطة بشر ، أعم من أن يكون له شريعة كمحمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) أو ليس له شريعة كيحيى ( عليه السلام ) . . » .
و تعريفه هذا هو تعريف المتكلمين .
و « بقيد ( الإنسان ) يخرج الملك ، و بقيد ( المخبر عن اللّه ) يخرج المخبر عن غيره ، و بقيد ( بغير واسطة بشر ) يخرج الإمام و العالم فإنهما مخبران عن اللّه تعالى بواسطة النبي » 1 .
و المميزات و الخصائص التي يتم اصطفاء و اختيار النبي على أساس منها ، هي ـ باختصار ـ أن يمثل النبي في شخصيته الإنسان في أسمى حالات كماله البدني و الخُلقي و العقلي .
و قد اختلف المتكلمون المسلمون في حكم النبوة أو بعث الأنبياء من قبل اللّه تعالى إلى الناس ، على قولين :
1 ـ الوجوب عقلاً ، و هو مذهب المعتزلة .
2 ـ الجواز عقلاً ، و هو مذهب الاشاعرة .
و حجة المعتزلة :
إن التكاليف الشرعية ألطاف في التكاليف العقلية ، بمعنى أن الإنسان المكلف متى واظب على الامتثالات الشرعية كان أقرب إلى التكاليف العقلية .
و بتعبير آخر :
إن التبليغ الذي يأتي به الأنبياء تشريعاً من اللّه يأتي موافقاً لما يحكم به العقل ، بمعنى انه لا يمتنع عند العقل .
و اللطف واجب لأنه هو الذي يحصّل غرض الشارع المكلف .
و متى لم يجب لزم نقض غرض الشارع المكلف .

بيان الملازمة

إن المكلِّف اذا علم أن المكلَّف لا يطيع إلا باللطف لا يكلفه بدونه ، لأنه لو كلفه بدونه كان ناقضاً لغرضه ، فيكون الشأن كمن دعا غيره إلى طعام و هو يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعاً من التأدب ، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه .
فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض » 2 .
و لأن اللطف واجب يكون التكليف الشرعي واجباً أيضاً ، و هو « لا يمكن معرفته إلا من جهة النبي ، فيكون وجود النبي واجباً لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب » 3 .
و مذهب المعتزلة هذا ، هو مذهب الحكماء أو الفلاسفة ، و اليه ذهب الاماميون أيضاً .

و خلاصته

أن طبيعة تكوين الإنسان الفرد بما تحمل من نوازع إلى الخير و نوازع إلى الشر .
و طبيعة التفاعل الاجتماعي بين أفراد الإنسان التي تتطلب الوقوف أمام نوازع الإنسان الشرية أن تتغلب فتضر بالعلاقة الاجتماعية ، ان هذه و تلك تقتضيان وجود نظام مستقيم يحقق العدل في العلاقات الاجتماعية ، و في جميع السلوك الإنساني .
و لأن وضع هذا النظام من قبل الإنسان لا يأتي مستقيماً محققاً للعدل بسبب نقص الإنسان ، و النقص لا يوجد الكمال لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، لا بد إذن من أن يكون وضع النظام من قبل المتصف بالكمال المطلق ، و هو اللّه تعالى ، لطفاً منه بعباده .
و من هنا يكون بعث الأنبياء إلى الناس من قبل اللّه تعالى بما يشرعه من شرائع لتنظيم سلوك الإنسان فكرياً و عملياً ، لطفاً .
و اللطف واجب في الحكمة فتجب البعثة .
و المسألة هذه من المسائل التي تقوم على أساس من فكرة التحسين و التقبيح .
و لأن المعتزلة و الامامية و من سار في خطهما يذهبون إلى أنهما عقليان قالوا بالوجوب العقلي .
و لأن الاشاعرة و من تبعهم يذهبون إلى أنهما شرعيان قالوا بالجواز ، نفياً للوجوب العقلي الذي قال به المعتزلة ، لا لأصل الوجوب .
سأل رجل الإمام الصادق ( عليه السلام ) السؤال التالي :
من أين اثبت الأنبياء و الرسل ؟
فأجابه الإمام ( عليه السلام ) الجواب التالي :
« إنّا لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا ، و عن جميع ما خلق .
و لما كان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه و لا يلامسوه فيباشرهم و يباشرونه ، و يحاجهم و يحاجونه ، ثبت أن له سفراء في خلقه ، يعبّرون عنه إلى خلقه و عباده ، و يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما به بقاؤهم و في تركه فناؤهم .
فثبت الآمرون و الناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، و المعبرون عنه عز و جل ، و هم الأنبياء » 4 .
« و تعرف النبوة بثلاثة أشياء :
أولها : أن لا يقرر ما يخالف العقل كالقول بان الباري تعالى اكثر من واحد .
و الثاني : أن تكون دعوته للخلق إلى طاعة اللّه و الاحتراز عن معاصيه .
و الثالث : أن يظهر منه عقيب دعواه النبوة معجزة مقرونة بالتحدي مطابقة لدعواه .
و المعجزة ، فعل خارق للعادة يعجز عن أمثاله البشر .
و التحدي : هو أن يقول لأمته : إن لم تقبلوا قولي فافعلوا مثل هذا الفعل » 5 .

عصمة الأنبياء

اتفق الجميع على لزوم عصمة الأنبياء في أداء الرسالة و تبليغها .
واختلفوا فيما عدا ذلك ، و الاقوال هي :
1 ـ العصمة في التبليغ و اداء الرسالة فقط .
2 ـ العصمة عن صدور المعصية مطلقاً كبيرة كانت أو صغيرة ، عمداً كان صدورها أو سهواً ، وفي جميع السلوك تبليغاً وغيره . و هو قول الامامية .
3 ـ العصمة عن صدور المعصية الكبيرة ، عمداً كان صدورها أو سهواً .
ذلك أن صدور الصغيرة ـ في رأيهم ـ لا يخل بالعصمة . و هو قول المعتزلة .
4 ـ العصمة عن صدور المعصية كبيرة و صغيرة عمداً . أي أن صدور المعصية سهواً لا ينافي العصمة . و هو قول الاشاعرة .
و كما اختلفوا في مدى شمول مفهوم العصمة سعة و ضيقاً ـ كما رأينا ـ اختلفوا في أمدها على قولين ، هما :
1 ـ العصمة مدة التبليغ و أداء الرسالة فقط ، و هو قول أهل السنة .
جاء في ( الفرق بين الفرق ) 6 : « و قالوا ( يعني أهل السنة ) بعصمة الأنبياء عن الذنوب ، و تأولوا ما روي عنهم من زلاتهم على انها كانت قبل النبوة » .
2 ـ العصمة من الولادة حتى آخر العمر . و هو قول الإمامية . قال العلامة الحلي 7 : « انه ( يعني النبي ) معصوم من أول عمره إلى آخره ، لعدم انقياد القلوب إلى طاعة من عهد منه في سالف عمره أنواع المعاصي : الكبائر و الصغائر و ما تنفر النفس منه » .
و في بيان حقيقة العصمة يقول الشيخ المفيد 8 : « العصمة : لطف يفعله اللّه تعالى بالمكلف بحيث يمنع من وقوع المعصية و ترك الطاعة مع قدرته عليهما » .
و يقول النصير الطوسي : « العصمة : هي أن يكون العبد قادراً على المعاصي غير مريد لها مطلقاً .
و عدم إرادته أو وجود صارفه يكون من اللّه تعالى لطفاً في حقه ، فهو لا يعصي اللّه ، لا لعجزه ، بل لعدم إرادته ، أو لكون صارفه غالباً على ارادته .
فوقوع المعصية منه ممكن بالنظر إلى قدرته ، و ممتنع بالنظر إلى عدم ارادته ، أو لكون صارفه غالباً على إرادته » 9 .
و يقول العضد الايجي : « و هي ( يعني العصمة ) عندنا ( يعني الاشاعرة ) : أن لا يخلق اللّه فيهم ( يعني الأنبياء ) ذنباً .
و عند الحكماء : ملكة تمنع عن الفجور ، و تحصل بالعلم بمثالب المعاصي ، و مناقب الطاعات ، و تتأكد بتتابع الوحي بالأوامر و النواهي » 10 .
و استدل لثبوت عصمة بأدلة ، منها :
1 ـ ان النبوة عهد اللّه تعالى ، و هو يقول : ﴿ ... لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 11 ، و المعصية ظلم .
2 ـ « لو لم يكن الأنبياء معصومين لانتفت فائدة البعثة .
و اللازم ( و هو انتفاء فائدة البعثة ) باطل .
فالملزوم ( و هو عدم عصمة الأنبياء ) مثله ، أي باطل أيضاً .
بيان الملازمة :
انه إذا جازت المعصية عليهم لم يحصل الوثوق بصحة قولهم لجواز الكذب حينئذٍ عليهم .
و إذا لم يحصل الوثوق لم يحصل الانقياد لأمرهم ، و نهيهم ، فتنتفي فائدة بعثهم ، و هو محال » ، لان بعثهم فعل اللّه تعالى و هو الحكيم العادل .
3 ـ إننا ملزمون بإتباع الأنبياء لدلالة الإجماع و النقل على وجوب اتباعهم .
فلو كانوا غير معصومين ـ حسب الفرض ـ لكان الأمر حينئذ باتباعهم من المحال لأنه قبيح .
فيكون صدور الذنب عنهم محالاً ، و هو المطلوب 12 .
و بتقرير آخر : « انه لو جاز أن يفعل النبي المعصية أو يخطأ و ينسى ، و صدر منه شيء من هذا القبيل .
فاما أن يجب إتباعه في فعله الصادر عنه عصياناً أو خطأ .
أو لا يجب .
فان وجب إتباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي برخصة من اللّه تعالى ، بل أوجبنا ذلك .
و هذا باطل بضرورة الدين و العقل .
و إن لم يجب إتباعه فذلك ينافي النبوة التي لا بد أن تقترن بوجوب الطاعة أبداً .
على أن كل شيء يقع منه من فعل أو قول فنحن نحتمل فيه المعصية أو الخطأ فلا يجب إتباعه في شيء من الأشياء فتذهب فائدة البعثة ، بل يصبح النبي كسائر الناس ليس لكلامهم و لا لعملهم تلك القيمة العالية التي يعتمد عليها دائماً .
كما لا تبقى طاعة حتمية لاوامره و لا ثقة مطلقة بأقواله و أفعاله » 13 .
« و ما ورد في الكتاب العزيز و الأخبار مما يوهم صدور الذنب عنهم فمحمول على ترك الأولى جمعاً بين ما دلّ العقل عليه و بين صحة النقل .
مع أن جميع ذلك قد ذكر له وجوه و محامل في مواضعه .
و عليك في ذلك بمطالعة كتاب ( تنزيه الأنبياء ) الذي رتبه السيد المرتضى علم الهدى الموسوي ( ره ) و غيره من الكتب » 14 مثل كتاب ( المواقف في علم الكلام ) لعضد الدين القاضي الايجي ـ المقصد الخامس من المرصد الأول من الموقف السادس .

نبوة نبينا محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم )

بعد الكلام عن النبوة و الأنبياء بعامة يتكلم علماء الكلام في نبوة نبينا محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بخاصة .
فيقولون :
إن النبي محمداً ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ادّعى النبوة ، و ظهرت على يديه المعجزات المثبتة لنبوته .
و كل من ادّعى النبوة ، و أثبتت المعجزة صحة نبوته فهو نبي حقاً .
و في هذا الاستدلال ثلاثة امور تتطلب البرهنة عليها ، لينهض الاستدلال بالحجية ، و هي :
1 ـ ادعاؤه النبوة .
2 ـ ظهور المعجزة على يديه .
3 ـ ظهور المعجزة يثبت صحة النبوة .
أما الأمر الأول فثابت بالبداهة لإجماع الناس على ذلك و عدم نكرانه من أحد .
و الأمر الثاني ثابت بالنقل المتواتر المفيد لليقين .
و في الأمر الثالث قالوا : لو لم تكن المعجزة مثبتة للنبوة ، و ما كان محمد صادقاً بادعائه النبوة ، للزم منه اغراء المكلفين من قبل اللّه تعالى باتباع الكاذب ، و ذلك قبيح لا يفعله ربنا الحكيم العادل .
و أهم معجزاته ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : القرآن الكريم .

إعجاز القرآن

انزل اللّه تعالى أكثر من آية قرآنية للإعلان و الإعلام بأن القرآن الكريم هو المعجزة الدالة على صحة ادعاء محمد للنبوة ، و هو الحجة المثبتة لصحة نبوته ( صلى الله عليه و آله و سلم ) .
و بطلبه من الإنس و الجن عامة و العرب خاصة مجاراتهم له كان تحديه لهم المقارن لدعواه النبوة .
ـ قال تعالى : ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ 15 .
ـ و قال تعالى : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ 16 .
ـ و قال تعالى : ﴿ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ 17 .
و تتمثل مادة الإعجاز في بلاغة القرآن و اسلوبه ، في بيانه و نظمه .
ذلك أن لكل اسلوب أدبي خصائصه الفنية التي يفترق و يمتاز بها عما سواه من الأساليب الأدبية الأخرى .
و تتمثل كيفية إعجازه بأن من يسمعه أو يقرأه من بلغاء العرب و أدبائهم و متذوقي ألوان الفن الأدبي العربي يدرك أن أسلوب القرآن الكريم يمتاز بخصائص ترتفع به عن مستوى ما يمكن أن يأتي به أبلغ البلغاء من البشر .
أي أن من يسمعه أو يقرأه « يحكم بأنه ليس من كلام البشر ، و بذلك يكون دليلاً على أن تاليه عليهم ـ و هو بشر مثلهم ـ نبي من عند اللّه مرسل » .
« فمن هذا الوجه طولب العرب بالاقرار و التسليم ، و من هذا الوجه تحيرت العرب فيما تسمع من كلام يتلوه عليهم رجل منهم تجده من جنس كلامها لأنه نزل بلسانهم ـ لسان عربي مبين ـ ثم تجده مبايناً لكلامها » .
فهم يتبينون « في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر و بيانهم من وجهٍ يحسم القضاء بأنه كلام رب العالمين » .
و يُستخلص من هذا أمور :
« الأول : إن قليل القرآن و كثيره في شأن الإعجاز سواء .
الثاني : إن الإعجاز كائن في رصف القرآن و بيانه و نظمه ، و مباينة خصائصه للمعهود من خصائص كل نظم و بيان في لغة العرب ، ثم في سائر لغات البشر ، ثم في بيان الثقلين جميعاً : إنسهم و جنهم متظاهرين .
الثالث : إن الذين تحداهم بهذا القرآن قد أوتوا القدرة على الفصل بين الذي هو من كلام البشر و الذي هو ليس من كلامهم .
الرابع : ان الذين تحداهم به كانوا يدركون أن ما طولبوا به من الإتيان بمثله ، أو بعشر سور مثله مفتريات ، هو هذا الضرب من البيان الذي يجدون في انفسهم أنه ـ خارج من جنس بيان البشر .
الخامس : ان هذا التحدي لم يقصد به الإتيان بمثله مطابقاً لمعانيه ، بل أن يأتوا بما يستطيعون افتراءه و اختلاقه ، من كل معنى أو غرض ، مما يعتلج في نفوس البشر .
السادس : ان هذا التحدي للثقلين جميعاً انسهم و جنهم متظاهرين ، تحدٍّ و مستمر قائم إلى يوم الدين .
السابع : ان ما في القرآن من مكنون الغيب ، و من دقائق التشريع ، و من عجائب آيات اللّه في خلقه ، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي إلى الإعجاز ، و ان كل ما فيه من ذلك كله يعد دليلاً على أنه من عند اللّه تعالى ، و لكنه لا يدل على أن نظمه و بيانه مباين لنظم كلام البشر و بيانهم ، و انه بهذه المباينة كلام رب العالمين لا كلام البشر مثلهم » 18 .
و لأن القرآن الكريم المعجزة الخالدة بخلود رسالة محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، و المستمرة مع استمرارها ، كما هو واضح من الآية الأولى المذكورة في أعلاه ، قد يطرح السؤال التالي :
بم يتمثل إعجاز القرآن الكريم الآن ، و قد ذهب العرب الفصحاء الذين استقبلوه أيام تنزيله و أدركوا بذوقهم الفطري انه كلام اللّه تعالى لسموه في مستوى بيانه و نظمه فوق مستوى كلامهم ؟
و ممن أثار هذا التساؤل مالك بن نبي ، قال في كتابه ( الظاهرة القرآنية ) : « إن لكل شعب هواية يصرف إليها مواهبه الخلاقة طبقاً لعبقريته و مزاجه .
فالفراعنة ـ مثلاً ـ كان لهم اهتمام بفنون العمارة و الرياضيات ، يدلنا عليه ما بقي بين أيدينا من آثارهم العظيمة ، تلك الآثار التي أثارت اهتمام رجال العلم ، مثل الأب ( مورو ) الذي خصص أحد كتبه لدراسة تصميم الهرم الأكبر ، و ما يتضمن من نظريات هندسية غريبة و خصائص رياضية و ميكانيكية عجيبة .
كما كان اليونان مغرمين بصور الجمال على ما أبدعه فن ( فيدياس ) ، و بآيات المنطق و الحكمة على ما جادت به عبقرية ( سقراط ) .
أما العرب في الجاهلية فقد كانت هوايتهم في لغتهم ، فلم يقتصروا على استخدامها في ضرورات الحياة اليومية ، شأن الشعوب الأخرى . و انما كان العربي يفتن في استخدام لغته ، فينحت منها صوراً بيانية لا تقل جمالاً عما كان ينحته فيدياس في المرمر ، و ما كانت ترسمه ريشة ( ليوناردو فانسي ) في لوحاته المعلقة في متاحف العالم الكبرى .
فالشعر العربي ـ كما قال أخي الاستاذ محمود شاكر في مقدمة هذا الكتاب ( يعني الظاهرة القرآنية ) ـ : ( كان حين انزل اللّه القرآن على نبيه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) نوراً يضيء ظلمات الجاهلية ، و يعكف أهله على بيانه عكوف الوثني للصنم ، و يسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط ، فقد كانوا عبدة البيان قبل أن يكونوا عبدة الأوثان ، و قد سمعنا من استخف منهم بأوثانهم ، ولم نسمع قط منهم من استخف ببيانهم ) .
هذه صورة الظروف النفسية التي نزل فيها القرآن فكان لإعجازه أن ينفذ إلى الأرواح ـ بصفة عامة في زمن النزول ـ على هذه السبيل ، أي بما ركب في الفطرة العربية من ذوق وبيان .
ثم تغيرت هذه الظروف مع تطورات التاريخ الإسلامي ، و فاض طوفان العلوم في أواخر عهد بني أمية و العهد العباسي ، فصار إدراك جانب الإعجاز في القرآن بالمعنى الذي حددناه ـ لغة و إصطلاحاً ـ من طريق التذوق العلمي ، أكثر من أن يكون من طريق الذوق الفطري » 19 .
« و هنا تواجهنا مشكلة الإعجاز في صورتها الجديدة بالنسبة لهذا المسلم ـ أعني بالنسبة لأغلبية المثقفين ثقافة اجنبية ، بل و ربما بالنسبة لذوي الثقافة التقليدية في ظروفهم الثقافية و النفسية الخاصة ، فلا بد إذن من إعادة النظر في القضية في نطاق الظروف الجديدة التي يمر بها المسلم اليوم ، مع الضرورات التي يواجهها في مجال العقيدة و الروح .
و على رغم ما يبدو في القضية من تعقد ، بسبب موقفنا التقليدي إزاءها فاني أعتقد أن مفتاحها موجود في قوله تعالى : ﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ... ﴾ 20 ، فإذا اعتبرنا هذه الآية على أنها حجة يقدمها القرآن للنبي كي يستخدمها في جداله المشركين فلا بد أن نتأمل محتواها المنطقي من ناحيتين :
فهي تحمل أولاً إشارة خفية إلى أن تكرار الشيء في ظروف معينة يدل على صحته ، أي أن سوابقه في سلسلة معينة تدعم حقيقته كـ ( ظاهرة ) بالمعنى الذي يسبغه التحديد العلمي على هذه الكلمة . فالظاهرة : هي ( الحدث الذي يتكرر في نفس الظروف مع نفس النتائج ) .
و هي تحمل في مدلولها ثانياً ربطاً واضحاً بين الرسل و الرسالات خلال العصور ، و ان الدعوة المحمدية يجري عليها أمام العقل ما يجري على هذه الرسالات .
و من هذا نستخلص أمرين :
1 ـ انه يصح أن ندرس الرسالة المحمدية في ضوء ما سبقها من الرسالات .
2 ـ كما يصح أن ندرس هذه الرسالات في ضوء رسالة محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على قاعدة أن ( حكم العام ينطبق على الخاص قياساً ، و حكم الخاص ينطبق على العام استنباطاً ) .
و لا مانع إذن من أن نعيد النظر في معنى ( الإعجاز ) في ضوء منطق الآية الكريمة .
و حاصل هذا : إننا إذا اعتبرنا الأشياء في حدود الحدث المتكرر أي في حدود الظاهرة ، فالإعجاز هو :
1 ـ بالنسبة إلى شخص الرسول : الحجة التي يقدمها لخصومه ليعجزهم بها .
2 ـ و هو بالنسبة إلى الدين : وسيلة من وسائل تبليغه .
و هذان المعنيان للإعجاز يضيفان على مفهومه صفات معينة :
أولاً : إن الإعجاز ـ كـ ( حجة ) ـ لا بد أن يكون في مستوى إدراك الجميع ، و إلا فاتت فائدته ، إذ لا قيمة منطقية لحجة تكون فوق إدراك الخصم ، فهو ينكرها عن حسن نية أحياناً .
ثانياً : و من حيث كونه وسيلة لتبليغ دين : أن يكون فوق طاقة الجميع .
ثالثاً : و من حيث الزمن : أن يكون تأثيره بقدر ما في تبليغ الدين من حاجة إليه .
و هذه الصفة الثالثة تحدد نوع صلته بالدين الصلة التي تختلف من دين إلى آخر باختلاف ضرورات التبليغ .
فهذا هو المقياس العام الذي نراه ينطبق على معنى الإعجاز في كل الظروف المحتملة بالنسبة إلى الأديان المنزلة .
فإذا قسنا به في نطاق رسالة موسى ( عليه السلام ) ـ مثلاً ـ نرى أن اللّه اختار لهذا الرسول معجزتي اليد و العصا .
و إذا تأملناهما وجدناهما كـ ( حجة ) يدعم اللّه بها نبيه يتصفان بأنهما :
1 ـ ليستا من مستوى العلم الفرعوني الذي كان من اختصاص أشخاص معدودين يكوّنون هيئة الكهنوت ، بل كانت المعجزة في كلتا صورتيها من مستوى السحر الذي يقع أثره في إدراك الجميع عن طريق المعاينة الحسية دون اجهاد فكر .
2 ـ هاتان المعجزتان تتصلان بتاريخ الدين الموسوي لا بجوهره ، إذ ليس لليد أو العصا صلة بمعاني هذا الدين و لا بتشريعه ، فهما على هذا مجرد توابع للدين ، لا من صفاته الملازمة له .
3 ـ و دلالة هاتين المعجزتين على صحة الدين محدودة بزمن معين إذ لا نتصور مفعول اليد و العصا كحجة إلا في الجيل الذي شاهدهما أو الجيل الذي بلغته تلك الشهادة بالتواتر من التابعين و تابعي التابعين ، أي أن مفعوله لا يكون الا في زمن محدد لحكمة أرادها اللّه .
و لو فكرنا في هذه الحكمة لوجدناها انها تتفق مع حقائق نفسية و حقائق تاريخية سجلها الواقع فعلاً ، هي :
أولاً : إن القوم الذين يدينون اليوم بدين موسى ـ أي اليهود ـ يفقدون ـ لاسباب نفسية لا سبيل لشرحها هنا ـ نزعة التبليغ بحيث لا يشعرون بضرورة تبليغ دينهم إلى غيرهم من الأمم ـ أي الاميين كما يقولون ـ حتى إننا إذا استخدمنا لغة الاجتماع قلنا : إن الإعجاز قد ألغاه في هذا الدين عدم الحاجة إليه .
ثانياً : إن مشيئة اللّه قد قدرت أن يأتي عيسى رسولاً من بعد موسى ، و اتي الدين الجديد لينسخ الدين السابق ، فينسخ طبعاً جانب الإعجاز فيه حيث تزول الحجة بزوال ضرورتها التاريخية .
ثم أتى عيسى بالدين الجديد و بما يتطلب هذا الدين من وسائل لتبليغه ، أي بما يتطلب من حجة فأتى بإعجازه الخاص بالمعنى المحدد لغة و اصطلاحاً كما سبق ، فكان لعيسى إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى بإذن اللّه .
و لسنا بحاجة أن نكرر بالنسبة إلى الدين الجديد ما قدمنا من اعتبارات عامة بالنسبة إلى خصائص الإعجاز في الدين السابق حيث ان القضية تتعلق هنا و هناك بالتركيب النفسي الذي عليه الإنسان من حيث هو إنسان يدرك الأشياء بعقله مع ما في عقله من عجز عن إدراك حقيقة الدين مباشرة إن لم يكن هناك حجة خاصة تسند تلك الحقيقة لدى عقله في صورة إعجاز .
فالأسباب تتكرر و انما يتغير شكلها نظراً لما حدث من تطور في الظروف النفسية و الاجتماعية حول الدين الجديد في البيئة التي ينشر فيها عيسى دعوته ، تلك البيئة التي تشع عليها الثقافة اليونانية و الرومانية .
و لكن دلالة ما أوتي عيسى من إعجاز ستزول أيضاً مع زوال موضوعها و لنفس الأسباب التي ألغت جانب الإعجاز في دين موسى حيث يأتي بعد عيسى رسول جديد و دين جديد يلغيان الدين السابق دين عيسى ( عليه السلام ) فيلغي ضرورة التدليل على صحة الإنجيل .
و هكذا تأتي رسالة الرسول الأمين ، و لكنها تتسم بصفة خاصة عما سبقها من الرسالات إذ أنها الحلقة الأخيرة في سلسلة البعث .
و يأتي محمد ( خاتم الأنبياء ) كما ينوه بذلك القرآن ، و يشهد به مرور الزمن منذ أربعة عشر قرناً .
و ما كانت هذه الميزة التاريخية في الدين الجديد ، دون أن يكون أثرها في كل خصائصه و في نوع إعجازه على وجه الخصوص حيث إن حاجة التبليغ ستبقى مستمرة فيه ، سواء من الناحية النفسية لأن كل مسلم ـ بعكس اليهودي ـ يحمل في نفسه ( مركب التبليغ ) ، أم من الناحية التاريخية ، لأن الدين الجديد ـ الاسلام ـ سيكون دين آخر الزمن ، أي الدين الذي لا يعقبه دين سماوي آخر ، بل ولا يأتي دين بعده بصور مطلقة ، كما تشهد بذلك القرون ، حتى ان حاجة الإسلام إلى وسائل تبليغه ستبقى ملازمة له من جيل إلى جيل ، ومن جنس إلى جنس ، لا يلغيها شيء في التاريخ ، وهذا يعني ان هذه الوسائل يجب ألا تكون مثل الأديان الأخرى ، مجرد توابع يتركها الدين في الطريق عبر التاريخ بعد مرحلة التبليغ مثل اليد عند موسى او عصاه التي لم يبق لها أثر حتى في متاحف العالم ، كما بقيت عصا ( توت عنخ آمنون ) الذهبية .
و عليه يجب أن يكون إعجاز القرآن صفة ملازمة له عبر العصور و الأجيال ، و هي صفة يدركها العربي في الجاهلية بذوقه الفطري كعمر ( رض ) أو الوليد بن المغيرة ، أو يدركها بالتذوق العلمي كما فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده .
و لكن المسلم اليوم قد فقد فطرة العربي الجاهلي و امكانيات عالم اللغة في العصر العباسي .
و برغم هذا فان القرآن لم يفقد بذلك جانب الإعجاز لأنه ليس من توابعه ، بل هو من جوهره .
و إنما أصبح المسلم مضطراً إلى أن يتناوله في صورة اخرى بوسائل اخرى ، فهو يتناول الآية من حيث تركيبها النفسي الموضوعي أكثر مما يتناولها من ناحية العبارة ، فيطبق في دراسة مضمونها طرق التحليل الباطن .
و إذا كانت هذه الضرورة ملحة بالنسبة للمسلم الذي حاول تعقيد عقيدته على أساس إدراك شخصي لقيمة القرآن ككتاب منزل فانها أكثر إلحاحاً بالنسبة لغير المسلم الذي يتناول القرآن كموضوع دراسة أو مطالعة .
فهذه في مجملها الأسباب التي دعتنا إلى تطبيق التحليل النفسي بخاصة لدراسة القرآن كظاهرة » 21 .
و لكن الشيخ محمود شاكر يذهب إلى ان الإعجاز القرآني لا يزال كما كان مرتبطاً بالاسلوب البياني و النظم البلاغي ، و سيبقى هكذا ، لأن المقارنة بين الاسلوب القرآني و اساليب العرب في انتاجهم الأدبي ممكنة و جارية حتى الآن ، و ذلك لبقاء الشعر الجاهلي الذي يمثل قمة النضج للاسلوب الأدبي العربي قائماً عندنا و مدوناً و في متناول المراجعة .
قال : « فإذا صح أن الإعجاز كائن في رصف القرآن و نظمه و بيانه بلسان عربي مبين و أن خصائصه مباينة للمعهود من خصائص كل نظم و بيان تطيقه قوى البشر في بيانهم ،لم يكن لتحديهم به معنى الا أن تجتمع لهم و للغتهم صفات بعينها :
أولها : ان اللغة التي نزل بها القرآن معجزاً ، قادرة بطبيعتها هي ، أن تحتمل هذا القدر الهائل من المفارقة بين كلامين :
كلام هو الغاية في البيان فيما تطيقه القوى .
و كلام يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كل الوجوه .
ثانيها : أن أهلها قادرون على ادراك هذا الحجاز الفاصل بين الكلامين .
و هذا ادراك دال على أنهم قد أوتوا من لطف تذوق البيان ، و من العلم باسراره و وجوهه قدراً وافراً يصح معه أن يتحداهم بهذا القرآن ، و أن يطالبهم بالشهادة عند سماعه أن تاليه عليهم نبي من عند اللّه مرسل .
ثالثها : ان البيان كان في أنفسهم أجلّ من أن يخونوا الأمانة فيه ، أو يجوزوا عن الانصاف في الحكم عليه .
فقد قرّعهم وعيّرهم و سفّه احلامهم و أديانهم ، حتى استخرج أقصى الضراوة في عداوتهم له .
و ظل مع ذلك يتحداهم ، فنهتهم أمانتهم على البيان عن معارضته و مناقضته .
و كان أبلغ ما قالوه : ﴿ ... لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ... ﴾ 22 . . و لكنهم كفوا ألسنتهم فلم يقولوا شيئاً .
هذه واحدة .
و اخرى : انه لم ينصب لهم حكماً ، بل خلّى بينهم وبين الحكم على ما يأتون به معارضين له ثقة بانصافهم في الحكم على البيان ، فهذه التخلية مرتبة من الانصاف لا تدانيها مرتبة .
رابعها : ان الذين اقتدروا على مثل هذه اللغة ، و أتوا هذا القدر من تذوق البيان ، و من العلم باسراره ، و من الامانة عليه ، و من ترك الجور في الحكم عليه ، يوجب العقل أن يكونوا كانوا قد بلغوا في الاعراب عن انفسهم بألسنتهم المبينة عنهم مبلغاً لا يدانى .
و هذه الصفات تفضي بنا إلى التماس ما ينبغي أن تكون عليه صفة كلامهم ، إن كان بقي من كلامهم شيء ، فالنظر المجرد أيضاً يوجب أمرين في نعت ما خلفوه :
الاول : أن يكون ما بقي من كلامهم شاهداً على بلوغ لغتهم غاية من التمام و الكمال و الاستواء حتى لا تعجزها الابانة عن شيء مما يعتلج في صدر كل مبين منهم .
الثاني : أن تجتمع فيه ضروب مختلفة من البيان ، لا يجزئ أن تكون دالة على سعة لغتهم وتمامها ، بل على سجاحتها أيضاً ، حتى تلين لكل بيان تطيقه ألسنة البشر على اختلاف ألسنتهم .
فهل بقي من كلامهم شيء يستحق أن يكون شاهداً على هذا ، و دليلاً .
نعم ، بقي ( الشعر الجاهلي ) .
و اذن ! اذن ينبغي أن نعيد تصور المشكلة و تصور المشكلة و تصويرها ، فان النظر المجرد و المنطق المتساوق و التمحيص المتتابع ، كل ذلك قد أفضى بنا إلى تجريد معنى ( إعجاز القرآن ) مما شابه و علق به ، حتى خلص لنا أنه من قبل النظم و البيان .
ثم ساقنا الاستدلال إلى تحديد صفة القوم الذين تحداهم ، و صفة لغتهم ، ثم خرج بنا إلى طلب نعت كلامهم ، ثم التمسنا الشاهد و الدليل على الذي أدانا إليه النظر ، فإذا هو ( الشعر الجاهلي ) .
و اذن ، فالشعر الجاهلي هو أساس مشكلة ( إعجاز القرآن ) كما ينبغي أن يواجهها العقل الحديث .
و ليس أساس هذه المشكلة هو تفسير القرآن على المنهج القديم ، كما ظن أخي مالك ، و كما يذهب إليه أكثر من بحث أمر إعجاز القرآن على وجه من الوجوه .
و لكن الشعر الجاهلي قد صب عليه بلاء كثير ، آخرها وأبلغها فساداً و إفساداً ذلك المنهج الذي ابتدعه ( مركَليوث ) لينسف الثقة به ، فيزعم أنه شعر مشكوك في روايته و انه موضوع بعد الاسلام .
و هذا المكر الخفي الذي مكره مركليوث و شيعته و كهنته ، و الذي ارتكبوا له من السفسطة و الغش و الكذب ما ارتكبوا كما شهد بذلك رجل من جنسه هو ( آربري ) ، كان يطوي تحت ادلته و مناهجه و حججه إدراكاً لمنزلة الشعر الجاهلي في شأن إعجاز القرآن لا إدراكاً صحيحاً مستبيناً ، بل إدراكاً خفياً مبهماً ، تخالطه ضغينة مستكينة للعرب و الاسلام .
و هذا المستشرق و شيعته و كهنته كانوا أهون شأناً من أن يحوزوا كبيراً بمنهجهم الذي سلكوه ، و ادلتهم التي احتطبوها لما في تشكيكهم من الزيف و الخداع ، و لكنهم بلغوا ما بلغوا من استفاضة مكرهم و تغلغله في جامعاتنا ، و في العقل الحديث في العالم الإسلامي ، بوسائل أعانت على نفاذهم ، ليست من العلم و لا من النظر الصحيح في شيء .
و قد استطاع رجاله من أهل العلم أن يسلكوا إلى إثبات صحة الشعر الجاهلي مناهج لا شك في صدقها و سلامتها بلا غش في الاستدلال و بلا خداع في التطبيق و بلا مراء في الذي يسلم به صريح العقل و صريح النقل ، الا انهم لم يملكوا بعدُ من الوسائل ما يتيح لهم أن يبلغوا بحقهم ما بلغ اولئك بباطلهم .
و قد ابتليت أنا بمحنة الشعر الجاهلي عندما ذر قرن الفتنة أيام كنت طالباً في الجامعة ، و دارت بي الأيام حتى انتهيت إلى ضرب آخر من الاستدلال على صحة الشعر الجاهلي لا عن طريق روايته و حسب ، بل من طريق أخرى هي ألصق بامر إعجاز القرآن .
فاني محصت ما محصت من الشعر الجاهلي حتى وجدته يحمل هو نفسه في نفسه أدلة صحته و ثبوته ، إذ تبينت فيه قدرة خارقة على البيان .
و تكشف لي عن روائع كثيرة لا تحد ، و إذا هو عَلَم فريد منصوب لا في آداب العربية وحدها ، بل في آداب الأمم قبل الإسلام و بعد الإسلام .
و هذا الانفراد المطلق ، و لا سيما انفراده بخصائصه عن كل شعر بعده من شعر العرب أنفسهم ، هو وحده دليل كاف على صحته و ثبوته .
و لقد شغلني اعجاز القرآن كما شغل العقل الحديث ، و لكن شغلني أيضاً هذا الشعر الجاهلي و شغلني أصحابه فأديّ بي طول الاختبار و الامتحان و الدراسة إلى هذا المذهب الذي ذهبت اليه ، حتى صار عندي دليلاً كافياً على صحته و ثبوته .
فأصحابه الذين ذهبوا و درجوا و تبددت في الثرى أعيانهم رأيتهم في هذا الشعر أحياء يغدون و يروحون ، رأيت شابهم ينزو به جهله و شيخهم تدلف به حكمته ، و رأيت راضيهم يستنير وجهه حتى يشرق ، و غاضبهم تربد سحنته حتى تظلم ، و رأيت الرجل وصديقه ، و الرجل وصاحبته ، و الرجل الطريد ليس معه أحد ، و رأيت الفارس على جواده ، و العادي على رجليه ، و رأيت الجماعات في مبداهم و محضرهم ، فسمعت غزل عشاقهم ، و دلال فتياتهم ، و لاحت لي نيرانهم و هم يصطلون ، و سمعت أنين باكيهم و هم للفراق مزمعون .
كل ذلك رأيته و سمعته من خلال ألفاظ هذا الشعر ، حتى سمعت في لفظ الشعر همس الهامس و بحة المستكين و زفرة الواجد و صرخة الفزع ، و حتى مثلوا بشعرهم نصب عيني كأني لم أفقدهم طرفة عين ولم أفقد منازلهم و معاهدهم ولم تغب عني مذاهبهم في الأرض و لا مما أحسوا و وجدوا ، و لا مما سمعوا و أدركوا و لا مما قاسوا و عانوا ، و لا خفي عني شيء مما يكون به الحي حياً في هذه الأرض التي بقيت في التاريخ معروفة باسم ( جزيرة العرب ) .
و هذا الذي أفضيت اليه من صفة الشعر الجاهلي ـ كما عرفته ـ أمر ممكن لمن اتخذ لهذه المعرفة أسبابها بلا خلط و لا لبس و لا تهاو و لا ملل .
و هذه المعرفة هي أول الطريق إلى دراسة شعر أهل الجاهلية من الوجه الذي يتيح لنا أن نستخلص منه دلالته على أنه شعر قد انفرد بخصائصه عن كل شعر جاء بعده من شعر أهل الاسلام .
فاذا صح ذلك ـ و هو عندي صحيح لا أشك فيه ـ وجب أن ندرس هذا الشعر دراسة متعمقة ملتمسين فيه هذه القدرة البيانة التي يمتاز بها أهل الجاهلية عمن جاء بعدهم ، و مستنبطين من ضروب البيان المختلفة التي أطاقتها قوى لغتهم و ألسنتهم .
فاذا تم لنا ذلك فمن الممكن القريب يومئذ أن نتلمس في القرآن الذي أعجزهم بيانه خصائص هذا البيان المفارق لبيان البشر » 23 .
و ذهب السيد الطباطبائي إلى أن القرآن الكريم بصفته معجزة خالدة هو معجز في المعنى كما هو معجز في المبنى ، قال في تفسير الآية : ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ 15 :
و في الآية تحد ظاهر ، و هي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة إلى لفظه و معناه لا بفصاحته و بلاغته وحدها ، فان انضمام غير أهل اللسان اليهم لا ينفع في معارضة البلاغة شيئاً ، و قد اعتنت الآية باجتماع الثقلين و اعانة بعضهم لبعض .
على أن الآية ظاهرة في دوام التحدي ، و قد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة و البلاغة اليوم فلا أثر منهم ، و القرآن باق على اعجازه متحدٍّ بنفسه كما كان » 24 .
و خلاصة ما انتهى اليه مالك بن نبي في دراسته هي :
1 ـ ان النبوة ظاهرة دينية مستمرة تتكرر بانتظام منذ أول نبي بعث إلى البشر حتى خاتمهم نبينا محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) .
و استمرار ظاهرة تتكرر بنفس الكيفية يعتبر شاهداً علمياً يمكن استخدامه لتقرير مبدأ وجودها بشرط التثبت من صحة هذا الوجود بالوقائع المتفقة مع العقل و مع طبيعة المبدأ .
2 ـ و كما أن النبوة ظاهرة دينية إلهية تميزت بخصائصها التي بها تعرف و تنازعها سواها من النبوات عير الالهية .
كذلك الوحي الإلهي المدون في الصحف و الكتب ـ هو الآخر ـ يشكل ظاهرة دينية إلهية اخرى منذ صحف ابراهيم ( عليه السلام ) حتى قرآن محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، و قد عبّر عنها بـ ( الظاهرة القرآنية ) .
فالصحف و الكتب المنزلة من اللّه تعالى على انبيائه و رسله لانها ظاهرة ، لها خصائصها الخاصة بها ، و معالمها التي تعرف بها و تمتاز بها عما سواها من الكتب غير الالهية و الأخرى المحرّفة .
3 ـ ان المقارنة بين القرآن بغية معرفة أنه حلقة خاتمة في سلسلة ظاهرة الوحي الإلهي المدوّن ( الظاهرة القرآنية ) أو ( ظاهرة الكتاب السماوي ) ، ينبغي أن تعتمد دراسة كتاب النبي الاسرائيلي ( أرمياء ) ، و ذلك لأن البروفسور مونتيه montet قد توصل في دراسته للوثائق الدينية في كتابه الموسوم بـ ( تاريخ الكتاب المقدس ) إلى تجريد الكتاب المقدس من كل صفات الصحة التاريخية فيما عدا كتاب ( ارمياء ) .
كما أن مجمع أساقفة نيقية قد ألغى كثيراً من أخبار الإنجيل مما زرع الشك حول ما تبقى منه .
أما القرآن الكريم فقد امتاز بميزة فريدة هي أنه تنقل منذ نزوله حتى الآن دون أن يتعرض لأدنى تحريف أو ريب .
و هذا ما يعطيه الصلاحية لئن يعتمد عليه في المقارنة كوثيقة تاريخية مطلقة الصحة .
و قد انهت المقارنة مالك بن نبي إلى النتيجة التي هدف اليها من أن القرآن الكريم استمرار لظاهرة الوحي الالهي المدون ، كما أن نبوة نبينا محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) استمرار لظاهرة النبوة و البعث الإلهي للأنبياء و الرسل 25 26 .

  • 1. النافع يوم الحشر : 58 .
  • 2. كشف المراد : 254 .
  • 3. م . ن : 273 .
  • 4. التربية الدينية : 31 طبعة 5 .
  • 5. قواعد العقائد للطوسي : 455 .
  • 6. الفرق بين الفرق : 343 .
  • 7. الباب الحادي عشر : 63 .
  • 8. النكت الاعتقادية : 407 ـ 408 .
  • 9. تلخيص المحصل ، رسالة العصمة : 525 .
  • 10. المواقف : 366 .
  • 11. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 124 ، الصفحة : 19 .
  • 12. النافع يوم الحشر : 63 .
  • 13. عقائد الامامية : 81 .
  • 14. النافع يوم الحشر : 63 ـ 64 .
  • 15. a. b. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 88 ، الصفحة : 291 .
  • 16. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 13 و 14 ، الصفحة : 223 .
  • 17. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 23 و 24 ، الصفحة : 4 .
  • 18. الظاهرة القرآنية : المقدمة للشيخ شاكر : 24 ـ 25 .
  • 19. الظاهرة القرآنية : 62 ـ 64 .
  • 20. القران الكريم : سورة الاحقاف ( 46 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 503 .
  • 21. الظاهرة القرآنية : 66 ـ 71 .
  • 22. القران الكريم : سورة الأنفال ( 8 ) ، الآية : 31 ، الصفحة : 180 .
  • 23. الظاهرة القرآنية / المقدمة : 26 ـ 32 .
  • 24. الميزان في تفسير القرآن : 13 / 201 .
  • 25. يقرأ : كتاب الظاهرة القرآنية .
  • 26. كتاب خلاصة علم الكلام للدكتور عبدالهادي الفضلي فصل " النبوة " .