حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
حكم الغش في الامتحانات وأمثالها
من الواضحات في الفقه الإسلامي حرمة الغش في المعاملات التجاريّة، وقد تحدّث الفقهاء عن ذلك بإسهاب، غير أنّ هناك أشكالاً من التصرّفات والأفعال يطلق عليها اليوم عنوان الغشّ، ولو بلحاظ من اللحاظات، مثل الغش في الامتحانات في المدارس أو الجامعات أو المعاهد أو غير ذلك، وقد ذكر جمهور فقهاء أهل السنّة والشيعة المعاصرين أنّ الغش الذي من هذا النوع محرّم.
وقد انطلق بعضُ الفقهاء من عنوان الغش نفسه باعتبار تعميمه ورفع خصوصيّته في البيع والتجارات ليشمل ما نحن فيه، وهذا ما نلمسه من بعض فقهاء أهل السنّة المعاصرين، فيما انطلق فريقٌ ثانٍ من مبدأ مخالفة العقد والتوافق والقانون، فحيث يجب الالتزام بهذه الأمور فإنّ الغش أو المساعدة عليه يعتبر نقضاً لقوانين المدرسة أو الجامعة أو البلد، وحيث إنّ الانتماء طالباً أو مدرّساً أو غيرهما متضمّنٌ للموافقة على هذه البنود ـ ومنها عدم الغش ـ حرُم الغش. وانطلق فريقٌ ثالث من أنّ حرمة الغش قائمة على تضمّنه إضاعة حقّ الآخرين في الوظائف وغيرها وسحب الفرصة ممن يستحقّها نحو من لا يستحقّها، وهذا محرّمٌ؛ إذ فيه نوعٌ من الإضرار بالآخرين.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّه حيث يكون هذا النوع من الغش مخالفاً للقوانين والاتفاقات الواقعة مع الطرف الذي يغش في الامتحانات أو الذي يعين على الغشّ، فإنّه يُحكم بحُرمته، وتشتدّ الحرمة فيما لو كان الغشّ موجباً نوعاً لإلحاق الضرر بالمجتمع.
وهذا الحكم لا فرق فيه بين المدارس والجامعات والمعاهد الأهليّة والحكوميّة، ولا بين المدارس التي في بلاد المسلمين أو غيرهم. ولا يبرّر الغش شرعاً بعدم التزام الناس بالقانون المتوافق عليه، ولا بحجّة أنّني إذا لم أغش فسوف يتقدّم من يغش عليّ، وهذا ضررٌ يلحقني، فهذه ليست مبرّرات بالعنوان الأوّلي.
بل لو حصل شخصٌ على شهادة جامعيّة بالغش لا بالدراسة الحقيقيّة، أشكل الأمر في حصوله على الوظيفة وأخذ مالها إذا كانت الشهادة ـ بما هي معبّرة حقيقةً عن واقع ذلك الشخص التعليمي ـ قيداً مقوّماً في المعاملة والاتفاق الوظيفي، ولم يكن الشخص في واقعه حائزاً على هذه الدرجة العلميّة التي بُنيت الوظيفة عليها.
والمشكلة الكبيرة التي نواجهها في الكثير من مجتمعاتنا هي ظاهرة الغش الذي من هذا النوع، بل الغريب أنّ بعض المعلّمين والمعلّمات، بل بعض العاملين في القسم التعليمي عموماً، يساعدون الطلاب في المدارس والجامعات على الغشّ! بل ثمّة من يعتاش مادّياً على ذلك! ومن هذا النوع تسريب أسئلة الامتحانات وأمثال ذلك، بل التساهل المبالغ به في منح الطلاب درجةً لا يستحقّونها، بحيث يكون ذلك على خلاف المقرّرات في الدولة أو في المدرسة أو الجامعة.
المؤسف بحقّ أنّ هذه الظاهرة موجودة على نطاق واسع في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، كما قرأنا وسمعنا في أكثر من موقع، ويتمّ التعامل معها باستخفاف عالٍ من قبل بعض الناس، ولا أدري كيف يمكننا بناء الأوطان أو الأجيال التي نُعتبر نحن مؤتمين عليها بوصفنا معلّمين أو مسؤولين في المجال التعليمي والمهني.. كيف يمكننا بناء هذه الأوطان والأجيال مع هذا النوع من الغش أو المساعدة عليه أو تسهيل أمره، وبخاصّة في حال انتشاره، كما هي الحال اليوم وفق ما يُنقل؟! أليس من أكبر الواجبات الدينيّة والأخلاقيّة والوطنيّة اليوم أن نساعد على بناء أجيال أفضل؟! فكيف بدل أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر نساعد في المنكر ونعتزل المعروف؟! أليس الغش في المعاملة هو بإخفاء الأدنى في الأعلى، ومن ثمّ ألا يقوم الذي يغش في الامتحان على مبدأ أنّه يوهم المجتمع بعلمه وكفاءته؟ إذا أردنا بحقّ أن نبني أوطاناً ـ وبخاصّة في ظروفنا العصيبة هذه ـ فلا مجال لنا إلا احترام العلم، فباحترامه تنهض الأمم والشعوب. والغش في الامتحانات من جميع الأطراف نوعٌ من هدر قيمة العلم في بلادنا، وتسهيلٌ لأمر الفساد والتفكّك، في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه للملمة الجراح والشروع في النهوض الحضاري، فحريٌّ بمن يغشّ أو يبني حياته على الغشّ أو يساعد على تخريج أجيال بَنَت شهاداتها على الغشّ.. حريّ به أن يجلس جلسة مصارحة مع نفسه وأن لا يتكلّم عن بناء الأوطان أو عن الصدق أو عن مقارنة بلاد المسلمين ببلاد الغرب؛ لأنّه بنفسه يساهم في عمليّة المقارنة السلبيّة هذه.
ولا بأس أن أختم بنقل شطر من تجربتي الشخصيّة المتواضعة لها صلة بالموضوع، فقد ساهمتُ لسنوات في الإشراف أو في مناقشة بحوث تخرّج (بكالوريوس)، ورسائل ماجستير وأطروحات دكتوراه، في مؤسّساتٍ وجهات علميّة، غير أنّني وجدت في بعضها أنّنا عندما ننتهي من مناقشة ما قدّمه الطالب وتصبح الهيئة المشرفة والمناقِشة لوحدها، تدخل في تحديد درجات الطلاب اعتباراتٌ ومعايير خارجة عن محتوى ونمط ما تمّ إنجازه في الرسالة نفسها، ويبدأ الحديث عن ضرورة رفع الدرجة لاعتبارات معيّنة، لا أريد الحديث عنها هنا، وعلى الجميع أن يساهم في رفع الدرجة وإلا بدا شاذاً غير متعاون! لهذا قرّرتُ ـ ومنذ سنوات ـ أن أتجنّب الإشراف أو مناقشة رسالة جامعيّة أو حوزويّة، فراراً من هذه الإشكاليّة الأخلاقيّة، إذ يشعر الإنسان معها أنّ العلم لم يعد المعيار في تقويم الأشخاص علميّاً، بل تدخل في الحساب قضايا أخرى واعتبارات مختلفة، أحدها على سبيل المثال أنّ الأستاذ المشرف مثلاً يشعر بالعيب والعار على الصعيد الشخصي لو مُنح الطالب درجة غير عالية، مع أنّه لا يستحقّ في الحقيقة الدرجة العالية! والله سبحانه وتعالى نسأل أن يصلح سوء حالنا بحسن حاله، إنّه قريبٌ مجيب 1.
- 1. المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ حيدر حب الله حفظه الله.