مجموع الأصوات: 30
نشر قبل سنة واحدة
القراءات: 1357

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

سنّة الاستدراج‌ من سنن التطور الإجتماعي في القرآن الكريم

تعني سنّة الاستدراج أنّ الأمّة الناكثة لعهدها مع الله ورسوله، حين يُملى لها- وقبل الأخذ- تُستدرج في مراحل الغواية والسقوط، فتنحطّ من مرحلة إلى مرحلة أسفل منها، ومنها إلى غيرها، ممّا هو أشدّ منها انحطاطاً وسقوطاً إلى أن تبلغ مرحلة الحضيض الّتي تبلغ فيها غاية الطغيان، فتتجاوز فيها كلّ الحدود، وتنتهك فيها كلّ حرمة، وتسحق فيها كلّ حقّ. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 1.

﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 2.

وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى- موضّحاً الطريقة الّتي يتمّ بها الاستدراج-:

﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ 3.

فالاستدراج يعني: أنّ الأمّة الّتي تعرض عن هداية الأنبياء، وتولّي ظهرها للقيادة الإلهيّة، تبدأ في انتكاستها باستباحة الظلم الصغير، وتعصي القيادة الإلهيّة في أوامرها الّتي قد لا يبدو في الوهلة الأولى أنّها ذات خطورة عالية، وقد لا يبدو أنّها تهدّد مصير الأمّة وحياتها، وإيمانها، وطاعتها للقيادة، تهديداً أساسيّاً، فإذا اعتادت الأمّة على معصية القيادة في مثل هذه الأمور، تجرّأت على أعظم منها، ثمّ بدأ حبّ الجاه وحبّ الدّنيا بالتغلغل في قلوبها تغلغلًا تدريجياً، وببدأ حبّ الله ورسوله بالذبول والذوبان في داخلها شيئاً فشيئاً، حتّى ينتهي الأمر- تدريجيّاً- بالأمّة الّتي كانت تحب الله ورسوله حباً أشدّ من حبّها لأيّ شي‌ء آخر ﴿ ... وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ... 4 أن يتضاءل في أنفسها حب الله وحبّ رسوله، حتّى يعود حبّ الدنيا والجاه يطغى في داخلها على حبّ الله ورسوله، ويستمرّ تضاؤل حبّ‌ الله ورسوله، واشتداد حبّ الدنيا والجاه في قلوب هذه الأمّة المنكوسة على رأسها، المغلوبة على أمرها، حتّى يبلغ بها الأمر إلى أن يزول حبّ الله ورسوله من قلبها نهائيّاً، ويهيمن حبّ الدنيا والهوى والجاه على قلوبها هيمنة تامّة، إلى أن تتمّ انتكاستها، فتنقلب على وجهها، وتعود مبغضة لله ورسوله، عدوّة لهما، محبّة لأعداء الله ورسوله، خاضعة لولايتهم، منعطفة إلى جانبهم، ضدّ جبهة المؤمنين من أولياء الله، وأحباء الرسول وأتباعه، وعلى رأسهم القادة الإلهيّين.

وهنا، تُصاب هذه الأمّة الخاسرة المرتدّة على أعقابها بالجرأة على الله، وعلى رسوله، وعلى القيم الإنسانيّة كلّها، فتكذّب بآيات الله كلّها، أو تحرّفها، أو تكتمها، وتقتل النبيّين وأولاد النبيّين، وتقتل الّذين يأمرون بالقسط من النّاس، وأضحت كل ما رأت سبيلًا للغيّ والطغيان اتّخذته سبيلًا، وكلّما رأت سبيلًا للهدى والعدل لم تتّخذه سبيلًا، بل أعرضت عنه، واتّخذت منه موقف العداء، وهذا بالضبط ما حلّ ببني إسرائيل قبل أن يحلّ بالمجموعة الأولى من أمّة محمّد (ص). قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى بشأن بني إسرائيل:

﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ 5.

﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ 6.

﴿ ... وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ 7.

وكم يؤلمنا حينما نجد أنّ الأمّة الإسلاميّة بعد رحيل قائدها الأعظم محمّد (ص)، وخروجها عن طاعته، وقعودها عن نصرة أهل بيته صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم، أُصيبت بنفس ما أصاب بني إسرائيل، من عصيان القيادة الإلهيّة، ثمّ سقوطها التدريجيّ إلى درجات سفلى من العصيان والطغيان، حتّى امتدّت يدها إلى قتل الطاهرين من أهل بيت رسول الله (ص)، والصفوة من أبناءه وأتباعه، حتّى احمرّت من دمائهم آفاق الأرض، واصطبغت بها سهول بلاد المسلمين وصقاعها، فلم تجد أرضاً منها إلّا وتحمل في ذاتها ذكريات أليمة من التنكيل بالصالحين، وإراقة دماء الطيّبين من آل رسول الله (ص) وأتباعهم، وطردهم‌ وسجنهم، والتشريد بهم، وظلّت كربلاء ورزيّة الحسين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وأهل بيته وأصحابه، النموذج الأفظع لانتهاك حرمة الله ورسوله، وارتداد الأمّة على أعقابها بعد رسول الله (ص).

ثمّ إنّ سنّة التداول ثمّ الاستدراج تستتبع سنّة اجتماعيّة أخرى هي «سنّة الإعزاز والإذال» 8.

 

للمزيد راجع كتاب سنن التطور الإجتماعي في القرآن الكريم