حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
صدام الحضارات من الدول إلى المجتمعات
افتتح المفكر الفرنسي غاي سورمان مقالته (ماهية الغرب)، بالإشارة إلى مفهوم صدام الحضارات، الذي لابد أن يكون كل إنسان في أي مكان قد سمع به حسب قول سورمان، وبات هذا المفهوم الذي ابتدعه هنتنغتون عالمياً، مشبهاً له بالمفهوم الذي ابتدعه الاقتصادي الفرنسي ألفريد سوفاي في خمسينات القرن العشرين ولاقى نجاحاً مماثلاً، وهو مفهوم العالم الثالث.
ويعتقد سورمان أن من بين الأسباب التي تيسر لمثل هذه العبارات، اكتساب القبول على نطاق واسع بين الناس، أنها تفتقر إلى تعريف واضح.
ولا ينفي سورمان الصدام بين الحضارات، أو شجبه والاعتراض عليه، لكنه يختلف مع هنتنغتون في تحديد صورة ومجال هذا الصدام، والمفترض عنده في تعبير صدام الحضارات أن المقصود به في الأساس الغرب في مواجهة بقية العالم، بينما هو يرى أن تعبير الغرب يتسم بالغموض، لكونه يشتمل على مجال واسع من المناطق دون وصف للخصائص التي توحد هذه المناطق، وبالتالي فإن المجتمعات اليوم في نظره باتت منقسمة بين متغربين وغير متغربين، وهذا في تقديره هو محل ومجال الصدام الحقيقي بين الحضارات.
وبتحديد أكثر يرى سورمان أن هذا النمط من الصدام في داخل الحضارات، إنما يتحدد حول معنى الحداثة، والذي يشكل في نظره أهمية أعظم من صدام الحضارات عند هنتنغتون المزعوم بين الكيانات الجغرافية.
ويستند سورمان في هذه الرؤية لصدام الحضارات، على خلفية أن التاريخ الإنساني لم يشهد حتى الآن أي شكل من أشكال الحداثة غير الغربية، والحديث حول القيم الآسيوية والذي بدأ أولاً في سنغافورة، ما هو إلا حديث سياسي ليس أكثر!
ولا شك في حساسية وخطورة هذا الرأي الذي أفصح عنه سورمان، وبناء عليه فإن صدام الحضارات لابد أن يتجلى في جميع المجتمعات الإنسانية على اختلاف وتنوع، دياناتها وثقافاتها، لغاتها وقومياتها، أماكنها وجغرافياتها، مادام هذا الصدام يستند على خلفية تقسيم الناس إلى متغربين وغير متغربين.
وقد أخذ هذا الصدام يمتد في نظر سورمان، إلى داخل المجتمعات الغربية نفسها، التي انتقل إليها الجدل الدائر حول المعنى الأساسي للحداثة، المتصل بأزمة الهوية، وذلك عن طريق مجموعات ضخمة ممن يعيشون في الغرب، من الأصوليين الغربيين وغير الغربيين، الذين يكافحون حسب قول سورمان، عملية التغريب المتواصلة باسم التقاليد، وكثيرون منهم يودون لو تمكنوا من إيقاف المحرك الذي يدفع هذه العملية، من خلال التنكر في هيئات متنوعة مثل حماية البيئة أو الهوية.
ويختم سورمان مقالته بالقول إن المجتمع الغربي الذي لا تستطيع فيه أن تبدأ يومك بالسؤال عما هو جديد، لا يجوز أن نعتبره في نظره غربياً بعد الآن.
وعند النظر في هاتين الرؤيتين لمفهوم صدام الحضارات، يمكن تحديد طبيعة المفارقة بينهما، في أن هنتنغتون نظر إلى الغرب من خلال مفهوم الدولة، وبوصفه يتمثل في دول لها حدودها ونطاقها السياسي والجغرافي. في حين أن سورمان نظر إلى الغرب من خلال مفهوم الثقافة، وبوصفه يتمثل في أسلوب فكري ليس له حدود ونطاق سياسي وجغرافي.
وعلى هذا الأساس، فإن صدام الحضارات حسب رؤية هنتنغتون يتحدد في نطاق الدول وبين الكيانات السياسية، وحسب رؤية سورمان فإنه يتحدد في نطاق المجتمعات وبين المنظومات الثقافية.
وفي الوقت الذي حاول فيه العالم التشكيك في مقولة صدام الحضارات ونفيها ورفضها، وتوجيه النقد القاسي لهنتنغتون، يأتي سورمان وكأنه يشرع من جديد، وبتبسيط شديد لهذه المقولة التي أصابت العالم بالفزع والهلع، وأخطر ما فيها حين يبشر بها في داخل كل المجتمعات، ولا شك أن هذا منزلق خطير وقع فيه سورمان وهو يبحث عن ماهية الغرب، ولابد من تخطئته في هذا الموقف الداعي إلى الصدام1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ، العدد 15349.