الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

غربيون يناقشون هل يضمحل الغرب ؟

منذ صدور كتاب (أفول الغرب)، أو (تدهور الغرب)، أو (انحطاط الغرب)، بحسب اختلاف الترجمات، للمفكر الألماني أزوالد اشبنغلر، في العقود الأولى من القرن العشرين، الجزء الأول اكتمل تأليفه عند نشبت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وصدرت طبعته الأولى بعد نهاية الحرب سنة 1918م، أما الجزء الثاني فقد صدر سنة 1922م. منذ صدور هذا الكتاب الذي أثار جدلاً واسعاً في وقته و لزمن طويل داخل الفكر الغربي، و المؤلفات و الدراسات التي تبشر بنهاية الغرب أو بسقوطه واضمحلاله و تراجعه، أو بهذه النزعة التشاؤمية بأقسامها الثقافية والتاريخية كما وصفت في الكتابات الغربية، لم تتوقف أو تنحسر، بل ظلت في حالة من الاستمرارية و التراكم والتعدد، في الحقب و الأزمنة المتلاحقة، ومن مختلف المصادر و المنابع الفكرية، و ليس فقط من النخب اليسارية المعارضة للنزعة الرأسمالية و الليبرالية، أو من الملونين أو من الأقليات العرقية و اللغوية الناقمين بشدة لأنماط التمييز العنصري و الطبقي الممارس عليهم، أو من بعض الجماعات الدينية التي تبشر بنهاية العالم، أو تلك التي تعارض طغيان الإفراط المادي و الانحلال الأخلاقي و الاجتماعي، كما أنه ليس من بعض المنشقين على النظام الفكري هناك كالذين اعتنقوا الإسلام مثلاً، و إنما تشمل حتى الذين ينتمون إلى تيارات فكرية شديدة التوافق والاندماج مع الاتجاه العام هناك.
و لعل أوسع كتاب تحدث عن هذه الاتجاهات و الجماعات و المنابع الفكرية في الغرب، هو كتاب (فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي) الصادر سنة 1997م، لمؤلفه آرثر هيرمان أستاذ التاريخ بجامعة جورج ماسون ومنسق برنامج الحضارة الغربية. ويحاول هذا الكتاب الثري في مصادره و مراجعه، وفي كثافة أفكاره و أطروحاته، أن يطرح أسئلة المصير التي ظلت وما زالت تواجه الغرب، وكيف تطورت النقاشات الفكرية و النقدية وتلاحقت حولها، من خلال تتبع فكرة الاضمحلال، و حسب رأي المؤلف إن هذا الكتاب يتحدث عن أصول انتشار فكرة ثقافية قديمة هي فكرة اضمحلال الغرب، وسوف نرى كما يضيف كيف شكلت هذه الفكرة الأساس المظلم للفكر الأوروبي الحديث في القرن التاسع عشر، وكيف أصبحت تقريباً الموضوع الأكثر سيادة و تأثيراً في الثقافة و السياسة في القرن العشرين. و في مقابل كل مثقف غربي يخش اضمحلال مجتمعه هناك مثقف آخر يتطلع إلى ذلك بلهفة وفرح. ويعتبر هيرمان أن السؤال الرئيسي الذي يطرح أمام الغرب اليوم ليس هو هل بالامكان إنقاذ الحضارة الغربية؟ و إنما السؤال هو هل تستحق الإنقاذ أم لا؟ و هذه النظرة القاتمة و الأكثر راديكالية كما يقول عنها هيرمان ويصفها بالتشاؤمية الثقافية و التي تجسد رؤية خاصة للتاريخ الحديث متمثلة في عنوان كتاب أزوالد اشبنغلر أفول الغرب. وتدعي هذه التشاؤمية الثقافية بأن العالم الحديث و الإنسان الحديث مأسوران في فخ عملية اضمحلال وتدهور وسقوط حتمي. لذلك فان قضية المستقبل الملحة حسب هذه الرؤية ليست هي بقاء أو زوال الحضارة الغربية، و إنما هي ماذا سيحل محلها؟. ويختتم هيرمان مقدمته في اعتبار أن بذرة اليأس و الشك الذاتي قد أصبح عاماً ومتغلغلاً في حياتنا، لدرجة أننا أصبحنا نقبله كموقف ثقافي عادي، حتى عندما يكون واقعنا متناقضاً معه على نحو مباشر. وفي خاتمة الكتاب وفي الأسطر الأخيرة منه اعتبر أن مستقبل المجتمع لن يكون من صنع قانون حتمي للتقدم أو الضعف، و إنما المستقبل هو ما يقرره أعضاؤه، وبضربة واحدة تنكسر الثورة و تتبدد دورة الوهم و اليأس لا في العالم أو في الخارج و إنما حيث هي موجودة بالفعل في عقول البشر. و إذا كانت هذه هي النتيجة أو المحصلة النهائية التي توصل إليها هيرمان فلا شك أنها سهلة و بسيطة و لا تحتاج إلى عناء في توثيقها و الاستدلال عليها. و أما أحدث كتاب في هذا النطاق و الأكثر إثارة في هذا الظرف فهو كتاب (موت الغرب) لمؤلفه باترك جيه بوكنان الذي كان مستشاراً كبيراً لثلاثة من الرؤساء الأمريكيين، والمرشح الرئاسي لحزب الإصلاح عام 2000م، وصاحب كتاب (جمهورية لا إمبراطورية)، وصدر الكتاب بعد أحداث 11 أيلول ـ سبتمبر و أثار جدلاً واسعاً وانقسمت حوله اتجاهات الرأي. وقد أعاد هذا الكتاب طرح تساؤلات المصير وفتح الحديث مجدداً حول نهاية الغرب أو موته كما يصفه المؤلف، وطرح تساؤلات حساسة وحرجة، من هذه التساؤلات هل نحن في وقت شفق الغروب في الغرب؟ وهل موت الغرب لا رجعة عنه؟ أو أن هذا القول مثله، مثل كل التنبؤات السابقة عن انحطاط الغرب وموته لن يقع، وهذا الكأس أيضاً سوف يبتعد و يمر و يكشف أن جميع الذين قالوا لابد لنا أن نشرب هذا الكأس كانوا حمقى؟ فلماذا لا تنتمي التنبؤات بموت الغرب إلى الرف الخلفي نفسه مثل التنبؤات عن الشتاء النووي و الإحترار الكوني؟. و حسب رأي بوكنان أن موت الغرب ليس تنبؤاً بما سيحدث، إنه تصوير ما يحدث الآن. ويضيف بوكنان إن أمم العالم الأول تموت، وهي تواجه أزمة مميتة ليس بسبب ما يحدث في العالم الثالث و لكن بسبب ما يحدث في عالم الغرب.
لا شك أن هذه ظاهرة تلفت الانتباه بشدة خصوصاً بعد تعاقبها وعدم توقف الحديث عنها حتى أصبحت تمثل تياراً ثقافياً ممتداً في منظومة الفكر الغربي، وهي ظاهرة بحاجة إلى تحليل وتفسير. ابتداءً لابد من القول لست من الذين يبشرون بنهاية الغرب وسقوطه و أفوله، والترويج لمثل هذه الكتابات و الحماس لها، بقصد إرضاء الذات و الكشف عن عيوب الغرب وكيف أن مفكريه يعترفون بموته واضمحلاله كما جرت على ذلك بعض الكتابات التي طالما بشرت بسقوط الغرب لكنها لم تغير من واقعنا شيئاً و بقي الجهل و الاستبداد و التخلف على حاله بدون تغيير.
من جهة أخرى أن هذا النمط من الكتابات لا يثير الخوف أو الرعب داخل الفكر الغربي و المجتمع الغربي، كما لايجري التعامل معها بنوع من الإهمال أو عدم الاكتراث، و إنما ينظر لها بأنها كتابات منبهة و تلعب دور اليقظة من خلال فتح النقاش الواسع حولها، فقد تعودت المجتمعات الغربية وبرهنت على قدرتها في الاستجابة للتحدي الذي يعترضها، وتتعامل معه بطريقة استثارة العقول والطاقات، وتدفع بالعقلاء و الحكماء و أهل الخبرة و الاختصاص نحو تحمل المسؤوليات و النهوض بالواجبات، و التعاطي مع المشكلات ومواجهتها بالتفكير الجماعي و التخطيط المنهجي و الاستشراف المستقبلي، وبذل أقصى درجات الجهد و الطاقة و الفاعلية، و الرهان غالباً في التغلب على المشكلات و التحديات، وفي القدرة على التجاوز و التجدد الذاتي. و هذا ما ينبغي أن ندركه ونتعلمه نحن!1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الثلاثاء 17 يونيو 2003 م، العدد 13443.