الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

محاصرة و استشهاد مسلم بن عقيل

محاصرة مسلم بن عقيل 1

كان عبيد الله قد علم بتفرّق الناس عن مسلم ، فأمر عمرو بن نافع فنادى : ألا برئت الذمّة من رجل من الشرطة والعرفاء ، أو المناكب ، أو المقاتلة صلّى العتمة إلاّ في المسجد. فما كانت إلاّ ساعة وامتلأ المسجد بالناس ، ثمّ أمر عبيد الله الحرس أن يحرسونه من جانب ، فدخل المسجد وصعد المنبر ، وقال : «أمّا بعد ، فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره ، ومَنْ جاء به فله ديّته. اتقوا الله عباد الله ، وألزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً» 2

ثمّ نادى : يا حصين بن نمير ـ وكان صاحب شرطته ـ ثكلتك اُمّك! إن [ضاع] باب سكّة من سكك الكوفة ، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به. وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة ؛ فابعث مراصدة على أفواه السكك ، وأصبح غداً ، واستبر الدور ، وجس خلال الدور حتّى تأتيني بهذا الرجل. ولمّا كان الغداة علم بمكان مسلم ، فبعث إليه عبيد الله بسبعين فارس مع محمّد بن الأشعث ، فأحاطوا بمسلم من كلّ جانب. فقاتلهم مسلم وحده مقاتلة الشجعان ، وكافحهم مكافحة الأبطال حتّى أكثر فيهم القتل ، واستنجدوا بعبيد الله أن يبعث إليهم بالخيل والرجال فأنجدهم ، وأخذوا يرمونه بالنار والحجارة من فوق الدور وعمدوا إلى مكيدة ؛ فحفروا له حفيرة ووضعوا عليها الحطب والتراب ، وبينما هو يهجم عليهم وهم يفرون من بين يديه إذ سقط مسلم (عليه السّلام) في تلك الحفيرة ، فهجموا عليه وضربوه بالسيف على شفته العليا ، وأخذوا السيف منه وكتّفوه ، وأخذوه إلى عبيد الله بن زياد. فقال مسلم : إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ثمّ بكى ، فقيل له : إنّ مَنْ يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك. فقال مسلم : «إنّي والله ما لنفسي أبكي ، ولا لها من القتل أرثي وإن كنت لم أحبّ لها طرفة عين تلفاً ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ ؛ أبكي لحسين وآل حسين».

رسالة شفوية من مسلم إلى الحسين (عليه السّلام) 3

ثمّ إنّ مسلم أقبل على محمّد بن الأشعث وقال له : «هل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني يبلغ حسيناً ؛ فإنّي لا أراه إلاّ وقد خرج إليكم اليوم مقبلاً ، أو هو خارج غداً هو وأهل بيته ، وإنّ ما ترى من جزعي لذلك ، فيقول : إنّ ابن عقيل بعثني إليك ، وهو في أيدي القوم أسير ، لا يرى أن تمشي حتّى تُقتل ، وهو يقول : ارجع بأهل بيتك ، ولا يغرّك أهل الكوفة ؛ فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل. إنّ أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني ، وليس لمكذوب رأي 4

فقال الأشعث : لأفعلن ، ولأعلمن ابن زياد. ثمّ بعث الأشعث أياس بن العثل الطائي بهذه الرسالة الشفوية إلى الحسين في منطقة الزُّبالة.

محاورة بين مسلم وابن زياد 5

دخول مسلم على عبيد الله بن زياد.

ثمّ إنّ مسلم اُدخل على عبيد الله بن زياد فلم يسلّم عليه ، فقال الحرس : سلّم على الأمير. فقال مسلم : اسكت ويحك! والله ما هو لي بأمير. فقال عبيد الله : لا عليك ، سلّمت أم لم تسلّم فإنّك مقتول. فقال مسلم : إن قتلتني ، فلقد قتل مَنْ هو شر منك مَنْ هو خير منّي.

عبيد الله : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام.

مسلم : أمّا إنّك أحقّ مَنْ أحدث في الإسلام ما لم يكن ، وإنّك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك.

عبيد الله : يا عاق! يا شاق! خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة؟!

مسلم : كذبت ، إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ؛ وأمّا الفتنة فإنّما ألقحتها أنت وأبوك زياد بن عبيد ابن بني علاج من ثقيف ، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريته.

عبيد الله : منّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله.

مسلم : ومَنْ أهله يابن مرجانة إذا لم نكن نحن أهله؟

عبيد الله : أهلهُ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية.

مسلم : الحمد لله على كلّ حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.

عبيد الله : أتظنّ أنّ لك في الأمر شيئاً؟

مسلم : والله ما هو الظنّ ، ولكنّه اليقين.

عبيد الله : إيه ابن عقيل! أتيت الناس وهم جمع وأمرهم ملتئم فشتت أمرهم بينهم ، وفرّقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض.

مسلم : كلاّ لست لذلك أتيت ، ولكنّكم أظهرتم المنكر ، ودفعتم المعروف ، وتأمّرتم على الناس بغير رضاً منهم ، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف ، وننهى عن المنكر ، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة ، وكنّا أهلاً لذلك.

عبيد الله : وما أنت وذلك يا فاسق؟! لِم لم تعمل بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟!

مسلم : أنا أشرب الخمر! أما والله إنّ الله ليعلم أنّك تعلم غير صادق ، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي وأولى بها مَنْ يلغ في دماء المسلمين ولغاً ، فيقتل النفس التي حرّم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي حرّم الله على الغضب ، والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً 6.

عبيد الله : فأخذ يشتمه ويشتم علياً ، والحسن والحسين ، وعقيلاً.

مسلم : أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة ، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله.

عبيد الله : أين بكر بن حمران فليصعد به إلى أعلى القصر ويضرب عنقه ، ويرمي بجثمانه من أعلى القصر 7.

مسلم : يُصعد به إلى أعلى القصر وهو يكبّر ويستغفر الله ويسبّحه ، ويصلّي على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ويقول : اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا. ثم صلّى ركعتين وضُرب عنقه ، ورمي بجسده من أعلى القصر.

وكان خروج مسلم بن عقيل يوم الإثنين ، وقُتل (عليه السّلام) يوم الثلاثاء لثماني ليال مضين من ذي الحجّة من يوم عرفة سنة ٦٠ هجرية ، وهو اليوم الذي خرج فيه الحسين من مكّة قاصداً العراق.

ثمّ أخرج هاني إلى سوق الجزارين وهو يقول : «وا مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم ، إلى الله المعاد. اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك». ثمّ ضرب عنقه تركي مولى لعبيد الله بن زياد. وربط رجليهما بحبل ، وسحبوهما في السوق. فرثاهما الشاعر بقوله :

إذا كنتِ لا تدرين ما الموتُ فانظري       إلى هانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ

كتاب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية 8 9

ولمّا قتل هاني بن عروة ومسلم بن عقيل ، حزّ رأسيهما وبعثهما إلى يزيد بن معاوية مع هاني بن أبي حيّة الوداعي ، والزبير بن الأروح التميمي ، وزوّدهما بكتاب ، وهذا نصّه :

«أمّا بعد ، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه ، وكفاه مؤونة عدوّه ، أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هاني بن عروة المرادي ، وإنّي جعلت عليهما العيون ، ودسست إليهما الرجال ، وكدتهما حتّى استخرجتهما وأمكن الله منهما ، فقدّمتهما فضربت أعناقهما ، وقد بعثت إليك برأسيهما مع هاني بن أبي حيّة الهمداني والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة ، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ من أمر ؛ فإنّ عندهما علماً وصدقاً ، وفهماً وورعاً ، والسّلام» 10.

كتاب يزيد إلى عبيد الله 11

ولمّا وصل الكتاب إلى يزيد بن معاوية وقرأه ، كتب إليه جواباً: «أمّا بعد ، فإنّك لم تعد إن كنت كما أحبّ ، عملت عمل الحازم ، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، فقد أغنيت وكفيت ، وصدقت ظنّي بك ، ورأيي فيك. وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت ، فاستوص بهما خيراً. وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن علي قد توجّه نحو العراق ، فضع المناظر والمسالح ، واحترس على الظنّ ، وخذ على التهمة ، غير أن لا تقتل إلاّ مَنْ قاتلك ، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر ، والسلام عليك ورحمة الله» 12 13.

  • 1. الوثيقة رقم ١٩.
  • 2. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٠.
  • 3. الوثيقة رقم ٢٠.
  • 4. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٣.
  • 5. الوثيقة رقم ٢١.
  • 6. الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٧٤ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٨٣.
  • 7. انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٦ ـ ٢٨٣ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٥٧ ـ ٥٩.
  • 8. الوثيقة رقم ٢٢.
  • 9. انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ، ومقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٥٧ ـ ٥٩.
  • 10. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٧٠.
  • 11. الوثيقة رقم ٢٣.
  • 12. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٧١.
  • 13. المصدر : الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، لسماحة العلامة السيد عبد الكريم الحسيني القزويني ( حفظه الله ).