مجموع الأصوات: 47
نشر قبل 5 سنوات
القراءات: 6601

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

ممارسات الوصاية الفكرية

تمييزاً ‬للإنسان عن بقية المخلوقات، ‬وتفضيلاً ‬له عليهم، ‬وهب الله له عقلاً ‬يمتلك به قدرة التفكير وصنع الرأي، ‬ومنحه إرادة ‬يتمكن بها من اتخاذ القرار وحرية الاختيار.‬

‬وبذلك أصبح أهلاً ‬للتكليف والخطاب الإلهي، ‬وكان مؤهلاً ‬للثواب عند الطاعة، ‬مستحقاً ‬للعقاب على المعصية، ‬وبعقله وإرادته ‬يستطيع الإنسان القيام بمهمة عمارة الأرض وتسخير إمكانيات الحياة، ‬واستثمار خيرات الكون.‬
‬هكذا شاءت حكمة الله تعالى أن ‬يكون الإنسان مفكراً ‬مريداً ‬له حرية القرار والاختيار، ‬لكن بعض الإرادات الشريرة في ‬عالم الإنسان نفسه، ‬ومن وسط أبناء جنسه، ‬تحاول حرمانه من هذه الميزة العظيمة التي ‬منحها الله تعالى إياه.‬
‬حيث ‬يسعى بعض الأفراد والفئات لممارسة الهيمنة والتسلط على من حولهم من البشر، ‬ويصادرون حريتهم في ‬التفكير وحقهم في ‬الاختيار.‬
‬لقد عانى الإنسان ولازال ‬يعاني ‬من نوعين من محاولات الاستعباد والتسلط. ‬استعباد لجسمه ‬يقيّد حركته ونشاطه، ‬وتسلط على فكره ‬يصادر حرية رأيه، ‬وحقه في ‬التعبير عنه.‬
‬وإذا كانت مظاهر الاستعباد المادي ‬قد تقلصت، ‬فإن ممارسات الوصاية الفكرية لا تزال واسعة النطاق، ‬خاصة في ‬مجتمعاتنا العربية والإسلامية.‬
‬وتعني ‬الوصاية الفكرية: ‬أن جهة ما تعطي ‬لنفسها الحق في ‬تحديد ساحة التفكير أمام الناس، ‬وتسعى لإلزامهم بآرائها وأفكارها عن طريق الفرض والهيمنة.‬
ومن أبرز مظاهر الوصاية الفكرية ما ‬يلي:‬

١. ‬فرض الرأي ‬على الآخرين بالقوة، ‬ومصادرة حريتهم في ‬الاختيار.‬
٢. ‬النيل من الحقوق المادية والمعنوية للآخرين بسبب اختياراتهم الفكرية.‬
٣. ‬الاحتقار وسوء التعامل مع ذوي ‬الرأي ‬الآخر.‬

لماذا الوصاية الفكرية؟

إذا كان الله تعالى قد منح الإنسان عقلاً ‬ليفكر به، ‬وإرادة ليقرر ويختار، ‬وليتحمل مسؤولية قراره واختياره، ‬فلماذا ‬يحاول البعض حرمان الآخرين من استخدام هذه المنحة الإلهية واستثمارها، ‬فيمارسون الوصاية على عقول الآخرين وإراداتهم، ‬فهم ‬يفكرون نيابة عن الناس، ‬وعلى الناس أن ‬يقبلوا آراءهم. ‬ومن تجرأ على المخالفة، ‬ومارس حرية التفكير وحق الاختيار لما اقتنع به من رأي، ‬فله منهم الويل والأذى!! ‬حيث ‬يستخدمون ضد المتمردين على هيمنتهم الفكرية، ‬كل وسائل الضغط والتنكيل المادية والمعنوية.‬
‬إن الدافع الحقيقي ‬لهؤلاء في ‬ممارسة الوصاية الفكرية، ‬هو في ‬الغالب دافع مصلحي، ‬بهدف تحقيق الهيمنة على الآخرين، ‬واستتباعهم للذات.‬
‬لكنهم ‬يتحدثون عن دافع آخر ‬يبررون به ممارستهم للوصاية الفكرية، ‬وهو دافع الإخلاص للحق الذي ‬يعتقدونه في ‬رأيهم، ‬والرغبة في ‬نشر الحق وهداية الآخرين إليه.‬
‬وإذا ما تأملنا هذا الادعاء، ‬وناقشنا هذا التبرير على ضوء العقل والشرع، ‬فسنجده إدعاءً ‬زائفاً، ‬وتبريراً ‬خاطئا.‬
‬ذلك أن ادعاءهم أحقية رأيهم ‬يقابله ادعاء مماثل من الآخرين، ‬فكل صاحب دين أو مذهب أو رأي، ‬يرى أحقية مسلكه، ‬فهل ‬يقبلون محاولة الآخرين لفرض رأيهم عليهم؟
‬إن اعتقاد الإنسان بصوابية رأيه، ‬وإخلاصه لذلك الرأي، ‬ورغبته في ‬إتباع الآخرين له، ‬كل ذلك أمر مشروع، ‬ولكن ليس عبر الفرض والوصاية، ‬وإنما عن طريق إقناع الآخرين بذلك الرأي، ‬ومن ‬يرفض الاقتناع فهو حر في ‬اختياره محقاً ‬كان أو مبطلاً، ‬وليس من العقل والمنطق إجباره.‬
‬ولأن الساحة الدينية عادة ما تبتلى بوجود فئات وجهات تمارس الوصاية الفكرية، ‬وتسعى لفرض آرائها، ‬باعتبار ذلك وظيفة دينية، ‬وتكليفاً ‬شرعياً، ‬كان لا بد من مناقشة هذه الممارسة على ضوء تعاليم الدين ومفاهيمه.‬
‬فهل ‬يشرّع الدين لممارسة الوصاية الفكرية بمعنى فرض الرأي ‬بالقوة، ‬والنيل من حقوق المخالفين، ‬وسوء التعامل معهم؟
‬إن القراءة الواعية لآيات القرآن الكريم، ‬ونصوص السنة والسيرة النبوية الشريفة، ‬وأقوال وسيرة أئمة أهل البيت (‬ع)‬، ‬تكشف عن منظومة من المفاهيم والتعاليم الدينية تؤكد على حرية الإنسان وحقه في ‬الاختيار، ‬وأنه ‬يتحمل مسؤولية قراره واختياره أمام الله تعالى، ‬وترفض الاستعباد والوصاية الفكرية على الناس.‬

الخالق لم ‬يفرض الإيمان به

لتقرير حرية الإنسان وتأصيل وجودها، ‬تؤكد كثير من آيات القرآن الكريم، ‬أن الله تعالى لم ‬يشأ أن ‬يفرض الإيمان به على خلقه بالإجبار والقوة، ‬بل أودعهم عقولاً ‬تقودهم نحوه وفطرة ترشدهم إليه، ‬وبعث لهم أنبياء ‬يدعونهم إلى الإيمان به، ‬ثم ترك للناس حرية الاختيار في ‬هذه الحياة.‬
‬يقول تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ... 1.‬
‬ويقول تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ 2.‬
وتشير آيات أخرى في ‬القرآن الكريم إلى أن الله تعالى جعل فرص الحياة متساوية بين المؤمنين والكافرين، ‬يقول تعالى:﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ 3.‬
وإذا كان الله تعالى لم ‬يفرض على عباده الإيمان به قسراً، ‬لتكون الحياة دار اختيار واختبار، ‬كما شاءت حكمته، ‬فكيف ‬يحق لأحد أن ‬يمارس فرض الإيمان على الناس باسم الله ونيابة عنه؟
إنه تعالى لا ‬يريد الإيمان به عن طريق القوة والقسر، ‬لأنه حينئذٍ ‬لن ‬يكون إيماناً ‬حقيقياً، ‬ولو أراد الله تعالى إخضاع الإنسان للإيمان قسراً ‬لكان ذلك ميسوراً ‬عليه. ‬يقول تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ 4.‬
وبضرس قاطع ورفض صريح ‬يقول تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... 5، ‬وقد ورد في ‬سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في ‬رجل من الأنصار من بني ‬سالم بن عوف ‬يقال له: ‬الحصين، ‬كان له ابنان نصرانيان، ‬وكان هو رجلاً ‬مسلماً ‬فقال للنبي (‬ص): ‬ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك6.