مجموع الأصوات: 55
نشر قبل 6 سنوات
القراءات: 7032

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المثقف اسم حاضر وفعل غائب

لقد وجدت أن ألمع صورة للمثقف تلك التي حاول تشكيلها إدوارد سعيد في كتابه البليغ "صور المثقف" ولعله أكثر كتاب يحرج المثقف العربي، وينتقص من قدره، ويعيب عليه رؤيته لذاته ودوره، لأنه قد لا يجد نفسه متمثلاً في الصورة التي حاول إدوارد سعيد الدفاع عنها، والتبشير بها وحمايتها، والإعلاء من شأنها، وفي تأكيد تلك النزعة الأخلاقية الشفافة، والروح النقدية الشجاعة، والتغلب على إغراءات السلطة والثروة والجاه. ومن ملامح هذه الصورة يقول إدوارد سعيد: لا شيء في نظري يستحق التوبيخ أكثر من تلك الطباع الذهنية للمثقف، التي تغري بتجنب المخاطر، أي الابتعاد عن موقف صعب ومبدئي تدرك أنه الصحيح ولكنك تقرر ألا تتخذه. وأنت والكلام لسعيد لا تريد الظهور في مظهر المنغمس جداً في السياسة، وتخشى من أن تبدو مولعاً بالجدل، وتحتاج إلى موافقة مدير أو شخص ذي سلطة، وتريد الاحتفاظ بسمعة حسنة كإنسان متزن وموضعي ومعتدل، وتأمل أن تدعى مرة أخرى وتستشار، وتكون عضواً في مجلس إدارة أو لجنة لها مقامها، وبالتالي أن تظل في نطاق الاتجاه السائد الذي يعول عليه، وتأمل يوماً أن تحصل على شهادة مغرية، أو غنيمة كبرى، لا بل حتى على منصب سفير. إن هذه الطباع الذهنية كما يضيف سعيد هي العامل الأبرز دون منازع لإفساد المثقف، وإذا كان في وسع أي شيء أن يمسخ حياة فكرية متقدة، ويقضي على تأثيرها، وفي نهاية الأمر يقتلها، فلسوف يكون دمج مثل هذه الطباع وترسيخها في النفس. إلى هنا وينتهي كلام إدوارد سعيد. لذلك فإن المثقف في العالم العربي يمثل فعل الغائب والجامد والساكن، وليس فعل الحاضر والفاعل والمتحرك، وأكثر ما تتجلى لنا هذه الصورة في ظروف الأزمات، ولا نلتفت إليها إلا في حالات المحن، وإذا حلت بنا الكوارث، واشتدت علينا المخاطر. و المفارقة اللافتة أن المثقف هو أكثر من يدرك هذه الحقيقة، وأكثر من يتحدث عنها أيضاً، ولا يجادل فيها، أو يطالب بالتثبت منها والاستدلال عليها، فهو الذي يحسن التعبير عنها بكلامه البليغ والفصيح والبديع. لكنه لا يستطيع أن يغير هذه الصورة ويبرهن على ما يغايرها أو يعاكسها، وهذا من أكثر ما يدعو إلى الحيرة والتساؤل فما جدوى أن يكون المرء مثقفاً؟ كما يتساءل المفكر الفرنسي روجيس دوبريه، ولعل هذا السؤال هو من أبلغ الأسئلة التي تحرض على أن يواجه المثقف ذاته ويرتد إلى أعماقه الداخلية لكي يحاور نفسه ويحاسبها، على أمل أن يستلهم قوة معنوية تدفع به نحو تغيير مسلكياته ومساراته، وتخرجه من عالمه الغائب والجامد إلى عالم الحاضر والفاعل. من عالم الذين قال عنهم القرآن الكريم ﴿ ... وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا 1إلى عالم الذين قال عنهم ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ... 2 بعد أن حذرهم بقوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ 3. فلا يكفي من المثقف أن يحسن الكلام ويكون أكثر شيء جدلا، بل عليه أن يصدق كلامه بالعمل لكي يكون ملتزماً مع قيمه وأخلاقياته، وصادقاً مع نفسه ووطنه وأمته.
و من أشد ما يرسخ هذه الصورة المنقوصة عن المثقف هي تلك الذاكرة التاريخية والسيرة العملية المتشكلة عن المثقفين في العالم العربي، وهي الذاكرة التي تقوم بنقل الصورة وتعميمها من جيل إلى جيل آخر، ومن زمن إلى زمن آخر. كما أنها السيرة التي تشكل التقاليد وترسخها وتحولها إلى قوة ضاغطة تدفع بالمثقف لأن يكيف سلوكه بطريقة يتناغم فيها مع تلك التقاليد، والتقيد بها في أكثر الأحيان، فليس معروفاً عن المثقفين العرب الشجاعة والجرأة والمغامرة، وسجل الكثير منهم لا يحفل بتاريخ من البطولات والتضحيات والمواقف الباسلة والصامدة، ومن يحمل مثل هذه الصورة وهذه الذاكرة هم فئات قليلة. والصورة المتداولة عن المثقف العربي أنه سهل الإغراء والإغواء، ولا يمتلك تلك الممانعة الصلبة أمام إغراءات السلطة والقوة، أو إغواءات المال و الجاه. وهذه الإغراءات والإغواءات هي من أكثر عوامل إفساد المثقفين، ومن أكثر من يمارس عليهم، لتحطيم رمزيتهم الأخلاقية، و سلب شجاعتهم النقدية، وتوهين إرادتهم، وتحويلهم إلى أشخاص صامتين لا يجرؤن على قول الحق، والدفاع عن الفضيلة، و الاصطفاف مع الأمة في آمالها وآلامها.
وفي منتصف هذا الشهر آذارـ مارس2003م تناقلت وكالات الأنباء خبر مقتل الناشطة الأمريكية راشيل صوريا كوري 23 عاماً وهي من فريق التضامن مع الشعب الفلسطيني عندما حاولت صد جرافة عسكرية إسرائيلية جاءت لتجريف أراضي في حي السلام برفح جنوب قطاع غزة، لكن الجرافة دفنتها ودهستها ما أدى إلى مقتلها بعد ما تحطمت جمجمتها وأطرافها. لا شك أن هذا الموقف الشريف والشجاع سوف يتحول إلى ذاكرة خالدة يمثل رمزاً للشرف والفداء والدفاع عن الإنسان والأرض والحق والعدل عند الشعب الفلسطيني وكل أحرار العالم. ألا يحرج هذا الموقف المثقف العربي، وهل لديه الشجاعة و المغامرة في أن يضع نفسه في هذا الموقف!
وفي الوقت الذي تشتد على الأمة المخاطر والتحديات يطرح السؤال أين هو دور المثقف؟ ولا شك أن المثقف يدرك الجواب ويفهمه جيداً، وليس هو بحاجة إلى من يعلمه مثل هذا، لكنه بحاجة إلى الإرادة الشجاعة والضمير الحي لكي يتحول من فعل الغائب إلى فعل الحاضر. وأن يتعامل مع هذه اللحظة التاريخية بدور تاريخي يستجيب لمقتضيات تلك اللحظة ويرتقي إلى مستوى تحدياتها وشرائطها4.