حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
العالم يتغير في رؤية الناس
إلى وقت قريب كانت صورة العالم في رؤية الجمهور العريض من الناس في عالمنا العربي، تكاد تختزل وتتحدد في نطاق الحارة، أو القرية، أو المدنية. والنطاق الواسع في رؤية هؤلاء الناس إلى العالم، نادراً ما كان يتجاوز نطاق الدولة التي ينتمون إليها. فالبعض كانت الحارة تمثل إليه صورة العالم، فالعالم هي الحارة، والحارة هي العالم. وفي هذا النطاق كانت تتحدد الإدراكات الذهنية لهؤلاء، وتتأطر به عالم الصور والإشارات والرموز والكلمات، وهكذا شبكة العلاقات الاجتماعية، ودورة الزمن وحركة الحياة العامة. وما يتعرفون إليه خارج نطاق الحارة، غالباً ما يكون مشتتا ومتناثرا، ولا يلفت الانتباه إليه، ويفتقد إلى الضبط والتوثيق. وهناك من يتجاوز أفق الحارة إلى أفق القرية، أو إلى أفق المدينة، أو إلى أفق الدولة. هذا كان واقع الحال إلى وقت، وكثيراً ما عبرت كتب الروايات العربية عن هذا الواقع، وهكذا كتب السير الذاتية.
أما اليوم فهناك ما يشبه الانقلاب على تلك الصورة. فالناس بكافة شرائحهم وتكويناتهم الاجتماعية والثقافية والمهنية، أخذوا يتحدثون عن العالم بطريقة غير معهودة في السابق، ويجدون أنفسهم مندفعون في هذا النوع من الحديث، بعد أن كان غائباً عن إدراكهم.
ولا شك أن هذه ظاهرة ثقافية واجتماعية جديدة، تلفت الانتباه، وتستدعي النظر، وتعبر بنسبة ما عن تغير في اهتمامات الناس، وأنماط حياتهم، وفي تصوراتهم الذهنية. كما أن هذه الظاهرة من ملامح هذا العصر الذي باتت تلعب فيه النظم الرقمية، وتقنيات الاتصال، وشبكات الإعلام العابرة ما بين الأمم والثقافات واللغات، الدور الفاعل والمؤثر في تشكيل الصور والأذواق والانطباعات. ولعل من أكثر ما يعبر عن هذه الظاهرة، ويصلح أن يكون دليلاً عليها هو حديث الناس عن العولمة، حيث يتحدثون عنها كما لو أنها تنتمي إلى قاموس كلماتهم اليومية، حيث دخلت إلى مجال التدوال اللغوي الشعبي. وظل الناس أو قطاع كبير منهم يتساءلون عنها، ولديهم الغربة في التعرف عليها، من شدة تداولها، وكثرة الاستماع إليها. ولعل هذه صورة من صور الانخراط في العولمة، ومن مظاهر قوتها أو سحرها حين استطاعت أن تفرض هذا المستوى من التداول، وقوة الحضور، وتصل إلى أوسع شريحة عددية وعمرية من الناس. ولم يسبق لأي مفهوم آخر من المفاهيم التي ظهرت مع بداية القرن العشرين، أو ما قبله أيضاً أن حقق هذا المستوى الواسع من التداول الشعبي كالذي حصل مع مفهوم العولمة. فلا الحداثة وما بعد الحداثة، أو فكرة التقدم، أو التمدن، ولا حتى فكرة الثقافة أو الأدب أو الفن.. هذه المفاهيم وغيرها لم تصل إلى ما وصل إليه مفهوم العولمة من جهة علاقة الناس به. وبقد ما كانت العولمة تنتمي إلى فضاء متقدم، وتعبر عن مستويات عالية من التطور، بقدر ما كانت قادرة أيضاً في الاقتراب من عالم الناس بتفاصيله، وخطوط الطول والعرض في خرائطه، وبرغبتهم أو بدون رغبتهم. والذي جعل العولمة بهذه القدرة والجاذبية هو أنها أخذت تعبر عن نفسها من خلال أدوات هي الأكثر شعبية وتواصلا بين الناس، وفي مقدمة هذه الأدوات التلفاز الذي دخلت عليه تقنية الأقمار الصناعية والنظم الرقمية، والحاسوب الذي دخلت عليه تقنية الانترنت، والهاتف الذي دخلت تقنية الاتصال عن بعد أو ما يعرف بالهاتف المتحرك أو الجوال. فهذه الأدوات هي الأكثر شعبية بين الناس، وهي في نفس الوقت الأدوات التي جعلت الناس يتعرفون على العالم، وينظرون إليه، ويدركون حركته وأحداثه، وتصلهم صوره ومرئياته بطريقة سريعة ومكثفة، وكأنهم في داخل العالم وليس خارجه، أو هكذا هو إحساسهم. ولم يعد الذين يتحدثون إليهم، ويتبادلون الكلمات والمقولات معهم هم أهل الحارة أو القرية أو المدينة فحسب، وإنما أصبحوا من أهل الملل والنحل والعوالم المتعددة والمختلفة.
والعولمة هي التي جاءت بالعالم إلى الناس، وسهلت اقتحام العالم على الناس، وحرضت الناس على التفاعل والتشابك معه، وهذا هو مصدر قوة العولمة من جهة، وشعبيتها من جهة أخرى.
ومقولة أن العالم يتغير في رؤية الناس، هذه المقولة شديدة الأهمية والخطورة من حيث المعايير الثقافية والفكرية، والحضارية، وهذا يعني أن الناس أصبحوا في قلب العاصفة1!
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 11 أغسطس 2004م، العدد 13864.