الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الفكر الإسلامي بين مرحلتيه الحديثة والمعاصرة.. أطروحات ومناقشات(2)

3ـ الفكرين الإسلاميين الحديث والمعاصر.. من التقدم إلى الهوية
إلى مطلع سنة 1985م، كان الاهتمام الفكري على مستوى المتابعة والكتابة والتأليف عند الدكتور رضوان السيد منصباً على مجال الدراسات الإسلامية الكلاسيكية، وفي سنة 1986م صدر له أول كتاب في مجال الدراسات الإسلامية الحديثة، بعنوان (الإسلام المعاصر.. نظرات في الحاضر والمستقبل)، وفي وقتها كان يرى «أن الغالب على الحقبة المعاصرة في التفكير الإسلامي النكوصية، فمحمد عبده متقدّم على رشيد رضا، ورضا متقدّم على حسن البنا، والبنا متقدّم على سيد قطب، وقطب متقدّم على عمر عبد الرحمن.. إلخ»1.
وفي سنة 1993م نشر الدكتور السيد مقالة في صحيفة النهار اللبنانية بعنوان (البيئات الأيديولوجية والاجتماعية لحركات الإسلام السياسي المعاصر)، استهلها بالقول: «خطرت لي قبل سنوات خاطرة نشرتها في إحدى الصحف، مؤداها أننا مختلفون عن العالم كله من حيث إن الثقافة والسياسة في مجالنا العربي، تسير باتجاه معاكس لطبائع الأمور والأفكار، ففي المجال الثقافي محمد عبده أقل ثقافة وانفتاحاً من جمال الدين الأفغاني أستاذه، ومحمد رشيد رضا أقل انفتاحاً من أستاذه محمد عبده، وحسن البنا أقل ثقافة وانفتاحاً من رائده رشيد رضا، وسيد قطب أقل انفتاحاً من رائده حسن البنا، وعمر عبد الرحمن أقل ثقافة وانفتاحاً من سيد قطب»2.
وفي سنة 1997م، جمع الدكتور السيد المقالات والدراسات التي كتبها خلال ست سنوات ماضية، في كتاب صدر بعنوان (سياسيات الإسلام المعاصر.. مراجعات ومتابعات)، اعتبر فيه أن الأطروحة الأساسية التي تخترق فكرتها مجموعة المقالات والدراسات كلها، تتحدَّد -حسب قوله- في «أن الإشكالية الرئيسية في الفكر الإسلامي الحديث كانت إشكالية النهوض والتقدم، بينما الفكر الإسلامي المعاصر إشكاليته الأساسية الهوية ومقتضيات وأساليب ووسائل حفظها، ولذا فإن هذه الدراسات المجموعة ترى أن هناك قطيعة بين الفكرين الإسلاميين الحديث والمعاصر، وتدرس وتحدّد زمن حدوث تلك القطيعة، وظروفها في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن»3.
وحين رجع الدكتور السيد إلى هذه الأطروحة في ورقة (من الإصلاح إلى الإحياء.. مصائر مواريث التفكير النهضوي الإسلامي)، قدّمها لمؤتمر: (اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث) سنة 2009م، اعتبر السيد أنه اتَّخذ من هذه الفرضية -حسب تسميته- أساساً للدراسة عنده في الخمس عشرة سنة الأخيرة، وهي تستند -حسب قوله- إلى أمرين اثنين: «مراقبة التشكيلة الثقافية السياسية في موضوعاتها وخطوطها الرئيسية، ومحاولة النمذجة على أساس الأكثر وروداً واهتماماً لدى العاملين الرئيسين في المجالات الثقافية الدينية، والثقافية الفكرية»4.
وبحسب هذا التتابع الزمني، يفهم أن اقتراب الدكتور السيد من هذه الأطروحة، بدأ مع تحوّله نحو الاهتمام بحقل الدراسات الإسلامية المعاصرة في منتصف ثمانينات القرن العشرين، مع كتابه (الإسلام المعاصر)، وإلى سنة 1993م كانت هذه الأطروحة عنده أقرب إلى الخاطرة حسب وصفه، وفي سنة 1997م ومع صدور كتابه (سياسيات الإسلام المعاصر)، نقلها من وضعية الخاطرة إلى وضعية الفرضية والأطروحة، وتحدّدت عنده بصورة أكثر وضوحاً وتماسكاً، وأصبح يُعرف بها على النحو الآتي: هناك قطيعة بين الفكرين الإسلاميين الحديث والمعاصر، كشف عن هذه القطيعة اختلاف طبيعة الإشكالية الحاكمة في ساحة هذين الفكرين، ففي ساحة الفكر الإسلامي الحديث كانت الإشكالية الحاكمة هي إشكالية النهوض والتقدّم، بينما في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر إشكالية الهوية هي الإشكالية الحاكمة.
هذه الأطروحة بهذا التحديد، شكّلت أساساً عند الدكتور السيد منذ تحوّله نحو الاهتمام بحقل الدراسات الإسلامية المعاصرة، وظلت هذه الأطروحة حاضرة روحاً وفكراً في معظم كتابات ودراسات الدكتور السيد المتصلة بحقل الإسلاميات المعاصرة، وبات من السهل كشف هذه الأطروحة، والتعرف إليها، وذلك لشدة وضوحها من جهة، وتعمد الدكتور السيد تصويب النظر إليها في كتاباته.
ومنذ اقتراب الدكتور السيد من حقل الدراسات الإسلامية المعاصرة، كان في وعيه وإدراكه على ما يبدو، الحاجة لأن يكون صاحب أطروحة يعرف بها من جهة، وحتى تشكل له أساساً لوجهة كتاباته من جهة أخرى، هذا الوعي بالأطروحة والحاجة إلى الأطروحة، هو الذي قاده وأوصله إلى الأطروحة التي ظل يختبرها بالحديث، والإشارة إليها، والنقاش حولها في العديد من كتاباته ودراساته، حتى تبلورت ونضجت وتحدّدت عنده بالصورة التي شرحها في مقدمة كتابه (سياسيات الإسلام المعاصر).
الوعي بالأطروحة والحاجة إلى الأطروحة، حصل عند الدكتور السيد نتيجة عنايته وخبرته في الكشف عن أطروحات الآخرين حين البحث عنهم وعن تصوراتهم الفكرية، وهذا ما تجلى بوضوح في العديد من مؤلفاته، ومن أبرزها كتاب (سياسيات الإسلام المعاصر)، وكتاب (المسألة الثقافية في العالم العربي الإسلامي) الصادر سنة 1998م، وكتاب (الصراع على الإسلام.. الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية) الصادر سنة 2004م، وهكذا في كتابه (الإصلاح الإسلامي.. المسار والصيرورة) الصادر سنة 2004م.
ودل على هذا الوعي بالأطروحة كذلك عند الدكتور السيد، حين توقف عند أهم الدراسات حول الفكر العربي النهضوي، وأشار إلى ثلاث دراسات، واعتبر أن دراسة الدكتور فهمي جدعان (أسس التقدم عند مفكري الإسلام)، هي أهم هذه الدراسات الثلاث عمقاً وتفصيلاً، لكن ملاحظته عليها أنها ليست لها أطروحة حاكمة5.
هذه الإشارة من الدكتور السيد على دراسة الدكتور جدعان، وكأنها تلفت نظره أو يلفت بها نظر غيره بالحاجة إلى الأطروحة، وبالنسبة إليه بوصفه أحد المهتمين والمشتغلين بهذا الحقل من الدراسات.
وفي وقت لاحق، حاول الدكتور السيد اختبار أطروحته من جهة علاقتها بمقولة رؤية العالم، وفي هذا النطاق جاءت ورقته (رؤية العالم في الفكر الإسلامي المعاصر.. الحتميات المؤتلفة والإمكانيات الأخرى)، التي قدّمها لندوة (تيارات الفكر الإسلامي المعاصر.. قضايا الإصلاح والتجديد) عقدت في بيروت سنة 2001م، وكنت معقباً على هذه الورقة في هذه الندوة، وضمّها فيما بعد إلى كتابه (الصراع على الإسلام).
وما يعنيه ويرمي إليه الدكتور السيد من رؤية العالم في هذا الشأن، يتحدّد في أمرين:
الأمر الأول: ذكره الأنثروبولوجي الأمريكي مايكل كيرني، الذي يرى أنه لم يعد من الممكن دراسة التصورات حول الثقافات في تكويناتها، والعلاقات فيما بينها، إلَّا بالاستناد في ذلك وبخاصة في المسائل العلائقية، إلى بحوث وفرضيات رؤية العالم.
الأمر الثاني: ذكره السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864-1920)، الذي صنّف مقولة رؤية العالم في مستويين، درس بالاستناد إليهما ثقافات تاريخية عدة، يتعلق المستوى الأول بما أطلق عليه المؤرخ الاجتماعي الألماني فلهام دلتاي (1833-1911م) اسم الصورة الكونية، التي تؤلف الكتلة الأساسية للمعتقدات والمسلمات الافتراضية عن العالم الحقيقي والواقعي، والتي يمكن في ضوئها الوصول إلى إجابات شافية عن التساؤلات حول مغزى الكون والوجود، أو ما يعرف بروح الحضارة. ويتعلق المستوى الثاني بالسياق التصوري الواعي والإرادوي، الذي تضع فيه الذات الجمعية نفسها ضمن تقسيمات العالم الواقعية أو المركبة من النواحي الثقافية في الأصل؛ لكن أيضاً من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والسياسية6.
واستناداً إلى هذه المقولة، وتطبيقاً لها على أطروحته، يرى الدكتور السيد أن «وعي الأفغاني وعبده والعظم ورضا وأرسلان لأحداث العالم وتركيباته وترتيباته، ومواقع المسلمين فيه، حددوا إشكالية المسلمين بأنها التخلّف في سائر المجالات، كما حددوا الحل وهو التقدّم، على أن المفكرين الإسلاميين بدؤوا يتخلّون عن هذه الفكرة، أو عن هذا التحديد للإشكالية منذ الثلاثينيات من القرن العشرين... وأصبحت الرؤية السائدة للعالم لدى الإسلاميين تتمحور حول الهوية، وتتسم بالقطيعة»7.
وبهذا الاستناد والتطبيق لمقولة رؤية العالم، يكون الدكتور السيد قد فتح أفقاً جديداً أمام أطروحته، وأمام هذه الأطروحات عموماً، ومثَّل أهم تطوّر أضافه لأطروحته، وبه تميزت عن أطروحات الآخرين، وما كان من السهل التنبُّه لهذه المقولة، والاستفادة منها في هذا النطاق، وهنا تكمن أهمية هذه الإضافة، وهذا التطور8.

 

الفكر الاسلامي بين مرحلتيه الحديثة والمعاصرة.. اطروحات ومناقشات (1)

  • 1. رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر مراجعات ومتابعات، بيروت: دار الكتاب العربي، 1997م، ص8.
  • 2. رضوان السيد، المصدر نفسه، ص200.
  • 3. رضوان السيد، المصدر نفسه، ص7.
  • 4. رضوان السيد، من الإصلاح إلى الإحياء مصائر مواريث التفكير النهضوي الإسلامي، ورقة مقدمة لمؤتمر: اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث، الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 19-21 يناير 2009م، ص2.
  • 5. رضوان السيد، الصراع على الإسلام الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية، بيروت: دار الكتاب العربي، 2004م، ص124.
  • 6. رضوان السيد، المصدر نفسه، ص183.
  • 7. رضوان السيد، المصدر نفسه، ص183-187.
  • 8. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة  الكلمة، مجلة فصلية، العدد 83، ربيع 2014م / 1435هـ.