مجموع الأصوات: 89
نشر قبل 8 سنوات
القراءات: 9452

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المجتمع في الاسلام

أود أن افتتح حديث الليلة عن المجتمع في الإسلام ، وهو الموضوع الذي اقترح الأعزاء أن أتحدث إليكم عنه ، وهو موضوع واسع الأطراف ، كثير الشعب ، لا يتسع له كتاب ضخم ، فضلاً عن حديث في موقف .
. .أودّ أن أفتح حديث الليلة بملاحظة صغيرة حول هذا الإنسان : . .حول هذا الكائن الغريب الأطوار .
إن هذا المخلوق يأتي بالعجيب المدهش من النتائج اذا هو عرف السبيل إلى الفكرة ، واستبان المعالم في الطريق ، ثم هو يضل عن أوضح الواضحات ، واجلى الجليّات في ميادين المعرفة ، و ليس بينه وبين النتيجة القطعية إلاّ نظرة يتجرد فيها عن مألوفاته .

الإنسان و ما وراء المادة

سار الإنسان مع المنطق المحسوس ، ومع التجربة ، ومع الملاحظة الدقيقة في ميادين المادة : ميادين العلم الحديث ، فأتى بالعجائب المحيّرة للعقول ، والمعجزات المذهلة للألباب ، وهو لا يزال يتقدم في طريقه هذا ، ويأتي في كل يوم لمحيّر المذهل ، وبالنتائج المبرورة المشكورة ، لأن المنطق المحسوس والتجربة والملاحظة الدقيقة هي السبيل المضمون الصحة إلى النتيجة الصحيحة في ميادين المادة .
وطلب هذا الإنسان أن يسير مع هذا المنطق المحسوس ، ومع التجربة والملاحظة الحسّية الدقيقة في معرفة ما وراء المادة ، وكان من الضروري أن تقف الآلات و الأدوات الماديّة في هذه الميادين ، لأنها ليست من مجالها ، ووقف هو لما وقفت أدواته وآلاته ، وبقي يتخبّط حائراً سادراً ، ولو أنه أنصف في النظر ، لعلم أن المنطق المادّي لا سبيل له في غير المادة ، وأن للمعرفة في هذه الميادين منطقاً آخر و أدوات غير هذه الأدوات .
إن مبضع الجراح ، و مصهر الكيموي ، وميزان الفيزيوي ، ومنظار الفلكي ، ومجهر المحلل ، ومختبر العالم ، لا يمكن لها ان تتناول غير المادة ، وإن ضاعفنا قوتها مليون ضعف أو مائة مليون ، وهذا واضح لا يشك فيه أحد من الناس .
وزاد الإنسان خطوة على ذلك فأنكر أن يكون للمعرفة طريق غير الحس والتجربة ، وغير الأدوات التي يتّخذها العلم المادي وسيلة لمعرفة المادّيات ، ونتيجة محتومة لذلك : أنكر وجود ما وراء المادة ، وبقي حائراً في تعليل وجود هذا الكون ووجود الحياة . . يفترض الفروض ثم يُبطلها ، ويتوجّه إلى جهة ثم ينصرف إلى سواها ، فهو في ذبذبة دائمة ، وفي ظلمة قاتمة .
واتّهم العلم بأنه ينكر ما وراء المادة ، والعلم بريء من هذا القول ، براءة الذئب من دم يوسف ـ كما يقول القدماء ـ ، لأن العلم لا يدّعي ما ليس له ، و لا يقول كلمته فيما يخرج عن اختصاصه ، و الا انقلب العلم جهلاً .
أرأيتم؟ . . هذه وجهة الإنسان في استجلاء هذه الحقيقة الواضحة ، أضاع الوسيلة فأضاع النتيجة ، وليس بينه وبين الواقع الا أن يراجع حساب الأرقام فيعرف خطأه ويصحح نظرته ويسير مع العقل الأمين .

الفلسفة الوضعية في الميزان

وكانت هذه الفكرة مفتاحاً لسلسلة من الأفكار سمّاها الفلسفة الوضعية ، وبناها على إنكار كل شيء وراء المادة ، والمنطق الصحيح يحاسبه على كل حلقة منها ، وعلى كل نتيجة توصله اليها .
ومن البحوث التي أقامها على هذه الفكرة بحثه في الاجتماع ، وفي الحياة ، وفي الإنسان ، وفي شؤونه وأخلاقه ، فقد فسّرها تفسيراً مادياً خالصاً لاصلة له بروح ، ولا بغيرها من عالم ما وراء المادة ، واستخلص على هذا البناء نتائجه و وضع أحكامه .
ولا أريد الإطالة في هذه الناحية ، فقد استوفيت الكلام عنها في أحاديث أخرى خصّصتها في هذا الموضوع .
و حسبي أن أشير إلى أن هذه الناحية فرع من فروع النظرية الوضعية التي تنكر ما وراء الحسّ وما وراء المادة ، فإذا بطل الأصل بطل الفرع .
وحسبي ان أقول : إن إنكار ما وراء الحسّ بذاته يهدم اساس الفلسفة الوضعية ، لأنه لا يقوم على دليل محسوس .
وحسبي أن اكرر هنا ما قلته في بعض أبحاثي للموضوع .
( لماذا ينكرون أن يكون للمعرفة طريق غير الحسّ والتجربة ؟! ، وهل من الممكن أن تقوم فلسفة ما على الحس والتجربة وحدهما ، وحتى إذا كانت تلك الفلسفة تعالج ناحية ماديّة خالصة ؟! .
( إن الإحساس لا يعدو أن يكون تصويراً للشيء المحسوس ، وإن التجربة ـ في كثير من مواردها ـ لا تتجاوز أن تكون تكراراً لهذا التصوير ، ومقارنة بين ملامح الصور ، أما مطابقة الصور لواقع الشيء ولصفاته الحقيقية فهي محتاجة إلى مصدر آخر هو أوثق ـ لدى العقل ـ من الحس ومن التجربة ، واما التجربة والتعميم ، واستنباط حكم عام شامل من الموارد الخاصة التي أدركها الحسّ ، ووقعت عليها التجربة ، فهو مفتقر إلى عمليّة عقليّة خالصة ، وتدخّل قوانين ضرورية لا يشك فيها إنسان ولا تفتقر إلى إثبات .
( وقاعدة : ( ( إن التجربة هي مصدر المعرفة الحقيقية ) ) . . هذه القاعدة التي غلا فيها التجريبيون ، فأنكروا أن يكون للمعرفة طريق سواها ، ثم أمعن الوضعيون منهم في الغلّو ، فأنكروا أي شيء لا يناله الحسّ ، وأي حقيقة لا تخضع للتجربة .
( أقول : وهذه القاعدة ذاتها ، أليس من حق الناقد الحرّ أن يسأل عن طريق إثباتها للإنسان ؟ .
( أهي التجربة ذاتها ؟ .
( إن الشيء لا يمكن ان يثبت نفسه !! .
( و اذن فلا محيد للوضعيين من الإعتراف بأنها ضرورية لا تفتقر إلى إثبات ، و لا محيد لهم من الإعتراف بأن الإنسان يملك ضروريات أولية يرجع إليها في إنشاء معرفته هي قبل التجربة ، والتجربة إحدى نتائجها أو هي إحداها ) 1 .

الإنسان و المادة

اما حديث ان الإنسان مادة خالصة ولا شيء فيه غير المادة ، فقد لخصته بقولي عنهم :
( الإنسان حيوان . .
( فهو مادّي اذن . .
( مادّي بلحمه و دمه و جميع قواه واجهزة نشاطه . وهل للحيوان تأريخ غير تأريخ المادة . تأريخ القوت وضروب طلبه ، والكدح الشديد فيه والتخاصم عليه ، و التنافس في أمره ، وملابسات ذلك وفروعه .
( ضعوا الإنسان في المختبر ليحلّله العلم ، فهل يجد سوى الفسفور و الآزوت والكبريت والنحاس والحديد والكالسيوم و المغنيسيوم وأخواتها من عناصر المادة؟! .
( فمسألة الإنسان الأولى مسألة مادة محض ، ومسألة اقتصاد على الخصوص ، وكلّ ما يجدّ سواها فانما هي فروع ، واذا انتظم الاقتصاد انتظمت فروعه .
( هذا هو قولهم ) .
ثم قلت : ( و يكفي لدحض هذه المزاعم أن يتصوّروا أن الإنسان ليس حيواناً فقط .
( ويكفي لدحضها أن يتصوّروا أنه ليس مادياً فقط .
( يقولون : ضعوا الإنسان في المختبر ليحلّله العلم ، فماذا يضعون منه؟ .
( يضعون جسمه بعظمه ولحمه ومخه وعصبه ، ومن يشكّ في أن هذه مادية؟ .
( أفيضعون في المختبر المادي نفسه وروحه وقواه المختلفة وإرادته وعقله وتفكيره ، وباقي مميزات إنسانيته؟ .
( أفيضعون هذه في المختبر أيضاً؟! وماذا يحلّل المختبر منها وهو لا يتناول غير المادة؟ .
( ليضعوا في المختبر إنساناً ميّتاً ، و ليتبيّنوا ماذا نقص بموته من عناصره الأولى يوم كان حياً ، ثم ليبحثوا في ركام هذه المادة عن مصدر نشاطه الأول وهموده الأخير .
( بل ليلتقطوا عناصر الإنسان الحرة الطليقة وهي موفورة في تراب الأرض ـ كما يقول العلم ـ ليجعلوا من هذه العناصر العشرين مقاديرها الموجودة في بدن الإنسان ثم ليقيموا منها هيكلاً انسانياً كاملاً بأجهزته ومقوّماته وجميع خفاياه وخلاياه ، وهو أمر غير شاقّ على العلم فيما اعتقد .
( بهذه التجربة وحدها سيجدون الفارق الأصيل بين الإنسان الطبيعي المخلوق الضخم ، وبين الإنسان المادّي الذي يخضع للمختبر ، ويوزن بالكيلو والغرام .
( وبهذه التجربة وحدها سيجدون الفارق الأصيل بين الأشياء الطبيعية التي تحمل سرّ الحياة وتنقله إلى أعقابها ، وبين مشابهاتها مما يصنعه الإنسان ، وتنتجه معامله ، وان اتفقت معها في المادة والتركيب والمقدار .
( سيجدون أن المسألة مسألة تكوين وإحياء ، وليست مسألة هندسة و بناء ) 2 .

الإسلام و الإنسان

الإنسان جسد و روح

هكذا يقول الإسلام ، و هكذا يؤكد المنطق الصحيح ، وهكذا تثبت موازين الحقائق .
نعم . الإنسان جسد و روح ، جسد يتألّف من ذرّات المادّة ، وجُزيئاتها ، وروح من عالم ما وراء المادة :
﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ 3.
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ 4، هذا هو نصيب الإنسان من المادة .
﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ 5و هذا هو نصيبه مما وراء المادة .
و من هذين الخلطين يتألّف كيان الإنسان وتتقوّم وحدته ، وعلى هذه الوحدة قام الكيان وقامت الحياة ، كما اقتضت الحكمة الخالقة ، لا استقلال لروح عن جسد ، و لا غَناء بجسد عن روح ، ولا انفصال لأحدهما عن الآخر مادامت الحياة .
وعلى هذه الوحدة قامت نظرة الإسلام كما اقتضت الحكمة المشرّعة ، فلم يفصل الإنسان جسداً عن روح أو روحاً عن جسد ، ولم يعالجه مِزقاً لا صلة بين أبعاضه ـ كما صنعه المشرّعون الآخرون ـ ، و على هذه النظرة سار الإسلام في كل وضعه للإنسان من حكم ، وما شرّعه للحياة من نظام ، وما وصفه لأدوائه من علاج ، وما جعله لمشكلاته من حلّ .

الإسلام و ركائز الاجتماع الإنساني

و الاجتماع في الإسلام بعض نواحي الإنسان التي تناولها بالوصف والتحديد و التشريع على هذه النظرة الأصيلة التي لا يسوغ أن يحاد عنها و لا يمكن أن تحيد .
و ركائز الاجتماع أصيلة في كيان الإنسان ، عميقة الجذور في غرائزه وطباعه ، وقد قال كثير من علماء النفس : الاجتماع غريزة مستقلة من غرائز الإنسان ، ثابتة لعامّة أفراده ، لازمة له في جميع أدواره ، لم تنفصل عنه ، ولم تنفصل عنها ، حتى في عهود الغابات والوحشيّة ، وإن كان اثرها ضعيفاً في تلك العهود .
و للإنسان ـ وراء ذلك ـ مجموعة من الركائز النفسية الاجتماعية ، تعمل على لفّ الإنسان بالإنسان ، وضمّ بعض أفراده إلى بعض ، وعلى هذا أسّس العلماء النفسانيون علم النفس الاجتماعي ، وأقاموا أصوله ، وقرّروا مناهجه ونبغ فيه المتخصصون .
ويمكن لنا أن نحكم حكماً لا تحفّظ فيه ، أن أكثر غرائز الإنسان دوافع تفرض عليه الاجتماع ، و أكثر ضروراته حوافز تسوقه إليه ، حتى مقوّمات خلقه ، وحتى خصائص تركيبه .
لماذا منحه الله قدرة الكلام ، وطاقة التأثير ، وقوّة الفهم ، وملكة التفهيم ، اذا لم يكن الاجتماع ضرورة طبيعية من ضروراته؟! .
هذه بعض ركائز الاجتماع في كيان الإنسان ، أما ضرورات العيش والقوت ، والتعاون لحفظ النفوس من العوادي ، والتعاون لتحصيل القوت ، فإنها تأتي في درجة متأخرة ، ولها نسبة المؤكّدات لا المؤسسات .

الاجتماع ركيزة الوجود

وركيزة الاجتماع في الإسلام ـ بعد كل أولئك ـ هي ركيزة الوجود والخلق ، فهم جميعاً مخلوقون من مصدر واحد ، ومن نفس واحدة ، وهم ـ معاً ـ متّجهون في سبيل واحد إلى غاية واحدة :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ 6.
﴿ ... إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ ... 6، هذا هو المصدر الواحد ، ﴿ ... مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ ... 6، و هذا هو النسب الواحد ، ﴿ ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... 6و هذه هي الغاية الواحدة . . إن الغاية هي التقوى ، وبلوغ درجة الكمال بها ، و السابق إلى الغاية التي من أجلها كان ، واليها سار ، هو المستوجب للكرامة عند الله الذي بيده المبدأ و المصير .

﴿ وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ 7.
و الخطاب في هذه الآية الكريمة مع الرسل الذين أرسلهم الله إلى مختلف الشعوب و القوميات .
ففي سابق الآية : ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ 8.
فالأمة الواحدة في الآية هي البشرية جمعاء .
و في سورة النساء : ﴿ ... يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا 9.
والأمة الواحدة ـ لوحدة مصدرها ووحدة نسبها ووحدة غايتها ـ لابدّ لها من وحدة في الاتجاه والتفكير ، و الا تفرّقت كلمتها ، وعمل في تمزيقها اختلاف الآراء ، ومن أجل ذلك كانت بعثة الأنبياء ( ع ) ، على مدار التاريخ بدين واحد ووجهة واحدة :
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ... 10.
اما الاختلاف بعد ذلك فمصدره هو البغي :
﴿ ... وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ... 10.

الأخوّة المؤمنة

واذا كانت الأمة واحدة في المصدر ، و واحدة في النسب ، و واحدة في السبيل ، وواحدة في الغاية ، و واحدة في النظام ، و واحدة في التفكير ، استحقّت صفة الأخوّة بين جميع افرادها .
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... 11.
و أية كلمة أدل على معنى التساوي الكامل والاشتراك في المبدأ و الغاية من كلمة ( إخوة )؟! .
بل واي كلمة تنقّي القلوب من حقدها وغلّها ، وتغذّيها بالحب والحنان والعطف مثل كلمة ( إخوة )؟! .
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... 11، وما أبعد الآفاق ، وأعمق الأغوار التي يرمي اليها هذا التعبير الكريم !! .
و ما أبلغها كلمة تجمع ـ على اختصارها ـ أسمى علاقات الاجتماع ، وأرقّ نظراته ، وأنبل خفقات الحب ، وأجمع معاني الاشتراك والمساواة!! .
و ما أبأسنا مجتمعاً تطرق هذه الكلمة أسماعنا فلا تجد طريقها إلى قلوبنا!! ولو كانت هذه النبرة من إيقاع غير الاسلام لأسكرتنا من الطرب ، وعزمنا على الشادي ان لاينتهي من النشيد؟! .
أليس كذلك ـ أيها الاعزاء ـ ؟ ، لنَقُلْها صريحة دون حذر أو مواربة .
إنه ضعف النفوس والقلوب ، وميلها مع البارق من اللألوان ، والجديد من الأزياء .
على هذه الأسس أقام الإسلام المجتمع ، أمّا حدوده فهي البشرية التي تمّحي فيها الفوارق من أقاليم وألوان ولغات ، وتندمج فيها الجوامع من اقتصاد ومصالح ، وأما صبغته فهي صبغة الايمان .
﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ 12.
واما نظامه فهي الشريعة التي لم يعرف المشترعون نظاماً في الدنيا يستطيع أن يقف معها على قدم .

التضامن الإجتماعي في الإسلام

و اما التضامن الاجتماعي فيه فيظهر في عدة مبادئ وضعها الإسلام لهذه الغاية .
يظهر في مبدأ وجوب القيام بالقسط على الأمة وعلى الأفراد ، وعلى رأسهم جميعاً حكومة الإسلام ، فلا يُظلم أحد ـ فرداً أو أمة ـ حقاً من حقوقه ، ولا يُبخس حظاً من حظوظه ، و لا يُعتدى عليه أو على شأن محترم من شؤونه ، بمنظر من المسلمين ـ أمة وأفراداً وحكومة ـ .
وعليهم أن يتّخذوا الأهبة ، ويعدّوا العدّة لردّ العادين وأخذ الظلامة ، وأخيراً لحسم الفتنة ، وإن كان المعتدي اباً أو أخاً أو قريباً ، بل وان كان المعتدي هو الفرد نفسه .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ 13.
و في سورة المائدة : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ 14.
أسمعتم ـ أيها الأعزة إن القيام لله بالقسط واجب ، حتى مع الأعداء ، فلا يحمل المسلمَ ـ عداؤه لأحد أن يوقعه في الجريمة فيرتكب معه ما يخالف العدل . وإن ألوى أو أعرض عن حكم الإسلام فلم يعدل ، فان رقابة الله محيطة به ، وجزاؤه الكامل مرصود له ( ( إن الله خبير بما تعلمون ) ) .
و في سورة الحجرات : ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ 15.
هكذا يعدّ الله المسلمين إعداداً كاملاً للقيام بالقسط ، ولحسم العدوان ، وقمع الفتنة ، وردّ الحقوق ، وأي مرتقى للتضامن الاجتماعي هو ابلغ من ذلك؟! .
ويظهر التضامن الاجتماعي في مبدأ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد أكد الإسلام على هذا المبدأ العظيم أشد التأكيد ، وأقام عليه نظام الإصلاح الفردي والاجتماعي العام ، وجعله فريضة من أهم الفرائض ، وعبادة من أسمى العبادات و القربات ، وتوعّد الإنسان على مخالفته أو التقصير فيه بالعقاب الشديد ، وجعل للمؤمن الولاية على أخيه في هذا السبيل . . يسدّده اذا أخطأ ، ويقوّمه اذا زاغ ، ويأخذ بيده اذا كبا ، ويهديه سبيل الرشاد إذا ضل . وينقذه من الهاوية اذا تورّط ، وشرّك الرجال والنساء في هذه المهمة :
﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ 16.
ويظهر التضامن الإجتماعي في مبدأ التعاون على البرّ والتقوى الذي قرّره بين المسلمين وذكره في عديد من الآيات وكثير من النصوص .
ويظهر التضامن الإجتماعي في مبدأ التواصي بالحق والتواصي بالصبر والثبات عليه ، الذي جعله من مقوّمات الإيمان ، ومن الشروط الأولى للنجاة من الخسر :
﴿ ... وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ 17.
ويظهر التضامن الاجتماعي في عدد كبير من مفردات الأحكام التي وضعتها شريعة الإسلام ، وهي منتشرة في أبواب الفقه ، و لا سيما في أبواب الضمانات والولايات .
و أتمنى لي ولكم الثبات على هذا الدين القويم و التواصي به و الدعوة اليه .
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ 18. و صدق الله العلي العظيم 19