الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

تنزيه سيدنا محمد عن مدح آلهة قريش

نص الشبهة: 

فإن قال فما معنى قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أو ليس قد روي في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رأى تولي قومه عنه شق عليه ما هم عليه من المباعدة والمنافرة، وتمنى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبينهم، وتمكن حب ذلك في قلبه، فلما أنزل الله تعالى عليه ﴿ ... وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ وتلاها عليهم، ألقى الشيطان على لسانه لما كان تمكن في نفسه من محبة مقاربتهم تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي، فلما سمعت قريش ذلك سرت به وأعجبهم ما زكى به آلهتهم، حتى انتهى إلى السجدة فسجد المؤمنون وسجد أيضا المشركون لما سمعوا من ذكر آلهتهم بما أعجبهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة فإنه كان شيخا كبيرا لا يستطيع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها ثم تفرق الناس من المسجد وقريش مسرورة بما سمعت. وأتى جبرائيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله معاتبا على ذلك، فحزن له حزنا شديدا. فأنزل الله تعالى عليه معزيا له ومسليا ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ... الآية.

الجواب: 

قلنا أما الآية فلا دلالة في ظاهرها على هذه الخرافة التي قصوها وليس يقتضي الظاهر إلا أحد أمرين، إما أن يريد بالتمني التلاوة كما قال حسان بن ثابت:
تمنى كتاب الله أول ليله *** وآخره لاقى حمام المقادر
أو أريد بالتمني تمني القلب. فإن أراد التلاوة، كان المراد من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه حرفوا عليه وزادوا فيما يقوله ونقصوا، كما فعلت اليهود في الكذب على نبيهم، فأضاف ذلك إلى الشيطان لأنه يقع بوسوسته وغروره. ثم بين أن الله تعالى يزيل ذلك ويدحضه بظهور حجته وينسخه ويحسم مادة الشبهة به. وإنما خرجت الآية على هذا الوجه مخرج التسلية له صلى الله عليه وآله لما كذب المشركون عليه، وأضافوا إلى تلاوته مدح آلهتهم ما لم يكن فيها.
وأن كان المراد تمني القلب، فالوجه في الآية إن الشيطان متى تمنى النبي عليه السلام بقلبه بعض ما يتمناه من الأمور، يوسوس إليه بالباطل ويحدثه بالمعاصي ويغريه بها ويدعوه إليها. وأن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان وعصيانه وترك إسماع غروره.
وأما الأحاديث المروية في هذا الباب فلا يلتفت إليها من حيث تضمنت ما قد نزهت العقول الرسل عليهم السلام عنه.
هذا لو لم يكن في أنفسها مطعونة ضعيفة عند أصحاب الحديث بما يستغني عن ذكره. وكيف يجيز ذلك على النبي صلى الله عليه وآله من يسمع الله تعالى يقول: ﴿ ... كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ... 1يعني القرآن.
وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ 2.
وقوله تعالى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَىٰ ﴾ 3. على أن من يجيز السهو على الأنبياء عليهم السلام يجب أن لا يجيز ما تضمنته هذه الرواية المنكرة لما فيها من غاية التنفير عن النبي صلى الله عليه وآله لأن الله تعالى قد جنب نبيه من الأمور الخارجة عن باب المعاصي، كالغلظة والفظاظة وقول الشعر وغير ذلك مما هو دون مدح الأصنام المعبودة دون الله تعالى.
على أنه لا يخلو صلى الله عليه وآله وحوشي مما قذف به من أن يكون تعمد ما حكوه، وفعله قاصدا أو فعله ساهيا ولا حاجة بنا إلى إبطال القصد في هذا الباب والعمد لظهوره، وإن كان فعله ساهيا فالساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقها، ثم لمعنى ما تقدمها من الكلام. لأنا نعلم ضرورة أن من كان ساهيا لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها وفي معنى البيت الذي تقدمه وعلى الوجه الذي يقتضيه فائدته، وهو مع ذلك يظن أنه من القصيدة التي ينشدها.
وهذا ظاهر في بطلان هذه الدعوى على النبي صلى الله عليه وآله على أن الموحى إليه من الله النازل بالوحي وتلاوة القرآن جبرائيل (ع)، وكيف يجوز السهو عليه. على أن بعض أهل العلم قد قال يمكن أن يكون وجه التباس الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما تلا هذه السورة في ناد غاص بأهله وكان أكثر الحاضرين من قريش المشركين، فانتهى إلى قوله تعالى:﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ ﴾ 4وعلم في قرب مكانه منه من قريش أنه سيورد بعدها ما يسوأهم به فيهن، قال كالمعارض له والراد عليه: (تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجي) فظن كثير ممن حضر أن ذلك من قوله صلى الله عليه وآله. واشتبه عليهم الأمر لأنهم كانوا يلغطون عند قراءته صلى الله عليه وآله، ويكثر كلامهم وضجاجهم طلبا لتغليطه وإخفاء قراءته. ويمكن أن يكون هذا أيضا في الصلاة، لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته عند الكعبة، ويسمعون قراءته ويلغون فيها.
وقيل أيضا أنه صلى الله عليه وآله كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات وأتى بكلام على سبيل الحجاج لهم، فلما تلا أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى قال تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى على سبيل الإنكار عليهم، وأن الأمر بخلاف ما ظنوه من ذلك. وليس يمتنع إن يكون هذا في الصلاة لأن الكلام في الصلاة حينئذ كان مباحا. وإنما نسخ من بعد، وقيل إن المراد بالغرانيق الملائكة.
وقد جاء مثل ذلك في بعض الحديث فتوهم المشركون أنه يريد آلهتهم. وقيل إن ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة فتلاه الرسول صلى الله عليه وآله، فلما ظن المشركون أن المراد به آلهتهم نسخت تلاوته.
وكل هذا يطابق ما ذكرناه من تأويل قوله: ﴿ ... إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ... 5لأن بغرور الشيطان ووسوسته أضيف إلى تلاوته صلى الله عليه وآله ما لم يرده بها. وكل هذا واضح بحمد الله تعالى 6.