الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

قصص القران

نص الشبهة: 

هناك مَن يرى مِن قَصَص القرآن ـ كلّها أو جُلّها ـ هي مشهورات عامّيّة استندها القرآن، لا اعترافاً بها، بل مَعْبَراً للوصول إلى غايته في الهداية والإرشاد، على طريقة الخطابة في البيان، وبعضهم أَجاز كونها تمثيلاتٍ مُجرَّدةً ؛ تقريباً للمطالب إلى الأذهان... ولعلّ هذا إفراط بشأن القرآن!
يقول مُحمّد أَحمد خلف اللّه: القرآن يجري في فنّه البياني على أساس ما كانت تعتقد العرب وتتخيّل، لا على ما هو الحقيقة العقليّة، ولا على ما هو الواقع العملي، فهو حينما يتحدّث عن الجنّ وعن عقيدة المشركين فيهم وأنّهم يستمعون إلى السماء ليعرفوا أَخبارَها ثُمّ يقومون بعد ذلك بإلقاء هذه الأَخبار على الكَهَنة، وكان الكَهَنة يَدّعون الإطِّلاع على الغيب ومعرفة الأسرار في كلّ ذلك يجري على هذا المذهب.

الجواب: 

جاء في الرازي عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ 1 ما يلي: (وأمّا تشبيه هذا الطَلع برؤوس الشياطين ففيه سؤال، لأنّه قيل إنّا ما رَأَينا رؤوس الشياطين، فكيف يُمكن تشبيه شيء بها؟ وأَجابوا عنه بوجوه:

الأوّل ـ وهو الصحيح ـ: (أنّ النّاس لمّا اعتقدوا في الملائكة كمال الفَضل في الصورة والسيرة، واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح والتشويه في الصورة والسِّيرة، فكما حَسُن التشبيه بالمَلَك عند تقرير الكمال والفضيلة في قوله: ﴿ ... إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ 2. فكذلك وجب أن يَحسُن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة) 3.
وجاء في الكشّاف عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿ ... لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ... 4 ما يأتي: (لا يقومون إذا بُعثوا من قبورهم إلاّ كما يَقوم الذي يَتخبّطه الشيطان أي المصروع، وتَخبُّط الشيطان مِن زَعمات العرب، يزعمون أنّ الشيطان يَخْبِط الإنسانَ فيُصرع، والخَبط: الضرب على غير استواء، كخَبْط العشواء، فوَرَد ما كانوا يعتقدون.
والمَسّ: الجنون، ورجل مَمسوس، وهذا أيضاً مِن زَعماتهم وأَنّ الجنّي يَمسّه فيَختلِط عقلُه، وكذلك جُنّ الرجل، ضربته الجنّ، ورأَيتهم لهم في الجنّ قَصَص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المُشاهَدات) 5.
يقول الأُستاذ خلف اللّه: يجري القرآن على هذا المَذهب الأدبي في محاولته هدم عقيدة المُشركينَ السابقة، وقد كانت تُعتَبر العَقَبة الأُولى في سبيل الدعوة الإسلاميّة لِما فيه من إتاحة الفُرصة للمشركينَ بأنْ يَدَّعوا أنّ مُحمّداً من الكُهّان وأنّ الذي يُطلِعُه على الغيب هم الشياطين وليس وحي السماء.
حارَبَ القرآن هذه الفِكرة، وحاربها تدريجيّاً وبأساليب مختلفة، فالجنّ كانت تَقعُد مَقاعد للسمع، ولكن الكواكب أصبحت رُجُوماً والشُهُب أصبحت رواصد ﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ﴾ 6، والجنّ تَخطِف الخَطفة حتّى بعد رسالة مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) وحتّى بعد أنْ حدثت المعجزة ومُنعت الجنّ من الاستراق ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ 7.
ذلك أُسلوب محاربة الفِكرة يوم أنْ كان سلطانها قويّاً وإيمانهم بها عنيفاً، ويوم أنْ كان القرآن في أَوّل عهده بهم.
ولكن حينما تقدّم الزمن وحينما استقرّ الأمر في البيئة واشتهر أَمر المعجزة وأخذ القوم يُصدِّقون بالرَجم، انتقل القرآن إلى أُسلوب آخر في محاربة الفِكرة، فادّعى أنّ الجنّ ما كانت تَعلم الغيب وأنّها لو كانت تَعلمه ما لَبِثت في العذاب بعد أنْ فارق سُليمان (عليه السلام) الحياة ﴿ ... فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ 8.
وأُسلوب المحاورة قد يُوقع بعض المُفسِّرين في إشكالات خاصّة، حينما يأخذون المسائل مأخذ الجدّ ويُحاولون البحث عن الأَجرام السماويّة وهل كانت موجودة قبل مُحمّد أو لم تكن؟ وإذا كانت فكيف جُعلت رُجُوماً؟ وهكذا إلى أنْ يَضِيقُوا هم أنفسهم بأمثال هذه المسائل، جاء في الرازي ما يلي:
يُروى أنّ السبب في ذلك أنّ الجنّ كانت تَتَسمّع لخبر السماء، فلمّا بُعِث مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) حَرَست السماء ورَصَدت الشياطينَ، فمَن جاء منهم مُستَرِقاً السمع رُمي بشِهاب فأَحرقه ؛ لئلاّ ينزل به إلى الأرض فيُلقيه إلى الناس فيَخلط على النبيّ أَمره ويرتاب الناسُ بخبرِهِ، فهذا هو السبب في انقضاض الشُهُب وهو المراد من قوله: ﴿ ... وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ... 9، ومِن الناس مَن طَعن في هذا من وجوه:
أحدها: أنّ انقضاض الكواكب مَذكور في كُتب القُدماء، قالوا: إنّ الأرض إذا سَخَنت بالشمس ارتفع منها بُخار يابس وإذا بلغ النارَ التي دون الفَلَك احترق بها، فتلك الشُعلة هي الشِهاب.
وثانيها: أنّ هؤلاء الجنّ كيف يجوز أنْ يُشاهِدوا الأُلوفَ منهم يَحترقون، ومع ذلك يَعودون لمِثل صنيعهم!
وثالثها: كيف يجوز خَرق ثُخن السماء إذا نَفَذوا، وإذا لم يَنفَذوا فكيف يستمعون إلى أَسرار السماء من ذلك البُعد البعيد؟ وكيف لا يَسمعون إلى كلام الملائكة وهم على الأرض؟
ورابعها: لِمَ لمْ يَسكت الملائكةُ عن ذِكر الأحوال المُستقبلة كي لا تتمكّن الجنّ من استماعها؟
وخامسها: أنّ الشياطين مَخلوقون من النار والنار لا تُحرق النار!
وسادسها: كيف جازَ تَداوَمَ القَذف بعد النبوّة وحتّى بعد وفاة النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) في حين أنّ الاستراق كان لأجل خَلطِ أَمر الوحي؟
وسابعها: أنّ هذه الرُجُوم تَحدث بالقُرب من الأرض ولو كانت قريبةً من فَلَك السماء لَما شاهَدنا حركتها!
وثامنها: لِمَ لم يَنقل الشياطين أَسرارَ المؤمنين إلى الكُفار، إذا كان يُمكنهم نقلَ أخبار الملائكة إلى الكَهَنة؟
وتاسعها: لِمّ لم يُمنَعُوا ابتداءً من الصعود إلى السماء حتّى لا يحتاج في دفعهم إلى قذف الشُهُب؟ 10.
لكن لو فَطَن الرازي من أَوّل الأمر إلى أنّ القرآن إنّما يُحارب هذه العقيدة ويُحاول هَدمَها بأُسلوبه الخاصّ، القائم على فِكرة التَدرُّج، وأنّ هذا التَدرُّج يشبه تماماً التَدرُّج في التشريع في مسألة مُحاربة الخَمر وغيرها، وأنّ النسخ في التشريع إنّما يُعلَّل بهذه الفكرة.
لو فَطَن الرازي إلى كلّ هذا لما أَتعب نفسَه وأَتعبَ غيره في هذه الوَقَفات الطويلة، ولقال بأنّ القرآن إنّما يَأخذ الناس بتصوّراتهم، وأنّه في هذا المَوقف قد سَلَّم بهذه العقيدة، لا لأنّها حقّ وصدق، وإنّما لأنّه يريد أنْ يَهدِمَها تدريجيّاً، فيُسلّم بها أَوّلاً ثُمّ يأخذ في هَدمها مُستعيناً بالزمن.
فقد اتّضح أنّ القرآن كان يأخذ الناس بتصوّراتهم بالعُرف والعادة، وأنّه كان يفعل هنا ما كان يَفعله في أُمور التشريع من أخْذ الناس بعاداتهم ومن تغيير هذه العادات تدريجيّاً، الأمر الذي مِن أجله كان النسخ في التشريع.
فقد وَضَح أنّ القرآن قد قصَّ في القَصَص التي كانت مَوطن الاختبار لمعرفة نبوّة النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وصِدق رسالته ما يعرفه أهلُ الكتاب عن التأريخ، لا ما هو الحق والواقع من التأريخ، وأنّه من هنا لا يجوز الاعتراض على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وعلى القرآن الكريم بأنّ هذه الأَقاصيص أَخطاء من أخطاء التأريخ!
وبعد فنُلِفت ذِهن القارئ إلى أنّه إذا وَضَح لديه الوضوح الكافي أنّ القصّة القرآنيّة قد قُصِد منها إلى التأريخ، فإنّه يتعيّن عليه أنْ يُؤمن بما جاء فيها على أنّه التأريخ، وذلك كتقرير القرآن لمسألة مَولد عيسى (عليه السلام) وتقريره إبراهيم (عليه السلام) وأنّه لم يكن يهوديّاً ولا نصرانيّاً.
أمّا تلك التي يُقصد منها إلى العِظة والعِبرة وإلى الهداية والإرشاد فإنّه لا يَلزم أنْ يكون ما فيها هو التأريخ، فقد تكون المعارف التأريخيّة عند العرب أو عند اليهود، وهذه المعارف لا تكون دائماً مُطابقة للحقِّ والواقع، واكتفاء القرآن بما هو المشهور المُتداول أمر أجازه النقد الأدبي وأجازته البلاغة العربيّة وجرى عليه كِبار الكُتّاب، ومِن هنا لا يصحّ أنْ يتوجّه اعتراض على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) أو على القرآن الكريم! 11.
* * *
وبعد فهذا الذي ارتآه الأُستاذ خلف الله، كان قد سَبَقه إلى ذلك الكاتب الشهير طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) والأُستاذ عليّ عبد الرزّاق في كتابه (الإسلام وأُصول الحُكم) وغيرهما حتّى أصبحَ ذلك من مِيزات الفكر الإسلامي الحديث، وربّما أَثار ضجّةً في الأوساط الدينيّة ولا يَزال، وأخيراً قام الأُستاذ خليل عبد الكريم بعرض وتحليل القَصَص القرآني بصورة نقد وتعليق على كتاب الفنّ القَصَصي في القرآن للأُستاذ خلف اللّه، وزاد عليه الكثير ممّا حَسِب أنّ خلف اللّه أَغفله! غير أنّه زاد في الطين بلّةً، يقول ـ مُعترِضاً على كلامه الأخير بشأن ما قَصَد من القصّة القرآنيّة إلى التأريخ ـ: إنّنا نقف مع خلف اللّه مليّاً عند القَصَص كالتأريخي ؛ إذ لمْ يُحدّد لنا المِعيار الذي انطلق منه لتحديد تأريخيّة القصّة:
هل هو ثبوتها في مُدوّنات التأريخ المُعتمدة؟
أم هل هو احتفاظ الشعوب في ذاكِرتها لوقائعها؟
وهل مجرّد وُرُودها في التوراة يُضفي عليها صفة التأريخيّة؟
لقد كان حريّاً به وهو بصدد كتابة بحث أَكاديمي أنْ يفعل ذلك، ولعلّ إغفاله ذِكر هذا المعيار هو الذي دَفَع به إلى إضفاء الصفة التأريخيّة على قَصَص ووقائع وأحداث في حين أنّها ليست كذلك، فنزاعُ ابني آدم وقَتلُ أحدهما الآخر وجَهْلُ القاتل بكيفيّة دفن جثّة أخيه المقتول هذا ليس تأريخاً، وإنّما هو أُدخل في باب الميثولوجيا (علم الأساطير)، ولهذه الأُحدوثة مَثيلات في عقائد العديد من الشعوب القديمة والبدائيّة الحاليّة، مِثل أُحدوثة الطُوفان والسفينة المُعجِبة التي أنقذت البشريّة من الانقراض!
وكذلك حكاية عاد وهود وهلاك القوم بالريح التي تَحمل العذاب الأليم، فهي مِن الفولكلور 12 (قِصَص شعبيّة) العربي القديم، وحتّى الآن يُضرب مَثلٌ للرسولِ (الوافد أو المندوب) المشؤوم بـ (وافد عاد)!
وتلحق بها قصّة صالح وثَمود، والناقة المُدهِشة التي تَشرب يوماً وكلّ سكّان القرية يوماً، وسدوم (مدائن لوط) التي ضَربها أَحد الزلازل، فنُسب إلى لعنة حاقتْ بهم مِن جَرّاء شُذُوذهم الجنسي ؛ تنفيراً مِن دُعاة الإصلاح لهذا العمل الخبيث، وكذلك قصّة أصحاب الكهف الذين لَبِثوا فيه أكثر من ثلاثة قُرون وهم يَغطّون في نومٍ عميق ويَنعمون بأحلام ورديّة دون أنْ يُصابوا بجُوع أو ظمأ ولا تتغيّر أجسامهم بمُضيّ القُرون، فلمّا استيقظوا ظنّوا أنّهم ناموا بِضع ساعات.
وكذا قصّة ذي القرنَين الذي غَزا البلاد ودوّخ السلاطين والمُلوك والأَقيال، وسار إلى الشرق حتّى وصل إلى حُدود بلاد يأجوج ومأجوج، فبنى سدّاً مَنيعاً بينه وبينهم، ومِن ضِمْنِ ما رَآه في رحلاته تلك: الشمس وهي تَغرب في عين حَمِئةٍ.
ومع ذلك يَذهب خلف اللّه إلى أنّ هاتَين الحكايتَين مِن صُلب التأريخ، فكلّ هذا مِن قَصَص الفولكلور الشعبي الذي كان يتناقله عربُ الجزيرة أو اليهود وكان معروفاً ومحفوظاً في عهد مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) ويُردّده الجميع، فكيف يعتبره خلف اللّه تأريخاً وكيف يَعدّ حَكاياه اللطيفة حيناً والمُرعِبة حيناً آخر تأريخاً؟
أمّا الأَوعر من ذلك فإنّه يَعتبر حكاية موسى وفرعون وخروج بني إسرائيل من مصر، وضرب ملأ فرعون بالجَراد والضَّفادع والقُمَّل والدّم، وتحدّي موسى للسَحَرة، وانقلاب العصا إلى حيّة وثعبان أو جان... إلخ، نقول إنّه يَعتبر كلّ هذه الحَكايا تأَريخاً، مع أنّه لا يُوجد في العالَم بلد أحرص على تدوين تأريخه كتابةً كمصر، وليس في التأريخ المصري شيء منها، ومع ذلك عَدّها المُؤلّف قَصصاً تأريخيّاً!
والأشدّ إثارةً للدَهشِ أنْ يَضفي صفة التأريخيّة على المُحاورة التي دارت بين المستضعفين والمستكبرين، ثُمّ بين هؤلاء الآخرين وبين الشيطان، أو على سؤال اللّه عيسى عمّا إذا كان قد طلب مِمّن تَبَعه أنْ يعبدوه هو وأُمّه؟
ويلحق به ما جاء على لسان اليهود أنّهم قتلوا المسيح رسول اللّه فبأيّ مقياس يُعدّ هذا تأريخاً؟
وهل يُمكن للقَصَص التي أوردنا أَمثلةً منها أنْ تنضوي تحت صفة التأريخيّة؟ وبقَدَر ما أَخفق المُؤلّف في إفضاء صفة التأريخيّة على هذه القَصَص، بقَدَر ما حالفَه التوفيق في القول بأنّها حقيقيّة بحسب اعتقاد المُخاطبَينَ بالقرآن المُعاصرينَ لمُحمّد!
فعرب الجزيرة آنذاك كانوا يُؤمنون بصحّة وقائع قَصَص عاد وهود وثَمود وصالح والناقة وآيات العذاب الأليم... إلخ.
واليهود يُؤمنون بصِدق قصّة موسى وفرعون وملأهِ والضَّفادع والقُمَّل والدّم والآيات المُفصّلات وموسى وشُعيب وانقلاب العِصيّ إلى حيّات وثعابين... إلخ وخروج بني إسرائيل وانشقاق البحر... إلخ وقبلها بقصّة ابني آدم وبالطوفان وبالسفينة الرائعة التي حفظت ذرّيّة آدم من الغَرَق... إلخ.
إذن كان الأَولى أنْ يَصف هذه القِصَص بأنّها الشعبيّة والقِصَص الدينيّة، ولا يغضّ هذا مِن قيمتها أو يُقلِّل من قَدَرها أو يُهوّن من مصداقيّتها أو يَنال من حقيقتها!
خلاصة القول: إنّ الكِسوة التأريخيّة التي حاول المؤلّف (خلف اللّه) أنْ يُدِّثر بها تلك القصص ليست مُلائمةً لها! 13.
* * *
ويَتلخّص هذا المَذهب (الذي وَسَموه باسم الفكر الإسلامي الحديث) في أنّ القرآن قد استخدم القصَص الشعبيّة وكذا القصَص الدينيّة الشائعة مَعبَراً للبُلوغ إلى أهدافه في تبليغ رسالة اللّه، ومن غير أنْ يكون ذلك اعترافاً بصحّتها أو إذعاناً بصِدقها، على طريقة فنّ الخطابة وعلى أساس الأخذ بالمَشهورات أو المَقبولات (لدى العامّة) ولو تمثيلاً ؛ ولتكون ذريعةً لتحقيق الغرض في الهداية والإرشاد، وكان ذلك يكفي تبريراً للاستناد إلى قضايا يعترف بها المُعاصِرون أو المُخاطَبون استناداً تمثيليّاً، وبذلك يَمكن التأثير عليهم في التبشير والإنذار!
إذن فالقرآن لا يَتحمّل عِبء مسؤوليّة القضايا المستند إليها، بعد أنْ كانت وسائط لإنجاز الهدف من دون أنْ تكون هي مقصودة بالإثبات، والغاية تُبرِّر الواسطة.
وبهذا التعليل حاولوا التخلّص من تَبِعات القول بتأريخيّة تلك الأحداث.
وحجّتهم في ذلك، والتي دَعَتهم إلى سلوك هذا المَسلك الوَعِر (حيث ارتكاب خلاف ظاهر التعبير!) ؛ أنّهم وجدوا أنفسهم في مأزق عن الإجابة الوافية لو تسالموا على واقعيّة تلك القَصَص والتي عليها صِبغة التمثيل في حُسبانهم!

ملحوظة

هنا ملاحظة خطيرة يَجدر التنبّه لها، هي أنّ أصحاب هذا الفِكر الحديث ـ حسب مصطلحهم ـ إنّما حَسِبوا حسابَهم حِفاظاً على كرامة القرآن وأنّه في آفاق عالية مِن السموِّ والرِفعة، ومن غير أنْ يتنازل مع رغبة الطامعين أو يَتَسافل حيث المذاهب العامّيّة الساقطة.
فإنْ كان القرآن يتمثّل بقصَص شعبيّة دارجة، فإنّ معناه مُجرّد التمثيل وإن كانت عناصره على أَساس التخيّل والتصوير، فإنّ هذا ليس بعيب، إنّما العيب فيما إذا رَضَخ لأَوهامٍ ساطية على الحقائق، لمجرّد أنّ العامّة تقبله وترضاه، الأمر الذي هو استرضاء مُتسافل مَقيت ويتحاشاه القرآن الكريم.
يقول الأُستاذ خليل عبد الكريم ـ ردّاً على مَن زَعَم أنّ القرآن إنّما صوَّر قصّة أصحاب الكهف طِبقاً لآراء أهل الكتاب، لغرض إثبات نبوّة مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، حيث كانت آراء اليهود هي المقياس الذي به يقيسون صِدق النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فلو نَزَل القرآن بغيرها أي بما يُخالف المقياس المَذكور لكَذَّبوا النبيّ ولَما آمنوا به أو بالقرآن الذي جاء به ـ يقول ردّاً على ذلك: وهل آمن اليهود برسوليّة مُحمّد وصدّقوه واتّبعوه، بعد أنْ جاءهم بصورة لِما يعرفه أهل الكتاب؟!
قال: أليس القول بأنّ مجيء القرآن مُطابقاً للصورة التي يَعلمها أهل الكتاب في خصوصيّة عدّة أصحاب الكهف ومدّة مكثهم، وذلك للتدليل على صدق نبوّة مُحمّد، أليس لهذا القول دلالته الصريحة أنّ معلومات أو معارف أهل الكتاب وحصراً وتحديداً اليهود، حاكم على القرآن؟! وبعبارة أوضح: أنّ القرآن رَضَخ لمقياس اليهود حتّى تَثبُت نبوّة مُحمّد ورسوليّته!! تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً!
هل ما قَالَه البعض من القُدامى وَوَافقه بعض المعاصرينَ، يتّفق مع رأي القرآن في اليهود؟ وكيف يُلائم ما جاء في القرآن، إنّ بشأن عدّة الفتية أو مدّة مكثهم بالكهف، تصوير معارف اليهود؟ وقد رَماهم القرآن بكلِّ خَسيسةٍ ودفعهم بكلِّ نقيصة، وأَوعر من هذا جميعه أنْ تكون المُطابقة لهذه المعارف هي مقياس صِدق مُحمّد وأنّه رسول يُوحى إليه من السماء!
إنّ المنطق والعقل لا يَقبلان ذلك ويرفضانه، فالشخص العاديّ يَشمئزّ من اتّخاذ قَالَة الكَذوب ميزاناً لصحّة كلامه، فما بالك باللّه تعالى جلّ جلاله! 14.

وَقفة فاحصة

غير أنّا لو اعتبرنا تلك القضايا بعين التحقيق وتعمّقنا النظر الدقيق، لرَأَيناها صورةً طِبق الواقع، لا وَهْم ولا مجرد تمثيل!
إنّ أكثر القضايا التي قصّها القرآن قد اكتُشفت آثارها وتبيّنت دلائلُ صدقِها بعد حين.
ولنبدأ بما ذَكره الأُستاذ خليل أخيراً بشأن قضايا إسرائيليّة ـ مصريّة، وأنّها لو صحّت لما أَهمل ذِكرها التأريخ المصري القديم: 15 قلت: كثير من أحداث مصر القديم لم يُسجِّلها التأريخ، بعد أنْ كان مهمّة التأريخ الأثري هو مجرّد وصف البَلاط المَلَكي وزَهو رجالات الحُكم ومُجونهم في البَذخ والتَرف والأفراح، ليس غير، أمّا الأوضاع الاجتماعيّة وما عليه سائر الناس من الأحوال والأوضاع، فهذا ممّا لا يَهتمّ به التأريخ القديم سِوى ما كانت له صِلة بأحوال المَلَك وحواشيه، فالتأريخ القديم إنّما هو تأريخ المُلوك، وليس تأريخ الأُمَم، على خلاف ما وَسَم الطبري تأريخه 16.
ومَثلاً لذلك نقول: كانت رحلة العبرانيّين (بني إسرائيل) إلى مصر أمراً لا يُنكر، في حين أنّه لم يأتِ ذِكر منها في تأريخ مصر القديم، وكذا موسى وهارون، فضلاً عن يوسف وإخوته ويعقوب، شيء لا يُمكن الغضّ عنه في تأريخ مصر، ومع ذلك لم يأتِ في كتابات مصر القديمة ولا إشارة إليه.
وهل نستطيع أنْ نَشطب على كثير من هذه القضايا ـ المَقطوع بصحّتها ـ بحجّة أنّها لم تُذكر في كتابات الأهرام؟ وهل يُمكننا الغضّ عن حادث خروج موسى ببني إسرائيل قاصداً أرض فلسطين؟ وقد عَبَر البحر إلى وادي سيناء مارّاً بمَضيقٍ من البحر الأحمر في منطقة قريبة من خليج السويس ولعلّه كان متّصلاً بالبُحيرة المُرّة وأصبحت أرضاً يابسةً وقد اتّخذها موسى مَعبَراً لقومه، والمَحلّ مشهور باسمه إلى الآن 17.
على أنّ إبراهيم وابنيه إسحاق وإسماعيل وكذا موسى وهارون ومِن بعدهما من أنبياء، مَلأَ بذِكرهم الآفاق، لم يَذكرهم التأريخ المُسجَّل، فهل يَصلح ذلك حجّةً للقول بكونهم رجال أساطير؟
هذا ذو القرنَين عُرف أخيراً أنّه (كورش) المَلِك الفارسي العظيم وجاء ذِكره في كُتب العهد القديم وهو الذي فتح بابل عام (538 ق م) وأَطلق سَراح بني إسرائيل من الأَسر وحَماهم وأسكن قسماً منهم في مدينة (شوش) تحت زَعامة (دانيال النبيّ) وسرّح الباقي إلى أرض فلسطين بزَعامة (عَزرا) ؛ ليُشيّد بناء الهيكل وإحياء آثار بني إسرائيل وتجديد بناء البيت المُقدس، وتَعهّد تكاليف عُمران تلك البلاد، وغير ذلك من أعمال خيرٍ قام بها على أساس بسط العدل في الأرض، وبِناء السد لحماية أقوامٍ مُستضعفين عن هَجمات قبائل وحشيّة، كان أحد آثار هذا العمل الخيري، وهذا شيء عَرفه الأوائل وعَثَر عليه أهلُ التحقيق مِن المُتأخّرين 18، ولا تزال الكُشوف الأثريّة تُطلِعُنا على غيوب من أَسرار هذا القَصَص القرآني والذي لم يُسجِّله التأريخ.
ومَواضع الغرابة في كلام هذا الكاتب المُسترسِل (خليل عبد الكريم) كثير سوف نُنبِئُك عليها، والآن وقبل كلّ شيء لابدّ من النظر في أهمّ نقاط ركّز عليها بحثه الحاضر:
أَوّلاً ـ كيف يَصف هذه القَصَص بأنّها من التُراث الشعبي والتي كان يَعرفها العرب المُعاصِر لمُحمّد، وبالأَحرى أنْ يكون مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) أَعرف بها من غيره... هذا في حين أنّ القرآن يُباريهم بأنّها من الآثار التي كان يَجهلها مُحمّد وقومه مِن قبلُ؟
هو عندما يَذكر قصّة نوح والطُوفان والسفينة بتفصيل وبيان، يَعود فيقول: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا ... 19، فلو كانت العرب تَعرِفها وتَعدُّها مِن تُراثها الشعبي الدارج، لكانت أَولى بالردِّ على هذا التحدّي الصارخ!
وكذا عندما ينتهي من قصّة يوسف وإخوته يقول: ﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ 20.
وهكذا بشأن الصدّيقة مريم وبُشرى الملائكة لها يقول: ﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ 21.
فلو كان أهلُ الكتاب يَعرفون التفاصيل المَرُوعة والتي جاءت في القرآن نقيّةً زاكيةً، لكانوا أَولى بمجابهته وهم أشدّ المناوئينَ للإسلام ولرسالة مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)!
لكنّهم (العرب واليهود والنصارى) عَرفوا الصِدق والأَمانة في القرآن، فلم يَلهجو بشيءٍ سِوى مناوئتِهِ عن طريق التواطؤ على العِداء الغاشم.
أَفهل مِن المَعقول أنْ يكون مُحمّدٌ قد أَخَذ تلك الأَقاصيص مِن أفواه العرب وأهلِ الكتاب وقَصّها عليهم، ثُمّ تَحدّاهم بها، وهؤلاء سَكتوا عليها من غير إجابةٍ صارمةٍ؟!
فما لكم ـ يا أَهلَ الفِكرة الإسلاميّة الحديثة!! ـ كيف تحكمون؟!
ثانياً ـ ما وجه الاستغراب أو الإنكار لصحّة تلك الأحداث التي قصّها القرآن؟ والتي دَعَت البعض (وهم أصحاب الإلحاد) إلى فَرْضِها مسرحيّات تمثيليّة، والبعض الآخر (وهم أهل الفِكرة الإسلاميّة الحديثة ـ أو العقل الإسلامي الحديث) إلى فَرْضِها التُراث الشعبي الرائج، أَفهل لا يَمكن صدق مصداقيّتها وأنّها أحداث تأريخيّة كانت قد قَبَعت في زوايا الجهل التأريخي وقد كَشَف القرآن عن وجهِها، حتّى ولو كانت غريبةً ـ نسبيّاً ـ في شكلها وهندامها؟ ولنَذكرها بتِباعٍ:

حديث ابني آدم!

أمّا حديث ابني آدم إذ قَرّبا قُرباناً فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر... فكان ذلك سبب قتل قابيل لهابيل... واحتارَ فيم يفعل بجّثة أخيه، حتّى هَداه الغُراب ليُواريه في التُراب... 22.
فهذا حديث وَصَفه اللّه بأنّه نبأٌ حقّ: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ... 23! فمِن الجُرأةِ على اللّه وعلى كتابه المجيد أنْ يُوصف بأنّه من الأساطير الشائعة في عقائد العديد من الشعوب القديمة والبدائيّة 24.
نعم هذا الحادث في شَكله هذا الترتيب، مِن عمل الفنّ التصويري في القرآن، فهناك في بدء الخَليقة وقع تَشاحن بين بني آدم وهم في بداية مرحلة الحياة الاجتماعيّة، والتي أَساسُها التعاون والتكافل في الحياة، دون التباغض والتباعد، لولا أنْ تتداركهم الهداية الربّانيّة الأمر الذي نبّه اللّه آدم وزوجه عليه حينما أَخَرجهما من الجنّة ليعيشا وذرّيّتهما على وجه الأرض، ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ 25.
قال سيد قطب، هذه القصّة تُقدِّم نَموذجاً لطبيعة الشرّ والعدوان، ونَموذجاً كذلك من الطيبة والوَداعة، وتَقِفهما وجهاً لوجه، كلّ منهما يتصرّف وِفق طبيعته...
واتلُ عليهم نبأَ هذَينِ النموذجَين مِن نماذج البشريّة، اتلُه عليهم بالحقّ، فهو حقّ وصِدق في روايته، وهو يُنبئ عن حقّ في الفِطرة البَشريّة، وهو يَحمل الحقّ في ضرورة الشريعة العادلة الرادعة.
إنّ ابني آدم هذَين ـ قبل كلّ شيء ـ هُما في موقفٍ لا يَثور فيه خاطرُ الاعتداء في نَفْسٍ طيّبةٍ، فهما في موقف طاعة بين يدي اللّه، موقف تقديم قُربان، يتقرّبان به إلى اللّه: ﴿ ... إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا ... 23﴿ ... فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ... 23، والفعل مبنيٌّ للمجهول ؛ ليُشير بِناؤُه هكذا إلى أنّ أَمر القَبول أو عدمه مَوكول إلى قوّة غيبيّة وإلى كيفيّة غيبيّة... إيحاءً بأنّ الذي قُبِل قُربانه لا جريرةَ له تُوجب الحفيظة عليه وتبييت قَتلِه، فالأَمر لم يكن له يدٌ فيه، وإنّما توَلَّته قوّة غيبيّة بكيفيّة غيبيّته، تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته... فما هناك مُبرِّر ليَحنَق الأخ على أخيه، وليَجيش خاطرُ القَتلِ في نفسه.
﴿ ... قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ... 23 وهكذا يبدو هذا القول ـ بهذا التأكيد المُنبئ عن الإصرار ـ نابياً مُثيراً للاستنكار ؛ لأنّه يَنبعث من غير مُوجب، أللهمّ إلاّ ذلك الشعور الخبيث المُنكَر، شعور الحسد الأعمى، الذي لا يَعمر نفساً طيّبة.
والسياق يَمضي ليزيد هذا الاعتداء نَكارَةً وبَشاعَةً بتصوير استجابة النَموذج الآخر، وَوَداعَتِه وطِيبَة قلبه: ﴿ ... قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 23، هكذا في براءةٍ تَردُّ الأمرَ إلى وضعِه وأصلِه، وفي إيمانٍ يُدرِك أسبابَ القَبول، وفي توجيهٍ رفيق للمُعتدي أنْ يتّقي اللّه، وهدايةٍ له إلى الطريق الذي يُؤدّي إلى القَبول، وتَعريضٍ لطيفٍ به لا يُصرِّح بما يَخدِشُه أو يَستَثيرُه.
ثُمّ يَمضي الأخ المُؤمن التقيّ الوديع المُسالم ليَكسر مِن شَرَهِ الشرّ الهائج في نَفْس أَخيه الشرِّير: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ 26.
وهكذا يَرتسم نَموذَج مِن الوَداعَة والسلام والتقوى، في أشدِّ المواقف استجاشةً للضمير الإنساني وحماسةً للمُعتَدى عليه ضدّ المُعتدي، وإعجاباً بهُدُوئه واطمئنانه أمام نُذُرِ الاعتِداء، وتقوى قلبه وخوفه مِن ربّ العالمين... 27... إلى آخر القصّة وهي حكاية عن تَقابُلِ نَموذَجَينِ مِن الطِّباع البشري مُنذ البِدء ولا يَزال، هُما في تَناحر وتَنازع، غير أنّ طابع الشرّ يَؤول لا مَحالة إلى الندمِ والخُسران في نهاية المَطاف.
ولا عَجَبَ إذ كان الطابعانِ قد تَمثّلا في ابني آدم يومذاك، كما هو جارٍ في ذراريهما عِبر العُصور، والعاقبة للمتّقين.

حديث الطُوفان والسفينة

أمّا حديث الطُوفان والسفينة ـ الذي زَعَمه الأُستاذ خليل أنّه حديث أَساطير ـ فلعلّه نَظَر إلى ما أَورَدَه المفسّرون مِن خُرافات إسرائيليّة، شوَّهوا بها وجه القرآن الوَضيء، وقد تَكلَّمنا عن الطُوفان وأنّه حادث مَحلّي عَمَّ السَهل الذي كان يَعيشه قومُ نوح، وليس كما فَرَضَته التوراة مِن شُمولِ وجه الأرض كلِّها... وعلى ما قَرَّرنا وشَهِدت له دلائلٌ مِن القرآن ودَعَمه التأريخ، لم يكن أَمثال هذا الحادث غريباً عن طبيعة المناخ، ولا سيّما في السُهول المُحاطة بمُرتَفعات تَهطُل منها السُّيُول الهائلة بين حين وآخر، ومنها حادث طُوفان نوح وقد تكلَّمنا عن ذلك بتفصيلٍ فراجع.

حديثُ عادٍ وثَمود وقومِ هود

وأمّا حكاية عادٍ وثَمود وقوم هود، والتي عدّها الأُستاذ من الفولكلور العربي القديم، فالذي يَجعلها مِن الفولكلور، هي الأساطير التي حِيكت حَولها في طُول المُدّة، وحَسَب العادة عند القصّاصينَ، حيث لا يُقنِعُهم نَقلُ الحوادث بخالصتها ما لم يُصوِّروها في أشكالٍ غريبة هائلة، لتقعَ موضع إعجاب السامعينَ كُلّما بالَغوا في تَهويل الأحداث وزادوا في غَرابتِها.
الأمر الذي نَجِدُه في قصّة إرم عاد، والتي قَصَّها أعرابيٌ مجهولٌ هو عبد اللّه بن قلابة على عهد معاوية، كان قد ذَهب في طَلبِ أباعرٍ له شَرَدَت، فبينما هو يَتيه في ابتغائِها إذ اطَّلَع على مدينة عظيمة لها سُور وأَبواب، فَدَخلها فوَجَدها مبنيّةً بِلِبْنٍ من ذَهَبٍ ولِبْنٍ من فضّةٍ، قُصورُها ودُورُها وبَساتينُها وأنّ حصباءَها لآلئ وجواهر، وتُرابها بَنادق المِسك، وأَنهارُها سارحةٌ وثِمارُها ساقطةٌ... إلخ. قال ابن كثير: هذا كلّه مِن خُرافات الإسرائيليّين مِن وَضْعِ بعضِ زنادقتِهم ؛ ليختبروا بذلك عُقول الجَهَلة من الناس.
قال: وهذه الحكاية لمْ تَصحّ ولو صَحَّ إسنادُها إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلقَ ذلك أو أصابَه نوعٌ مِن الهَوَس والخَبَال... وعلى أيّة حال فهذا ممّا يُقطع بعدم صحته 28.
أمّا الآيات من سورة الفجر: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ 29
فقد جَمَع اللّه في هذه الآيات القِصار مَصارع أقوى الجبّارينَ الّذين عَرَفهم التأريخ العربي القديم، مَصرع: (عاد إرم) وهي عاد الأُولى، وهُم مِن العَرب العارِبة أو البائدة 30 والتي أُبيدَت قَبل بُزوغ الإسلام، فكانوا ذلك العَهد حديثَ أمس الدابر وقد عفى عليهم الزمان ومحى جُلّ آثارهم.
وعادٌ جيلٌ من العرب كان مسكنهم بالأحقاف وهي كُثبان الرَّمل، في جنوبيّ الجزيرة بين حضرموت واليَمن، وكانوا بَدواً ذَوي خِيام تَقوم على عِمادٍ، وكانوا ذَوي قوّةٍ وبَطشٍ، وأَقوى قَبيلَةٍ في وقتها وأَميَزَها ﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾ 31 في ذلك الأَوان.
قال أبو جعفر الطبري: وأَشبه الأَقوال والذي دَلَّ عليه ظاهرُ التنزيل أنّهم كانوا أَهلَ عُمُد سيّارة ؛ لأنّ المعروف من كلام العرب مِن العِماد، ما عُمِد به الخِيام من الخَشب والسَّواري التي يُحمَل عليها البِناء، ولا يُعلم بِناء كان لهم بالعِماد بخبرٍ صحيحٍ، بل وجّه أَهلُ التأويل إلى أنّه عنى به طُولَ أَجسامهم، وبعضُهم إلى أنّه عنى به عِماد خِيامِهم، فأمّا عِماد البُنيان فلا يُعلم مِن أحد مِن أهل التأويل وجّهه إليه، وتأويل القرآن إنّما يُوجّه إلى الأَغلب الأَشهر مِن معانيه ما وُجِد إلى ذلك سبيل، دون الأَنكر 32.
وأمّا إِرم فقد قِيل: إنّها قبيلةٌ تَفرَّعت مِن قومِ عادٍ، كما يُقال: تميم نهشل.
قال أبو جعفر الطبري: وأَشبه الأقوال بالصواب عندي أنّها اسم قبيلة مِن عاد ؛ ولذلك جاءت القراءة بترك الإضافة، وهو رأي قتادة 33.
وَيَرى المُتأخّرونَ أنّ عاداً مِن القبائل الآراميّة ؛ ولذلك سُمّو: عاد إرم، والعرب يَضربون المَثَل بها في القِدَم 34.
غير أَنّ اللغويّين فسّروا الإرَم بالعَلَم يُبنى من الحجارة وجَمعُه آرام، قال ابن الأثير: الآرام، الأعلام، وهي حِجارة تُجمَع وتُنصَب في المَفازَةِ يُهتَدى بها، واحدها إرَم كعِنَب.
وكان من عادة الجاهليّة أنّهم إذا وَجَدوا شيئاً في طريقهم لا يُمكنهم استصحابه تركوا عليه حِجارةً يَعرفونه بها حتّى إذا عادوا أَخَذوه، وفي الحديث: (ما يُوجد في آرام الجاهليّة وَخَرِبِها فيه الخُمس) 35.
والعِماد: البِناء الرفيع، جَمعُه عَمَد وعُمُد، واحدته عِمادَة.
وعليه فيكون معنى الآية: أنّهم كانوا يَبنون أَعلاماً رفيعةً ضَخمَةً ؛ لغاية الصِيت والفَخار بحيث لم يَكد يُوجد لها مَثيل ذلك الأَوان.
وقد جاء التصريح بذلك في سورة الشعراء: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 36.
والرِّيع: المُرتَفع مِن الأرضِ، والظاهر أنّهم كانوا يَبنون فوقَ القِلال والمُرتفعات بِنايات ضَخمة رفيعة بحيث تَبدو للناظرِ من بُعْدٍ كأنّه علامة، وكان القَصد هو التَفاخُر والتَطاول بالمَقدِرة والمَهارة ؛ ومِن ثَمّ سمّاه عبثاً، ولو كان لهداية المَارّة ومعرفةِ الاتّجاه ما قال لهم: ﴿ ... تَعْبَثُونَ 37.
ويَبدو من قوله: ﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ 38 أنّ عاداً كانت قد بَلغت مِن الحضارة الصناعيّة مَبلَغاً يُذكر، حتّى لَتُتَّخذ المصانع لنَحتِ الجِبال وبِناء القُصور وتَشييد العلامات على المُرتفعات، وحتّى لَيَجول في خاطِرِ القوم أنّ هذه المصانع وما يُنشِئُونه بوساطتها من البِنايات والقِلاع سوف يكفي لحمايتهم في سبيل الخلود، ووقايتهم مِن مؤثِّرات الجوّ ومن غَارات الأعداء...
كما يبدو من ظاهر التعابير الواردة في الآيات أنّ قوم عاد كانوا حَضَّراً لا قبائل رُحَّلاً، فيما حَسبه الطبري وغيره مِن المُفسّرين، فقد كانت لهم مَباني ومَصانع وعيون وجنّات وأَعلام، وتلك مساكنهم كانت ظاهِرةً حتّى أَوان ظُهور الإسلام: ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ ... 39 .
أمّا مساكن عاد فبالأحقاف بين اليَمن وحضرموت كانت بمَرأى مِن العرب في رحلاتِهم الشتويّة إلى جنوبيّ الجزيرة، وكذا ثَمود كان مقامُها في الحَجَر المعروفة بمدائن صالح بين المدينة وتبوك، وقد قَطعَت الصخرَ وشيّدته قصوراً، كما نَحَتَت الجِبال ملاجئ ومَغارات وبَقيت مَشهودةً لدى العرب في رحلاتِهم الصيفيّة إلى شماليّ الجزيرة.
واقتران ذِكر ثَمود مع عادٍ فلكونِهما معاً مِن أَجيالِ العرب البائِدة، والباقيةِ آثارها حتّى حين وفي مُنتهى رحلتي الشِّتاء والصيف، على أنّ المُؤرِّخينَ ذَكَروا أنّ ثَمود كانت تَسكن جنوبيّ الجزيرة بجِوار قومِ عادٍ، فلمّا مَلَكَت حِمْيَر أَخرجوهم إلى تيماء الحجاز.
وذكر صاحب كتاب فُتوح الشام أنّ ثَمودَ مَلأَوا الأرض بين بُصْرَى وعَدَن! فلعلّها كانت في طريق هِجرتِها نحو الشمال، كما ذَكَر جرجي زيدان 40.
وفي دائرة المعارف المُتَرجَمة: (ثَمود قومٌ مِن العرب الأَقدمينَ بادوا قَبَل ظُهور النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) مَثَلُهم في ذلك مَثَل عاد...) 41.
قلت: يَبدو من ظاهر تعبير القرآن أنّ ثَمود كانوا قَريبي عَهدٍ بعادٍ ومسكنهم ـ قبل مغادرة البلاد ـ بقُرب مساكنهم وعلى معرفة من أحوالهم وما حلّ بهم من سوء العُقبى:
قال تعالى: ﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 42.
وقد عَثَر المُنقَّبون على كثيرٍ من آثارِ قوم ثَمود بديار حجر وبقايا وكِتابات غنّية بإثبات حضارة تلك الأقوام البائِدة 43 والتي ذَكَرها القرآن بإتقان، وليس أَخْذَاً مِن أفواه العرب من غير أساس، كما حسبه الأُستاذ خليل عبد الكريم وزملاؤه مِن أصحاب الفكر الإسلامي الحديث!

ناقة صالح!

أمّا ناقة صالح فقد جاء وَصْفُها في القرآن بأنّها معجزةٌ، صَاحَبَتْ دعوةَ صالح حين طَلَبَها قومُه للتصديق: ﴿ ... قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ... 44 وهكذا طَلَبت ثَمود تلك الخارِقة فاستجاب الله لعبده صالح وأَعطاه هذه الخارِقة في صورة ناقة، ولا يَذكر تفصيلاً عنها سِوى كونها بيّنةً من ربّهم وأنّها ناقة الله وفيها آية منه.
قال سيد قطب: ومِن هذا الإسناد نَستلهم أنّها كانت ناقةً غير عاديّة، أو أنّها أُخرِجت لهم إخراجاً غير عاديّ ممّا يَجعلها بيّنةً من ربّهم وممّا يجعل نَسْبتَها إلى الله ذات معنى، ويَجعلها آيةً على صدقِ نبوّته، ولا نَزيد على هذا شيئاً ممّا لم يَرِد ذِكره من أَمرها في هذا المصدر المُستَيقَن، قال: ولا وصِيغةُ الطَلبِ جاءت في سورة الشعراء ﴿ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 45.
نَخوض في وَصْفِها كما خاضَ المُفسّرون القُدامى ؛ لأنّه ليس لدينا سندٌ صحيحٌ نَعتمد عليه في هذا الوَصْف، فنكتفي بأنّها كانت خارِقةً كما طَلبت ثَمود 46.
نعم جاءت الإشارة إلى جانب خارِقيّتِها بشأن قِسْمَة الماء بينهم وبينها: ﴿ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ 47﴿ قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ 48 ، قال الحسن: كانت ناقةً من النُوق، وكان وجه الإعجاز فيها أنّها كانت تَشرب ماءَ الوادي كلّه في يومٍ 49، وهو ماء ٌمعيّنٌ كان مُخَصَّصاً للشُرب كما سَنَذكر.
هذا جُلّ وَصْفِ تلك الناقة الخارِقة حَسبما جاء إجماليّاً في هذا المَصدر الوثيق، أمّا كيف أُخرِجت الناقة، وكيف كان إرسالُها تأَكل في أرضِ الله بِلا أنْ تتعرّض لسوءٍ، وكيف كانت قِسْمَة الماء بينها وبين القوم، والماء لديهم كثير ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ 50.
قال الشيخ مُحمّد عَبده ـ ما مُلخّصه ـ: دلَّ مجموعُ الآيات على أنّ آيةَ الله في الناقة أنْ لا يَتعرّض لها أحدٌ مِن القَوم بسوءٍ في نفسها، ولا في أَكلها ولا في شُربها، وأنّ ماءَ ثَمود قِسْمَة بينهم وبين الناقة ؛ إذ كان الماءُ قليلاً، فكانوا يَشربونه يوماً وتَشربه هي يوماً، ورُوي أنّهم كانوا يَستعيضونَ عنه في يومِها بِدَرِّ لبنِها الوفير، وهي آية لهم!
ولعلّ الماء كان مُعيّناً خاصّاً لشُربهم دون سَقي الأرض والمواشي ؛ إذ ذُكِر في سورة القمر مُعرَّفاً بلام العهد: ﴿ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ... 51، وفي الحديث: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) دلَّ المسلمينَ على البِئر التي كانت تَشرب منها الناقة حين مَرّوا بديار ِقومِ صالح في غزوة تَبوك، وأَمَرهم أنْ يَستَقوا منها ويُهَرِيقوا ما استَقَوا من غيرها من تلك الآبار، قال العلماء: وقد عَلِمَها بالوحي 52.

حديث سدوم!

كان أهلُ سدوم وهم قومُ لوط ذَوي أَخلاقٍ رديئةٍ لا يَتَعفَّفون مِن مُنكَرٍ يَأتونه على رؤوس الأشهاد، كما قال تعالى على لسان لوط وهو يَعِظُهم ويُؤنِّبُهم: ﴿ ... وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ... 53 وقد شَاعتْ عنهم المُنكَرات وارتكاب الفواحش والمَظالم بحيث سارت بها الرُكبان وضُرِب بهم المَثَلُ في كلِّ عمل قبيح.
جاء في بعض كُتب الأدب العِبري: أنّ سارة زوج إبراهيم أَرسَلَت إلى لعازر كبير عبيد إبراهيم ليَأتيها بسلامة لوط، فلمّا دَخَل مدينةَ سدوم لَقيَه رجلٌ مِن أَهلها فَعَمَد إلى لعازر بحَجَرٍ ضَرَبه به في رأسه فأَسال منه الدّم، ثُمّ تَعلّق به الرجل قائلاً: إنّ هذا الدّم لو بَقيَ في بدنِك لأَضرّك، فقد نَفَعتُك بإخراجه، فأَعطني أَجري! فتَرافعا إلى القاضي فَحَكم على لعازر بإدانته الأَجر، فلمّا رأى لعازر ذلك من القاضي، عَمَدَ إلى حَجَرٍ فَضَرب به رأسَه وأسالَ دمَه وقال له: الأَجر الذي وَجَبَ لي عليك بإسالةِ دمِك، ادفَعه إلى ضاربي جزاءً لضربه إيّاي، وإلى ذلك يُشير المَعرّي:
وأَيُّ اِمرِئٍ في الناسِ أُلفيَ قاضِياً *** ولمْ يَمضِ أَحكاماً لِحُكمِ سَدوم 54
فلمّا أنْ طغى عِصيانُهم وجاوزوا الحدَّ أَخَذَهم العذابُ ودُمِّروا تَدميراً، سُنَّة الله جَرَت في الخَلق، وقد أَكّد عليه القرآن، وليس عن صدفة كما زَعَمه أصحاب الفكر الإسلامي الحديث! قال تعالى: ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ﴾ 55، ذَكَر ذلك تعالى بعد أَنّ قَصَّ حديثَ قومِ نوحٍ وعادٍ وثَمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مَديَن وفرعون وموسى ﴿ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَىٰ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ 56.
وتلك خرائب قُرى لوط (بأَرض فلسطين ـ على ضِفاف البحر الميّت) لم تَزَلْ مَشهودَةً للعرب المُعاصِر لنُزول القرآن في رحلاتهم إلى الشام صباحاً ومساءً ﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ﴾ 57  ﴿ وَبِاللَّيْلِ ... 58، يَرَوَن دِيارَهم التي عَفَت وأَضحت خَراباً يَباباً! أَلا فليَعتَبِروا ويَحذَروا أنْ يُصيبَهم مِثل ما أَصابهم، إنْ تَمادَوا في الغيّ والضَّلال البعيد!...59.