الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

أسس العلاقات في المجتمع الجديد

أسس العلاقات

ويذكر المؤرخون : أنه بعد مدة وجيزة من قدومه «صلى الله عليه وآله» المدينة ، وعلى رأي البعض : بعد خمسة أشهر 1 كتب «صلى الله عليه وآله» كتاباً أو وثيقة بينه وبين اليهود ، أقرهم فيها على دينهم وأموالهم ، واشترط عليهم : أن لا يعينوا عليه أحداً ، وإن دهم أمر فعليهم النصر ، كما أن على المسلمين ذلك في المقابل .

ولكن سرعان ما نقض اليهود العهد ، وعادوا إلى المكر والغدر ، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله .
ويلاحظ : أن الوثيقة المشار إليها لم تقتصر على تنظيم علاقات المسلمين مع غيرهم ، وإنما تعرض جانب كبير ـ بل هو الجانب الأكبر ـ منها إلى تقرير قواعد كلية ، وأسس عملية للعلاقات بين المسلمين أنفسهم ، كان لا بد منها لتلافي الأخطاء المحتملة قبل أن تقع .
فهذه الوثيقة بمثابة دستور عمل ، يتضمن أسس العلاقات في الدولة الناشئة ، سواء في الداخل أم في الخارج .
وهذه الوثيقة هي بحق من أهم الوثائق القانونية ، التي لا بد أن يدرسها علماء القانون والتشريع بدقة متناهية ، لاستخلاص الدلائل والأحكام منها ، وأيضاً لمعرفة الغايات التي يرمي إليها الإسلام ، والضوابط التي يرتضيها ، ومقارنتها بغيرها مما يتهالك المستضعفون ـ فكرياً ـ من هذه الأمة عليه ، من القوانين القاصرة عن تلبية الحاجات الفطرية وغيرها للإنسان . وإليك نص الوثيقة كما هو :

نص الوثيقة

قال ابن إسحاق : وكتب رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتاباً بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهود وعاهدهم ، وأقرهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم ، واشترط عليهم .
«بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد النبي «صلى الله عليه وآله» بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم ؛ فلحق بهم ، وجاهد معهم ، إنهم أمة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم 2 يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وبنو عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو ساعدة على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو الحارث على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو النجار على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو النبيت على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً 3 بينهم ، أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل .
وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة 4 ظلم ، أو إثم ، أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين .
وإن أيديهم عليه جميعاً ، ولو كان ولد أحدهم .
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن .
وإن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم .
وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس .
وإن من تبعنا من يهود ؛ فإن له النصر والأسوة ، غير مظلومين ، ولا متناصرين عليهم .
وإن سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم ، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً ، وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله .
وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه .
وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ، ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن .
وإنه من اعتبط 5 مؤمناً قتلاً عن بينة ، فإنه قود به ، إلا أن يرضى ولي المقتول ، وإن المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم إلا قيام عليه .
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر : أن ينصر محدثاً ، ولا يؤويه ، وإن من نصره أو آواه ؛ فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل .
وإنكم مهما اختلفتم في شيء ؛ فإن مرده إلى الله عز وجل ، وإلى محمد «صلى الله عليه وآله» .
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم ؛ فإنه لا يوتغ 6 إلا نفسه ، وأهل بيته .
وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بن عوف .
وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف .
وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف .
وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف .
وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ إلا نفسه ، وأهل بيته .
وإن جفنة ـ بطن من ثعلبة ـ كأنفسهم .
وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، وإن البر دون الإثم .
وإن موالي ثعلبة كأنفسهم .
وإن بطانة 7 يهود كأنفسهم .
وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد «صلى الله عليه وآله» .
وإنه لا ينحجز على ثار جرح ، وإنه من فتك فبنفسه فتك ، وأهل بيته ، إلا من ظلم ، وإن الله على أبر هذا 8 .
وإن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم .
وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة .
وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم .
وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وإن النصر للمظلوم .
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة .
وإن الجار كالنفس ، غير مضارٍ ولا آثم ، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها .
وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله عز وجل ، وإلى محمد «صلى الله عليه وآله» .
وإن الله على أتقى ما في هذا الصحيفة وأبره .
وإنه لا تجار قريش ، ولا من نصرها ، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب ، وإذا دعوا 9 إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فإنهم يصالحونه ويلبسونه ، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين ، إلا من حارب في الدين ، على كل أناس حصتهم 10 ، من جانبهم الذي قبلهم .
وإن يهود الأوس ، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة ، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة .
وإن البر دون الإثم ، لا يكسب كاسب إلا على نفسه ، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره ، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم .
وإنه من خرج آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة ، إلا من ظلم وأثم .
وإن الله جار لمن بر واتقى ، ومحمد رسول الله «صلى الله عليه وآله» (تمت الوثيقة)» 11 .
كانت تلك هي الوثيقة الهامة التي لم يهتم بشأنها المؤرخون ، وأهمل دراستها وتمحيصها الكتاب والباحثون ، نوجه إليها أنظار الطامحين إلى البحث والتدقيق والتمحيص ، ونأمل أن تحظى منهم بما يليق بها من اهتمام والله هو الموفق والمسدد .
ونحن بدورنا نسجل هنا بعض النقاط ، على أمل التوفيق لدراسة هذه الوثيقة بصورة أعمق وأدق وأشمل ، فنقول :

وثيقة أم وثائق ؟!

قد أورد المؤرخون هذه الوثيقة بعنوان أنها عقد ينظم العلاقة فيما بين المهاجرين والأنصار من جهة ، وبينهم وبين اليهود من جهة أخرى .
وقد حاول البعض أن يدَّعي : أنها ليست وثيقة واحدة ، وإنما هي عبارة عن سلسلة وثائق ومعاهدات منفصلة ، وقد ضم بعضها إلى بعض ، وإن ذلك جرى على مرحلتين :
إحداهما : تم بموجبها توحيد وتجميع العناصر المختلفة من القبائل العربية تحت قيادة الرسول «صلى الله عليه وآله» في المدينة .
الثانية : قد استغلت قوة هذا التجمع القبلي وتكاتفه للضغط على يهود المدينة لكسب تعاونهم في مواجهة أي ضغط خارجي .
وليس من الضروري أن يكون قد تم تنظيم الاتفاقيات في لحظة واحدة ، فقد كانت هناك أطوار مختلفة في المرحلتين ، اقتضت إضافة مواد وفقرات باستمرار ، حسب الظروف الطارئة ، والأحداث المستجدة ، التي تستلزم تجديد الالتزامات ؛ وفرض الشروط لمجابهتها ، فتكتب المواد ، وتضاف الفقرات ، التي تحمل آثار ذلك التطور في العلاقات فيما بين عناصر الأمة في المدينة .
أما دليلهم على هذا الذي ذكروه ، فهو تكرر بعض الفقرات في الوثيقة ، حيث لوحظ :
أن هذه الفقرات تنص على التزامات وشروط واحدة ، كالعبارتين اللتين تنصان على أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وكالعبارتين اللتين تنصان على رد أي خلاف ينجم بين المتعاهدين إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» .
وكذلك التكرار الحاصل لعبارة : إن البر دون الإثم .
وعبارة : كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، حيث تكررت بالنسبة لعدد من قبائل الأوس والخزرج 12 .
ونقول :
إن من الواضح : أن هذا الدليل لا يكفي لإثبات ما زعموه ، فإن هذا التكرار قد جاء ليؤكد ويثبت هذا الأمر بالنسبة إلى كل قبيلة على حدة ، حيث يطلب في المواثيق والمعاهدات التنصيص ، والدقة والصراحة ، حتى لا يبقى عذر لمعتذر ، ولا حيلة لمتطلب حيلة ، ويكون التصريح بذلك بالنسبة لكل طائفة وفئة ، وقبيلة ، قد أريد به أن تعرف تلك الفئة أو القبيلة بصراحة ودقة كل ما تطلبه هي ، وكل ما يطلب منها .
فهذه المعاهدة هي مجموعة التزامات تصدر من كل قبيلة تجاه غيرها من الفئات أو القبائل ، أو تجاه عناصر القبيلة أنفسهم ، فلا بد من التنصيص على هذه الالتزامات .
وعلى هذا يصبح للمعاهدة الواحدة خصوصية المعاهدات المتعددة أيضاً .
وأما بالنسبة لليهود المقصودين في هذه الوثيقة ، فإن من الجلي : أن المقصود بهم ليس اليهود الذين هم من أصل إسرائيل ، وهم : قينقاع ، والنضير ، وقريظة .
بل المقصود اليهود الذين هم من قبائل الأنصار ، فقد كان ثمة جماعة من قبائل الأنصار قد تهودوا ، وقد جاء ذكرهم في الوثيقة منسوبين إلى قبائلهم .
وقد قال ابن واضح : «وتهود قوم من الأوس والخزرج ، بعد خروجهم من اليمن ، لمجاورتهم يهود خيبر ، وقريظة ، والنضير ، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب ، وقوم من غسان ، وقوم من جذام» 13 .
كما أن بعض الروايات تذكر : جماعة من أولاد الأنصار قد تهودوا بسبب : أن المرأة من الأنصار كانت إذا لم يعش لها ولد تجعل على نفسها : إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير قال آباء أولئك : لا ندع أبناءنا ، وأنزل الله : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، قالوا : هي مخصوصة بهؤلاء الذين تهودوا قبل الإسلام 14 .

ملاحظات سريعة على الوثيقة

ومهما يكن من أمر : فإن هذه الوثيقة ، أو الوثائق ، قد تضمنت أموراً كثيرة هامة ، وأساسية في مجال بناء العلاقات في هذا المجتمع الجديد .
وكمثال على ذلك نشير هنا إلى ما يلي :
1 ـ إنها قد قررت : أن المسلمين أمة واحدة ، رغم اختلاف قبائلهم وانتماءاتهم ، وتفاوت مستوياتهم ، وحجم ونوع طموحاتهم ، ورغم اختلاف حالاتهم المعيشية ، والاجتماعية ، وغير ذلك .
ولهذا القرار أبعاده السياسية ، وله آثاره الحقوقية ، وغيرها .
ثم له آثار وانعكاسات على التكوين السياسي ، والاجتماعي ، وعلى الحالة النفسية ، والعاطفية ، والفكرية ، والمعيشية ، والحياتية بصورة عامة .
ولسنا هنا بصدد الخوض في تفاصيلها وجزئياتها .
2 ـ قد تضمنت إقرار المهاجرين من قريش على عاداتهم وسننهم في الديات والدماء .
ويقولون : إن ذلك قد نسخ فيما بعد ، وإن كنا نرى : أن النسخ لم يطل هذه الموارد ، وهي مما كان قد قرره عبد المطلب ، أو مما كان وصل إليهم أو بلغهم من دين الحنيفية .
ولهذا انحصر الاستثناء فيها ، ولم يشمل الحالات التجارية ، أو الأحوال الشخصية مثلاً .
وحتى لو كان ثمة بعض الموارد التي لم تكن كذلك ، فإن بالإمكان أن يستفاد منها موضوع التدرج في مجال تشريع الأحكام ، وفق الحالات والمعطيات القائمة في الواقع المعاش .
3 ـ إن مسؤولية المهاجرين عن فداء أسراهم ، ثم مسؤولية جميع القبائل عن فداء أسراها أيضاً بالقسط والمعروف ، إنما تعني أن تعيش كل قبيلة حالة التكافل ، والإحساس الجماعي ، بالإضافة إلى أن ذلك يضمن نوعاً من الترابط بين هؤلاء الناس ، والذب عن بعضهم ، والمعونة في مواقع الخطر وفي ساحات النزال .
أضف إلى ذلك : أن شعور المحارب بأن هناك من يهتم بأمره ، ومن هو ملزم ببذل المال لإطلاق سراحه في صورة وقوعه في الأسر ، لسوف يزيده نشاطاً ، وثقة بنفسه ، وإقداماً في منازلة العدو .
هذا كله : عدا أن العبء الاقتصادي إذا تحملته الجماعة الكثيرة ، فإنه يصبح أخف وأيسر ، وأبعد عن الإضرار بحال الناس الذين هم في متن المشكلة .
ويلاحظ هنا : التعبير بكلمة القسط والمعروف ، فإن كلمة القسط تدل على رفض أي حيف أو تجن في مجال تعديل وتوزيع الحصص على أفراد القبيلة .
أما كلمة المعروف ، فإنها تدل على ما هو أبعد من ذلك ، حيث لاحظت أنه لا بد من التزام سبيل المعروف في مجال تطبيق القرار ، أو الحكم الشرعي الذي يمس الآخرين ، ويعنيهم في شؤونهم المالية ، أو غيرها ؛ فلا يجوز الشذوذ عن هذا السبيل بحجة التمسك بحرفية الأوامر الصادرة ، أو القانون الساري .
4 ـ لقد قررت الوثيقة أيضاً : أن من كان عليه دين ، ولم يكن له عشيرة تعينه في فداء أسيره ، فعلى المسلمين إعانته في فداء ذلك الأسير .
وهذا قرار يهدف إلى سد الثغرة الحاصلة من تشريع الفداء على القبائل حسبما تقدم ، ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أن الفقرتين المتقدمتين قد عالجتا المشكلة في وقت لم يكن ثمة بيت مال للمسلمين يمكن الاعتماد عليه في حالات كهذه ، حيث كان ذلك في وقت لم يكن المسلمون قادرين فيه حتى على سد احتياجاتهم الشخصية فضلاً عن غيرها ، مع عدم وجود موارد أخرى يمكن الاستفادة منها في هذا المجال .
5 ـ وجاء في الوثيقة أيضاً : أن مسؤولية دفع الظلم تقع على عاتق الجميع ، ولا تختص بمن وقع عليه الظلم .
ولعل هذا من أهم القرارات التي تضمنتها الوثيقة ، سواء من حيث آثار قرار كهذا على البنية الاجتماعية ، ثم علاقة ذلك بالقرار والموقف السياسي ، وتعاطي الحكام مع مسألة الظلم ، وتفاعلهم معها ، ثم مع المردود الإيجابي أو السلبي لقرار يجعل مقاومة الظلم مسؤولية اجتماعية ، لا تنحصر بالحاكم ، وإن كانت قد تمس حاكميته وموقعه بصورة أو بأخرى في أحيان كثيرة .
أما التأثير الروحي أو النفسي أو غير ذلك لقرار كهذا على الأمة ، فهو أيضاً كبير وخطير ولا مجال للدخول في التفاصيل ، فإن ذلك يحتاج إلى دراسة مستوعبة لطبيعة التشريع الإسلامي ، وأسسه ومنطلقاته بصورة أدق وأعمق .
6 ـ وهناك القرار الذي ينص على عدم قود المسلم بالكافر ، وفي هذا تأكيد على أن شرف الإنسان إنما هو بالإسلام .
وذلك إنما ينطلق من مقولة : أن القيم والمثل التي يؤمن بها الفرد أو المجتمع ، هي التي تمنحه القيمة ، أو تسلبها عنه ، فإذا كان الإنسان المسلم هو الذي يحمل في داخله من تلك القيم ، ما تسمو به نفسه ، ويؤكد ويعمق فيه إنسانيته ، بما لها من معان سامية ونبيلة ، ثم هو يمارس إنسانيته هذه على صعيد الواقع والحركة ، فإنه لا يمكن أن يقاس به من لا يمارس إنسانيته ، أو لا يحمل في داخله منها إلا القليل أو لا يحمل شيئاً من معانيها النبيلة على الإطلاق .
هذا فضلاً عما إذا كان لا يعترف بها ولا يوليها أية قيمة ، فضلاً عن أن يدافع عنها ، ويضحي في سبيلها بالغالي وبالنفيس إن اقتضى الأمر ذلك .
7 ـ قد ذكرت الوثيقة : أنه يجير على المسلمين أدناهم ، ولا يجير كافر على مسلم .
وهذا يؤكد ما ذكرناه آنفاً ، فالإسلام لا يرى الشرف بالمال ، ولا بالقبيلة ، ولا بغير ذلك من أمور ، وإنما إنسانيته هي التي تعطيه القيمة .
ونزيد هنا : أن قراراً كهذا يرسخ الشعور بالمساواة فيما بين المسلمين ؛ فلا يمتاز غني على فقير ، ولا قوي على ضعيف ما دام الجميع قد حملوا في داخلهم معين القيم ، والمثل ، وما عليهم بعد ذلك إلا الاستفادة من هذا المعين الثر لينشر الخير والصلاح والفضل والتقى في جميع ربوع حياتهم ، وفي مختلف شؤونها .
8 ـ وقد تقرر أيضاً : أن لا ينصر المسلمون من أحدث وابتدع ، بل يجب عليهم مقاومته والتصدي له ولبدعته بكل صلابة وحزم .
وفي هذا تتجلى الأهمية البالغة التي يوليها الإسلام للسلامة الفكرية ، ويؤكد أهمية الصيانة في المجال الثقافي والعقيدي والفكري .
ثم هو يعطي للجماعة أو فقل للأمة دوراً في تحقيق هذه الصيانة ، ويؤكد على دور الناس جماعات وأفراداً في التصدي للانحراف ومقاومته ، قبل أن تعصف بهم رياحه أو يجرفهم تياره ، حيث إنه يستهدفهم أفراداً أولاً ، ليعبث بقدراتهم جماعات ، ثم يسخرهم ويستغل كل طاقاتهم في ترسيخ دعائمه ، وتثبيت عزائمه ، وليكونوا من ثم اليد التي يبطش بها ، والمعول الذي يهدم به كل فضيلة ويشيع كل رذيلة .
9 ـ في هذه الوثيقة أيضاً تكريس للسلطة الإسلامية واعتراف مسجل بها من قبل ألد أعدائها وهم اليهود ـ أعني الذين تهودوا من الأنصار وقد كان اليهود يعتبرون أنفسهم وحدهم دون كل من عداهم ، أصحاب كل الامتيازات ، وإن كل قرار يجب أن يكون صادراً عنهم ، ومنهم ، وإليهم ، فهم الحكام على الناس ، والناس كلهم يجب أن يكونوا تحت سلطتهم ، وقد خلقوا ليكونوا لهم خدماً كما يزعمون .
فقد قررت الوثيقة : أن لا يخرج أحد من اليهود إلا بإذن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأن الحاكمية إنما هي لدين الله ولرسول الله «صلى الله عليه وآله» لا لأحد سواه .
ولعل هذا القرار قد اتخذ أيضاً من أجل أن لا يفسح المجال أمام اليهود لممارسة دور الإفساد والجاسوسية من الداخل لصالح الأعداء المتربصين بالإسلام وبالمسلمين شراً من الخارج ، ومن أجل أن يؤكد لكل الناس الذين يعيشون معهم وحولهم : أن ثمة قوة لا بد من الاعتراف بها ، والتعامل معها بواقعية وموضوعية وصدق .
10 ـ وقد أكد ما ذكرناه آنفاً وعمَّقه ذلك القرار الذي اعترف به اليهود وسجلوه على أنفسهم ، والذي ينص على أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو المرجع الذي يتولى حل المشكلات ، التي تنشأ فيما بينهم وبين المسلمين .
ولسنا بحاجة إلى التذكير بما لهذه المادة من مدلول سياسي ، ومن أثر نفسي واجتماعي عليهم وعلى غيرهم ممن يعيشون في المدينة ، وكذا ما لهذا القرار من أثر كذلك على المنطقة بأسرها .
هذا ، وقد حفظ بذلك المضمون العقائدي ، وروعيت فيه الجهات الفقهية ، كما يظهر بأدنى تأمل في ذلك ، ويمكن بحث هذه النقطة بصورة مستقلة في مجال آخر .
11 ـ هذا كله ، عدا عن أن هذه الوثيقة قد ضمنت لمن تهود من الأنصار حقوقهم العامة ، وذلك من قبيل حق «الأمن» و «الحرية» بشرط ألا يفسدوا .
وهذان الحقان ولا سيما حق الحرية ، يؤكدان على أن الإسلام لا يخشى شيئاً إذا كان منطلقاً من الواقع وقائماً على أساس الحق والصدق ، ولكنه يخشى من الإفساد ، ومن الإفساد فقط .
وهذا يصب في اتجاه الإسلام إلى التأكيد على المعرفة ، والدعوة إلى العلم ، لأنه يرى أنه أول من يستفيد من العلم ومن المعرفة ، ومن إطلاق الحريات ، في خط البناء ، لا في خط الهدم والافساد .
12 ـ ثم تضمنت الوثيقة : اعترافاً من المنافقين والمشركين ، ومن اليهود أيضاً بأن المؤمنين على أحسن هدى وأقومه ، مع أن ما كان يشيعه هؤلاء الأعداء إنما هو : أن هذا النبي قد جاء ليفرق جماعاتهم ، ويسفه أحلامهم ، و . . و . . الخ . . كما ذكره عمرو بن العاص للنجاشي ملك الحبشة .
13 ـ وجاء فيها أيضاً قرار بإلغاء القبلية التي توجب على القبيلة الانتصار لأبنائها ، حتى ولو كانوا المعتدين على غيرهم ، والظالمين لهم .
حيث تقرر أن على جميع المؤمنين أن يلاحقوا القاتل ، من كان ، ومهما كان .
كما أن ذلك إنما يعني إلغاء سائر الاعتبارات التي تؤثر في هذا المجال ، من قبيل الرئاسات ، والزعامات ، أو نوع القبيلة ، التي يكون المجرم منها ، كما كان الحال فيما بين بني قريظة وبني النضير ، حيث كان الامتياز في ذلك لبني النضير على بني قريظة .
14 ـ ثم إن هذه الوثيقة قد أعطت للمسلمين الحق في التصدي لأخذ أموال قريش (وليس المشركين) ؛ لأن قريشاً هي التي سلبتهم أموالهم ، وأخرجتهم من ديارهم ، ليكون ذلك عوضاً عما أخذ منهم .
وقد اعترف لهم بهذا الحق حتى المشركون ، الذين هم طرف في هذه المعاهدة ، الأمر الذي جعل المشركين يشعرون : أنهم غير معنيين بما تتعرض له قريش في هذا السياق ، وجعل القضية تصب في الاتجاه الآخر بالنسبة إليهم ، ثم هو قد أعطى الجانب الإنساني قيمة وفاعلية في ضمير ووجدان الناس ، الذين فقدوا إحساسهم بهذه القيمة أو كادوا .
15 ـ ونلاحظ : أن هذه الوثيقة قد اعتمدت التعبير ب‍ «المؤمنين» بدل «المسلمين» .
ولهذا دلالاته على صعيد التعامل ، كما أن له إيحاءاته بالنسبة للمخلصين ، ليزدادوا خلوصاً وإخلاصاً أو بالنسبة للمنافقين الذين يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا أنفسهم ، كما أن له تأثيراته السياسية في مجال التمايز بين الفرق ، كي لا يكون ذلك من منطلق التعصب للدين والمذهب .
16 ـ وفي الوثيقة أيضاً : إظهار شرف الإيمان الذي أعطيت الامتيازات على أساسه ، واعتبار الكفر في درجة منحطة حينما قال : «أن لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن» .
17 ـ هذا إلى جانب التمايز الواضح فيما بين معسكري الكفر والإيمان ، وتكريس حالته .
18 ـ ويلاحظ : أن الوثيقة قد نصت على أن كل من يعترف بما في هذه الصحيفة لا يحق له نصر محدث ، ولا إيواؤه ، وهذا من شأنه أن يشيع الأمن العام ، ويجعل الناس يطمئنون نوعاً ما ، ويخفف من الخوف الذي كان سائداً بين الأوس والخزرج ، كما أن فيه إنذاراً مبطناً للآخرين من اليهود والمشركين الذين يعيشون مع المسلمين في بلد واحد .
19 ـ كما أن إظهار المسلمين أمام أعدائهم على أنهم قوة واحدة ومتماسكة ومتناصرة ، له أثر كبير في تكريس الهيبة لهم في النفوس ، وإبعاد الأطماع في أن ينفذ نافذ إلى المسلمين من خلال التلاعب بالعواطف القبلية أو سواها .
20 ـ ويلاحظ أخيراً : أن الوثيقة لم تعط للمشركين حقوقاً ، ولكنها فرضت عليهم قيوداً ، فليس للمشرك أن يجير مالاً لقريش ، ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن .
هذا ما أحببنا الإلماح إليه في هذه العجالة ، وثمة أمور كثيرة أخرى نأمل أن نوفق لدراستها في فرصة أخرى .

موادعة اليهود

وجاءت يهود قريظة ، والنضير ، وقينقاع ، وطلبوا الهدنة من رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فكتب لهم بذلك ، على أن لا يعينوا عليه أحداً ، ولا يتعرضوا لأحد من أصحابه بلسان ، ولا يد ، ولا بسلاح ، ولا بكراع ، في السر ، ولا في العلانية ، لا بليل ولا بنهار ، فإن فعلوا فرسول الله «صلى الله عليه وآله» في حل من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم ، وكتب لكل قبيلة كتاباً على حدة 15 .
ولكن اليهود عادوا بعد ذلك إلى الغدر والمكر ، كما سيأتي إن شاء الله ، مع علمهم بأنه النبي الحق ، كما تدل عليه تصريحاتهم المختلفة 16 .

  • 1. تاريخ الخميس ج1 ص353 .
  • 2. الربعة : الحال التي جاء الإسلام وهم عليها . والعاني : الأسير . والمعاقل : الديات .
  • 3. المفرح : المثقل بالدين والكثير العيال .
  • 4. الدسيعة : العظيمة .
  • 5. اعتبطه : قتله بلا جناية منه توجب قتله .
  • 6. يوتغ : يهلك .
  • 7. بطانة الرجل : خاصته وأهل بيته .
  • 8. أي على الرضا به .
  • 9. في رواية أبي عبيد في الأموال : وإذا دعوا اليهود إلى صلح حليف لهم ، فإنهم يصالحونه وإن دعونا إلى مثل ذلك ، فإن لهم ما على المؤمنين إلا من حارب الدين .
  • 10. في الأموال : وعلى كل أناس حصتهم من النفقة .
  • 11. سيرة ابن هشام ج2 ص147 ـ 150 ، والبداية والنهاية ج3 ص224 ـ 226 ، والأموال ص202 ـ 207 ، ومجموعة الوثائق السياسية وأشار إليه في مسند أحمد ج1 ص271 ، وأشار إليه أيضاً في مسند أبي يعلى ج4 ص366 و367 .
  • 12. راجع في الذي ذكرناه كتاب نشأة الدولة الإسلامية ص25 ـ27 .
  • 13. تاريخ اليعقوبي ج1 ص257 .
  • 14. راجع : السيرة الحلبية ج2 ص267 ، والجامع لأحكام القرآن ج3 ص280 عن أبي داود ، ولباب التأويل ج1 ص185 ، وفتح القدير ج5 ص275 عن أبي داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن ، والضياء في المختارة ؛ والدر المنثور ج1 ص328 عنهم وعن ابن مندة في غرائب شعبة ، وعن النحاس في ناسخه ، وعبد بن حميد ، وسعيد بن منصور .
  • 15. إعلام الورى ص69 ، والبحار ج19 ص110 و111 عنه ، والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص175 .
  • 16. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، 2005 م . ـ 1425 هـ . ق ، الجزء الخامس .