مجموع الأصوات: 72
نشر قبل 8 سنوات
القراءات: 7097

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

استراتيجية التقوى

﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ 1.
بكلمة واحدة يبين ربنا سبحانه وتعالى الغاية المقدسة من أداء فريضة الحج ، وهو هنا يلخصها بالحكمة العظمى ، حيث يقول : ﴿ ... وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ... 1.
إن رحلة الإنسان في هذه الحياة رحلة خطيرة ، نظراً إلى أنه كائن يختلف عن بقية الكائنات . فهو قد خلق قبل أن يولد من بطن أمه بآلاف السنين ، حيث خلق الله الأرواح قبل الأبدان ثم أسكنها الفضاء ، وأنه سبحانه وتعالى قد خلق أبناء آدم من طينة مختلفة ثم أودعها في صلب آدم أبي البشر ، ثم نشرهم في صورة الذرّ وأشهدهم على أنفسهم ، فاعترفوا لخالقهم بالربوبية والوحدانية ، ثم إنه أودع هذه الأجسام المتناهية في الصغر في الأصلاب والأرحام ، وهي لا تزال متنقّلةً من صلب إلى رحم ومن رحم إلى صلب ، حتى وصل الإنسان إلى هذه الحياة الدنيا . ثم إن الله أعلم كم من مرحلة سيطوي هذا المخلوق حتى يصل إلى مثواه الأبدي بعد يوم القيامة ، حيث الجنة أو النار .
أقول ؛ إن رحلة الإنسان الطويلة هذي ، كانت قدراً وقضاءً عليه ، وكان لابد له من اقتحامها . فهو لم يخلق كما خلقت الأشياء الأخرى ؛ من الحيوانات والنباتات والجمادات ، إنه سيلقى يوماً لا مفرّ منه ، وهو يوم القيامة ؛ يوم العدل المطلق ، حيث لا مناص له من مواجهته أو التملص عنه ، حيث لا ينفعه تمنّي العدم أو أن يكون تراباً .
إن الإنسان يواجه في مرحلة حياته عقبات وعقبات ، كهوى النفس ووساوس الشيطان ومصاعب وضغوط الحياة ؛ إنه أشبه ما يكون بريشة وسط الأعاصير ، ولابد له أن يحلّق إلى الأعلى ، أو يسقط في الحضيض .
ولا يمكن لهذا الإنسان المحاصر أن يحلّق دون أن يتزوّد ويتسلّح بزاد وسلاح التقوى ، لكي يثبت جدارته واستحقاقه للحياة وللوجود ، ومن ثم للخلود في النعيم .
فإن كنت ذا عقل وحكمة فتزوّد وتسلّح ؛ ليوم يقول فيه المنافقون والمنافقات للمؤمنين والمؤمنات : ﴿ ... انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ... 2. فالكلمات المجرّدة والأمنيات الواهية لن تنفع آنذاك .
إن العاقل من الناس عارفٌ بأنه سائر في هذا الطريق ، وبأنه لا زاد له إلاّ التقوى ، فهل يدعه إلى زادٍ آخر لا ينفعه ؟
وكان من طبيعة الإنسان أن يتهرب من الموت ، فإذا جاءه ليلاً تمنّى لو يؤخّر إلى الصباح ، وإذا جاءه صباحاً تمنّى لو يؤخر إلى الليل ، وذلك لأنه على نفسه بصيره ولو ألقى معاذيره . أما من كسر وحطّم هذا الحاجز الطبيعي من حوله ، فإنه لا يجد حرجاً في نفسه أن لا يهاب الموت ؛ بل وأبعد من ذلك ، حيث يتمنّى الموت لأنه أعدّ له العدّة اللازمة دونما خوف أو رهبة . فهو صادق مع نفسه ، واثق من ربه ، وبصير بحياته القادمة .

التقوى حاجة أبدية

إن الحديث عن ضرورة التزود بالتقوى ليس حديثاً مؤقّتاً ، ولا يختص بزمن دون آخر ، بل العكس من ذلك هو الصحيح تماماً ، وذلك لأن الإنسان منذ البداية وحتى النهاية معرض دوماً للوقوع في شراك الشيطان ، وللاستجابة لشهوات النفس الأمّارة بالسوء ، وللضياع بين أمواج الضغوط والمشاكل الاجتماعية الدائمة .
فالنتائج السلبية التي كان الإنسان غير ذي التقوى معرضّاً لها إذا ما انهار أمام الفتن في العصور السابقة ، هي نفسها ـ الضياع والانهيار ـ معرض لها إذا ما انهزم أمام الفتن في العصر الحاضر . . .
كنا في السابق بحاجة إلى التقوى لمواجهة الفتن ، واليوم نحن بحاجة أمسّ للتقوى ، وذلك لأن الفتن الراهنة ـ كالهجمات الثقافية العارمة ـ أكبر تأثيراً وأشد استفحالاً من سابقتها . فالوسائل أصبحت متعددة ، والنوايا من وراء استخدام التقنية المتفوّقة أكثر شراسة وعدوانية .
فنحن بحاجة شديدة للتقوى ، التي هي عبارة عن القدرة على التمييز بين الحلال والحرام ، والقدرة على تنمية هذه القدرة لترك الحرام والعمل بالواجب والحلال ، وذلك لمواجهة الانحراف والضلالات الفكرية العميقة التي حدثت بعيد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا زالت تحدث . فهذه السيول العارمة من النوايا والأفكار الشريرة الوافدة إلينا تضطرنا لمواجهتها ، ونحن عاجزون عن ذلك ما لم نتزوّد بالتقوى .
ولعل من جملة وسائل وأفكار الانحراف المذكورة هي التي تأخذ القوالب السياسية والثقافية والفنية ، والمنتشرة في وسط مجتمعاتنا ، بل وحتى الأفكار والاستراتيجيات الاقتصادية التي تمثل الشاخص في معاشنا اليومي .
ثم إننا يجب أن نعلم بأن البرامج الثقافية الموجهة إلى أدمغة أطفالنا وأشبالنا ليست وليدة العبث واللهو المجرّد ، وإنما هي نتاج لكبار الخبراء والمتخصصين في هذا المجال ممن تستخدمهم الجهات والمؤسسات الشيطانية الكبرى لغرض تضييع أجيالنا الشابة ، ومن ثم تمرير الأساليب والأهداف اليهودية والصليبية في بلداننا .
لقد نمنا وغفونا الغفوات تلو الغفوات حتى استيقضنا على صهيل المحطات الفضائية المعادية وشبكات الانترنيت التي تصدّر لنا كل ما من شأنه السيطرة على عقولنا ، إذا كان قد بقي لنا ثمة عقول !!
فإذا كان أعداؤنا يحاربوننا بالسيف والرمح ، فقد كنّا نواجههم بالدرع فيما سبق ، ولكنهم اليوم يحاربوننا بالصاروخ والصحافة والإفساد وتمييع الالتزام . . فبم سنحاربهم يا ترى ؟!
ومن أجل توضيح فكرة التقوى وأبعاد هذه الكلمة أقول مؤكداً : إن أحد أبرز وسائل التقوى هو وعي العقيدة والدين وعياً كافياً . فالدين القائم على أساس العواطف والأحاسيس ، دين لا قابلية له على الاستمرار والمواجهة . أما الدين الذي يعتمد كلام الله المجيد الذي يستوحيه ويطبقه الفكر السليم والإرادة الحرة ، هو الدين الذي بوسعه التحدث للناس عن الحياة والمستقبل . وهذا يعني ضرورة معرفة العقيدة والتبحر والاقتناع بها عن عقل ووعي وبرهان ، ليكون ذلك كله بمثابة الحصانة دون الردّة والانهيار والاستسلام أمام المشاريع المعادية .
أما الأساس الثاني في حقل تفعيل استراتيجية التقوى ، فهو اعتماد أصول التربية السليمة ، وأهمية معرفة الأم ـ بالدرجة الأولى ـ دورها الخطير في تنشئة الأطفال ، حيث لابد لها من أن تكون خبيرة بشأن المخاطر التي تحيق بهم وتقديم الغذاء التربوي والروحي في مقابل ما يمكن أن يتعرضوا له من غزو فكري وعاطفي إذا هي أهملتهم أو صبت جهدها كله في إطار توفير الطعام والملبس لهم ، حيث تكون بذلك قد ضيعتهم وضيعت نفسها معهم .
أما الأساس الثالث في هذا الإطار فهو توفير المزيد من الخبرة ومحاولة الإحاطة بعلم الحياة ، وما تتطلبه هذه الأخيرة من الاهتمام بالصراع الدائر بين قوى الخير وقوى الشر . فانتصار قوى الحق على قوى الباطل يستدعي إعداد العدة الكافية في ساحات المواجهة ، فضلاً عن أهمية استقرار المستقبل لتفادي الوقوع في الأخطاء ومن ثم التعرض للهزائم .
والأساس الرابع هو التخلق بالأخلاق الحميدة ، انطلاقاً من الآية القرآنية القائلة : ﴿ ... رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... 3. والأخلاق التي نقصدها ليست سوى الاهتمام العملي بكل صغيرة وكبيرة لدى السلوك اليومي ، وعلى كافة الأصعدة ، كأسلوب المعاشرة وأسلوب الحوار وطرح الأفكار ، وتحقق قاعدة وأصل سعة الصدر واحترام حق الآخرين في التعبير ، ورفض الأنانية وحب الذات أو تفضيلها على الغير 4 .