الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الإيمان والبواعث الحضارية

﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ 1 .
ما هي العلاقة المثلى بين الدنيا والآخرة ؟ وكيف يجب على الإنسان المؤمن أن يجعل إيمانه بالآخرة متصلاً بحركته بالدنيا ، وحركته بالدنيا مرتبطة بإيمانه بالآخرة ؟
إن الناس حيال هذا الأمر على عدة أقسام ؛ ففريق منهم يفصل بين الأمرين ؛ بين حياته في الدنيا وحقيقة الآخرة ، فتراه ـ مثلاً ـ حينما يدخل المسجد يجد نفسه في روضة من رياض الجنة وفي رحاب الآخرة ، فهو يتعبد ويذكر اللَّه كثيراً ويلجأ إلى اللَّه ليخلصه من عذاب نار جهنم ، إلا أنه سرعان ما تتغير سلوكياته وتوجهاته القلبية بخروجه من المسجد وهو يذهب إلى خضم الحياة . . إلى السوق . . المعمل . . المدرسة . . ، فيتحول ـ نعوذ باللَّه ـ إلى إنسان ماكر وكائد ، يلهث ‏وراء زخرف الحياة الدنيا ، ناسياً حينها أحكام الشريعة وقيم السماء السامية . . إنه يدخل إلى الحياة الدنيا دون أن يلزم‏نفسه برادع أو كابح .

وفريق آخر من الناس ، تجده يترك الدنيا ويتجه إلى الآخرة ، ويزعم أنه لو وجد صومعة في أعلى جبل وترهبن فيها ذاكراً وصائماً ، قائماً وقاعداً ، متوجهاً إلى البارئ تعالى ، فإن هذا العمل سوف يقربه إلى اللَّه سبحانه ويحصل على السعادة الحقيقية .
والفريق الثالث تلحظه تاركاً الآخرة مطلقاً ، فهو لا يرى حتى باب المسجد ، وقد وضع القيم وآيات الكتاب المجيد وراء ظهره ، فيهرب من ( قيود ) قيم السماء كهروبه من الأسد .
إن هذه الفرق والأقسام الثلاثة من الناس كلهم سوف يكونون إدام النار وحطب نار جهنم ؛ فالذي يترك أهله ومجتمعه‏ جائعين ويدع أمته عرضة لصولات وجولات العدو المستكبر ، ويلتجئ إلى كهف أو صومعة أو . . مثل هذا الإنسان‏ يكون أقرب إلى عدم التقيد والالتزام بحقائق القيم السماوية وإن تمسك وتنسّك بظاهرها وقشورها .
إن اللَّه سبحانه فرض على الناس واجبات وفرائض ، كالجهاد والكد على العيال ، كما أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن‏المنكر . . وهذه الفرائض هي من صميم القيم الإلهية التي سنّها سبحانه لتحقيق سعادة الناس في الدنيا والآخرة معاً .
وفي هذا المجال يروى أن الإمام الحسين‏ عليه السلام لدى خروجه إلى كربلاء دعا بعض أهل المدينة للحاق به والوقوف أمام‏ ظلم وفساد يزيد وبني أمية ، فأجابه قائلاً : إن صلاة ركعتين في مسجد النبي أثوب عندي من أن أخرج معك !؟ . . إن هذا الكلام بعيد عن روح الدين وحقائق الواقع ، لأن هذه الأماكن المقدسة كمسجد النبي والكعبة المشرفة ، لم تسلم أيضاً من‏ جرائم و بطش يزيد و زبانيته حينما اعتدت جيوش يزيد على الكعبة المشرفة ورشقوها بالمنجنيق فأخذ الدم يسيل في‏داخل المسجد الحرام ، وانتهكت أعراض المؤمنين والمؤمنات في مدينة الرسول ، حتى لم تسلم بنت في هذه المدينة حينها من الاعتداء الجنسي!
إن هذا الشخص وأمثاله يتصورون أن مجرد الانصراف لأداء بعض الركعات سوف يضفي قدسيةً على الدين وقيمه ، إنه‏وأمثاله ترك حمل السلاح وجعل فريضة الجهاد وراء ظهره متصوراً أن ذلك سوف ينجيه من نار جهنم .

التدافع سنة إلهية

إن اللَّه سبحانه وتعالى يؤكد في كتابه الكريم على حقيقة ( التدافع‏ ) كسنة إلهية ، فيقول : ﴿ ... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 2 . إن المساجد بحاجة إلى رجال يدافعون عن حريمها وحرمتها ، فاللجوء إلى قمة جبل والانشغال بالعبادة وترك المجتمع يتضور جوعاً ويتعرض إلى الجهل والاستعباد ، إن هذا العمل ليس له قيمة عند اللَّه سبحانه .
وقد روي أنه لما توفي ابنٌ لعثمان بن مظعون فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجداً يتعبد فيه ، فبلغ ذلك رسول ‏اللَّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه فقال له: ( يا عثمان ؛ ان اللَّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية ، إنما رهبانة أمتي‏ الجهاد في سبيل اللَّه . . ) 3 ، وقال‏ صلى الله عليه وآله وسلم: ( سياحة أمتي الجهاد ) 4 ، فالدين الذين لا يتدخل في‏ الشؤون الاجتماعية والسياسية للمجتمع لا يمكن أن يحقق أهدافه المرجوة ، حتى النبي عيسى‏ عليه السلام لم يكن ديدنه ـ كما يتصور البعض خطأ ـ الرهبنة وترك الدنيا ، بل إنها ﴿ ... وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ... 5 .
إن الرهبانية التي يراها الرسول الأكرم‏ صلى الله عليه وآله وسلم هي التوكل على اللَّه والدفاع المستميت عن قيم السماء ، عبر الجهاد في سبيل‏ اللَّه ومقاومة الظلم ومحاربة الأعداء . وهذا هو المعنى الحقيقي للرهبنة التي يقول فيها الرسول‏ صلى الله عليه وآله وسلم: ( رهبانية أمتي الجهاد ) . . أي أن قيمة التسامي والتقرب إلى اللَّه تكمن في جوهر التصدي لقيم الزيف والزيغ والباطل ؛ بل‏ حتى سياحة الإنسان المؤمن وفرحه واُنسه تكمن في الذود عن حريم الرسالة والدفاع عن حقوق المقهورين‏ والمضطهدين .

ممارسات قشرية

إن هذا الفريق الذي يترك الدنيا ويتعبد بقشور الدين هارباً من لباب الدين وجوهره ومغزاه ، هو أبعد ما يكون عن‏ منهجية وسيرة الرسول الأكرم‏ صلى الله عليه وآله وسلم ، وأهل بيته الأطهار الذين كانت حياتهم كلها تحدٍّ وتصدٍّ لأسباب الظلم والتعسف ،حتى نالوا جميعاً وسام الشهادة ، فتقربوا واختصروا الطريق الى اللَّه سبحانه وتعالى .
أما الفريق الثاني الذي يفصل بين الدنيا والآخرة ؛ فهو شعاره ( ما للَّه للَّه ، وما لقيصر لقيصر ) و ( ما للمسجد للمسجد ، وما للسوق للسوق‏ ) هذا التوجه وطريقة التفكير تصنع من المرء رجلاً ازدواجياً و مصلحياً يلهث وراء شهواته ليلتهمها ، ثم يلجأ الى المسجد وأداء بعض قشور العبادات ليغطي على سوءاته ، إنه يقول لك: انظر في‏ المسجد ماذا يقول لك الخطيب ، انظر الى إمام الجماعة كيف يركع ويسجد ويقوم ، افعل كما يفعل الإمام ، ولكن في السوق‏ انظر ماذا تقول لك ( البورصة ) ، وما الذي ينفعك فادخل فيه ، ولا شأن لك بغير ذلك . إنه لا يهمه من صفقته ‏التجارية فيما لو أضرّت باقتصاد البلد والمجتمع ، إنه يتصور كأن السوق لا يحكمه قانون اللَّه .
إن اللَّه سبحانه لا يتقبل صلاة هذا الفريق فكيف بسوقه وتجارته ، فالذي يصلي في المسجد ونيته الخروج منه لزرع‏ الفساد والظلم في الأرض ، هذا من الذين لا تقبل أعمالهم العبادية الظاهرية ، لأن اللَّه سبحانه يقول : ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ 6 فصلاة هذا الفريق لا قيمة لها ، لأنها لا تنهى عن الفحشاء والمنكر .
أما الفريق الثالث الذي يخوض في الدنيا مع الخائضين ولا يهتم بالمسجد ولا بالأحكام والقيم الشرعية والإلهية ؛ فهو الآخر سوف يؤول مصيره إلى نار جهنم ، لأنه لا يهتم في الدنيا إلاّ بما يرضي شهواته وغرائزه الحيوانية الزائلة .
يبقى الفريق الرابع من الناس ، وهو الفريق الذي ينجو من نار جهنم ويضمن سعادة الدارين ، هو ذلك الذي يجعل الدنيا مزرعة لآخرته ، وتصبح الآخرة هدف الدنيا بالنسبة له ؛ بل يرى الحياة كلها بأبعادها وجوانبها المختلفة والمتعددة في‏محضر اللَّه سبحانه . . ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 7 . . إنه لا يفرق في كل حركة يقدم عليها بين الدنيا والآخرة ، فهو يتحرك في الدنيا ببواعث الآخرة ، وهذا الفريق من الناس هو الذي يسلك الطريق السليم والقويم الذي يشير إليه سبحانه في سورة ( التين‏ ) ، والتي تصور هذه السورة المباركة معالم الحضارة الإلهية التي يبعث فيها الإنسان روح التحرك والفاعلية . . ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ 8 إنه سبحانه وتعالى يشير إلى المادة الحيوية والغذائية التي تنفع جسم الإنسان وتغذّيه وتطعمه ليتمكن ‏بسببها من بناء معالم الحضارة الإلهية على الأرض . فالتين فهو من الفواكه الطيبة التي تقضي على كثير من الأمراض ، كداء ( النقرص‏ ) أو يصطلح عليه بـ ( داء الملوك‏ ) والذي أصبح اليوم داء شائع بين الناس ، فهو ينظم حركة الدم في جسم الإنسان . وكذلك ( الزيتون‏ ) والذي يعتبر غذاءً وإداماً مقوياً لجسم الإنسان ، وإن‏ زيته مفيد للجسم دون إحداث مضاعفات ، فزيت الزيتون لا يضر بكبد الإنسان ، كما تضر الدهونات الأخرى ، فلذا ينصح الأطباء المرضى أو المصابين بارتفاع في نسبة ( الكلسترول‏ ) في الدم إلى تناول زيت الزيتون .

معالم الحضارة الإلهية

إذاً ، فالتين دواء والزيتون غذاء . . ﴿ وَطُورِ سِينِينَ 9 أي ذلك الجبل المتوسط الذي انتشرت على روابيه أشجار الزيتون ، لتشكل هذا المنظر الجميل الذي يوحي إلى اعتدال الهواء فيه ، لأن الزيتون لا ينمو إلاّ في المناخ المعتدل . . ﴿ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ 10 . . هو ذلك التجمع الإنساني الحضاري المتكامل الذي يكتنفه عنصر الأمن .
إن الأمن من العناصر الحياتية الضرورية التي تحتاجه كافة الكائنات الحية وبالذات الحياة البشرية ، فلو كانت لنا حضارة متقدمة وراقية ولكن ليس فيها أمن ، فما فائدة تلك الحضارة وصرحها الشامخ ؟ فلو قالوا لك مثلاً ؛ هناك قصر منيف جداً ولكن فيه ( جن‏ ) ، فحتى لو باعوه لك مجاناً ، فهل على استعداد لتسكن فيه ؟!
نتذكر أن أيام القصف الصدامي على عاصمة الجمهورية الإسلامية وبسبب توالي الصواريخ كان الناس يخرجون من‏ المدينة ويتركون وراء ظهورهم البيوت الكبيرة والقصور والشوارع و . . ويلجؤون إلى القرى والفيافي بحثاً عن الأمان!
إذن ، فاللَّه سبحانه هيأ للإنسان الفاكهة وهيأ له الإدام المناسب ، ووفر له الموقع الحصين والجميل والرابية الخضراء ﴿ وَطُورِ سِينِينَ 9 ومنحه الأمن والتعاون . . فكل هذه هي آلاء ونعم إلهية يقسم اللَّه تعالى بها بعد أن وفرها جميعاً لمصلحة الإنسان . . ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ 11 ، هذا الإنسان الذي يستطيع أن يحرث ‏الأرض ويستنبتها ويطعم نفسه بالتين والزيتون الذي يحافظ على أمنه وأمانه من أسباب الخوف والرعب كالزلازل‏ والحروب ؛ إن هذا الإنسان خلقه سبحانه وتعالى خلقة قويمة ومتكاملة لا يعتريها نقص ولا يشوبها عوز ، لقد منح‏ بالعقل الذي هو قوام التطور والانطلاق لتشييد صرح حضارته البشرية ، فهو يمتاز عن كافة الكائنات الحية الأخرى‏ بالقدرة على التفكير وتطوير الأساليب والوسائل العملية والتعاون مع الآخرين لبناء مدنيته ، وهذا مالم ولن تقدر عليه ‏الحيوانات .

بين قوام الإنسان و تسافله‏

ولكن نفس هذا الإنسان القويم والمتكامل ، بإمكانه ـ بين عشية وضحاها ـ أن ينزل إلى مستوى حتى دون مستوى‏ الوحوش الكاسرة ، فتراه يختلف مع زميله فيتراشق وإياه بالكلمات والاتهامات ، فيتحول إلى نزاع ، ثم إلى معركة يستنجد بها كل طرف بقبيلته أو جماعته ، فتشتعل الحرب الضارية بين الطرفين ، فتحيل الحضارة والمدنية التي شيدها إلى‏ أنقاض ورماد . هذا الإنسان هو الذي يخرب بيته بيده فيتسافل بعد أن خلقه اللَّه سبحانه وتعالى عظيم الشأن والمنزلة إلى مرتبة أدنى من مرتبة ومقام الحيوانات ، لأن الحيوانات قد تأكل بعضها بعضاً بحثاً عن رزقها وطعامها الضروري ‏والحياتي ، إلا أنها لا تنهش كياناتها وتجمعاتها ، غير أن هذا الإنسان يتسافل في حيوانيته لينهش لحم أخيه ويدمر وجوده وحضارته . . ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ 12 ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... 13 . . ما هو العمل‏ الصالح ؟ فالبعض يفسره بأداء الصلاة أو الصوم أو الحج وباقي الفروع العبادية ، إلاّ أنني اعتقد أن هذا إيمان وليس عملاً صالحاً ، إنما العمل الصالح هو الذي له منفعة ومصلحة للأمة وللمجتمع . فالكاسب و الكادّ على عياله الذي يذهب إلى‏السوق ويحترف التجارة ويحصل على المال الحلال فإنه يعمل عملاً صالحاً ، فكسب المال إذاً كان الهدف منه إشباع‏ العيال وخدمة المجتمع ، فهو عمل صالح ويؤجر المرء عليه لما يقدم خدمة للمجتمع وللآخرين .
وقد روي عن رسول اللَّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: ( من سعادة المرء المسلم الزوجة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والمركب البهي ، والولد الصالح‏ ) 14 .
ومن كلام لأمير المؤمنين الإمام علي‏ عليه السلام بالبصرة ، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي ـ وهو من أصحابه ـ يعوده ، فلما رأى سعة داره ، قال : ( ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتُطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ) 15 .
وأتذكر في أخريات حياة المرحوم والدي ‏رحمه الله كان يجتهد في بناء بيت لأحد الأقارب ، وكان يهتم كثيراً بهذا الأمر وهو كبير السن قد تجاوز الثمانين ، فقلت له: سيدنا! كيف تتعب نفسك وأنت في هذا العمر ؟ فقال ـ رحمه اللَّه ـ : إنه ليس لي أجر في الدنيا من ورائه ، ولكن أريد أن يجلس الأقارب فيه ثم يترحّمون عليَّ بعد وفاتي .
إن الحياة التي ألفها المؤمنون سابقاً كانت مشفوعة بالتعاون والتواصل ، فكان الناس ينظفون طرقهم بأيديهم ـ ولم تكن‏في السابق مديرية البلدية ـ وكان يضع كل منزل مشكاةً ومصباحاً فوق داره ليضي‏ء الدار وطريق المارة ، وكانوا يتسابقون في إماطة الأذى عن طريق الناس . . ﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ... 16 .
إنك ترى في بعض بلداننا كراسي حافلات نقل الركاب ملوثة وأعقاب السجائر مرمية هنا وهناك ، وكأن الناس قد نسوا الحديث الشريف الذي قاله الرسول الأكرم‏ صلى الله عليه وآله وسلم: ( النظافة من الإيمان‏ ) 17 .

الحضارة الإلهية ؛ قمة الرقي المعنوي و المادي‏

إن بلادنا الإسلامية ينبغي أن تكون أرقى بلدان العالم على كافة النواحي والأصعدة كافة ، سواء في مجال الصناعة و الزراعة و التكنولوجيا ؛ بل يجب أن نحوز على الرقم القياسي في هذا المجال ، وذلك لأن المؤمن هو الذي يعمر دنياه‏ ببواعث الآخرة ، لأن الدنيا في رؤيته مزرعة الآخرة ، ولهذا نحن عندما نراجع مصارف الزكاة في سبيل اللَّه في الكتب‏ الفقهية ـ ككتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي ـ نرى أنواع المصارف المتعددة لهذه الفريضة ، كبناء القناطر والجسور و الطرقات والمدارس والمساجد . فالمسجد أو الجسر لا يختلف ثواب بنائه عن الآخر .
فإذا كان الإنسان الكافر والمشرك يعمر ويبني دنياه بدوافع مادية بحتة ، فالمؤمن يعمر الدنيا بدوافع أخروية إلهية أيضاً .
إن آباءنا وأجدادنا السابقين تمكنوا من أن يشيدوا مدنيتهم المادية بدوافع معنوية كبيرة ، حتى ذهلت منها عقول العلماء المعاصرين ، فكانت كلها بدوافع إيمانية نبيلة ، فتلحظ فيها كافة صور الإبداع والخلاقية ، فتتعجب من دقة العمل وذوق‏ التفنن ، فترى الجسور التي بنيت على نهر اصفهان والمعروفة بـ ( 33 جسراً ) قد فاقت في إبداعها الجسور الحديثة رغم مرور مئات السنين على بنائها ، بل قد ترى بعض الجسور الحديثة سرعان ما تتهدم لمجرد تعرضها لعارض‏ بسيط .
من هنا ، يجدر بنا في نهضتنا الحضارية أن لا نألوا جهداً في التزود الإيماني ، مضافاً إلى الحصول على علوم الحياة .
وربنا سبحانه وتعالى يقول : ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ 18 يعني أن أجرهم لاينقطع ، لأنه مبارك ، وتستمر بركته إلى الأبد . . ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ 19 ، إن‏عملك الصالح يجزيك اللَّه ازاءه خير الدنيا والآخرة 20 .