الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

البحث في مواقف الصحابة

و ليكن إسلامي مبدئيا إيمانا بالله و ملائكته و كتبه و رسله و أن محمدا عبده و رسوله ، و أن الدين عند الله الإسلام ، و لا أعتمد في ذلك على أي واحد من الصحابة مهما كانت قرابته و مهما علت منزلته فأنا لست أمويا و لا عباسيا و لا فاطميا ، و لا سنيا و لا شيعيا و ليست لي أي عداوة لأبي بكر و لا لعمر و لا لعثمان و لا لعلي و لا حتى لوحشي قاتل سيدنا الحمزة مادام أنه أسلم و الإسلام يَجُبُّ ما قبله و قد عفا عنه رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) .
و ما دمت أقحمت نفسي في هذا البحث بغية الوصول للحقيقة و ما دمت قد تجردت من كل الأفكار المسبقة بكل إخلاص فأنا أبدأ هذا البحث على بركة الله في مواقف الصحابة .

1 - الصحابة في صلح الحديبية

مجمل القصة ، أن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) خرج في السنة السادسة للهجرة يريد العمرة مع ألف و أربعمائة من أصحابه فأمرهم أن يضعوا سيوفهم في القرب ، و أحرم هو و أصحابه بذي الحليفة و قلدوا الهدي ليعلم قريشا أنه إنما جاء زائرا معتمرا و ليس محاربا ، و لكن قريشا بكبريائها خافت أن يسمع العرب بأن محمدا دخل عنوة إلى مكة و كسر شوكتها ، فبعثوا إليه بوفد يرأسه سهيل بن عمرو بن عبد ود العامري و طلبوا منه أن يرجع في هذه المرة من حيث أتى على أن يتركوا له مكة في العام القادم ثلاثة أيام ، و قد اشترطوا عليه شروطا قاسية قبلها رسول الله لاقتضاء المصلحة التي أوحى بها إليه ربه عَزَّ و جَلَّ .
و لكن بعض الصحابة لم يعجبهم هذا التصرف من النبي و عارضوه في ذلك معارضة شديدة و جاءه عمر بن الخطاب فقال : ألست نبي الله حقا ؟ قال : بلى ، قال عمر : ألسنا على الحق و عدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قال عمر : فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : إني رسول الله و لست أعصيه و هو ناصري ، قال عمر : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قال عمر : لا ، قال : فإنك آتيه و مطوف به .
ثم أتى عمر بن الخطاب إلى أبي بكر فقال : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى . ثم سأله عمر نفس الأسئلة التي سألها رسول الله ، و أجابه أبو بكر بنفس الأجوبة قائلا له : أيها الرجل إنه لرسول الله و ليس يعصي ربه و هو ناصره فاستمسك بغرزه ، و لما فرغ رسول الله من كتاب الصلح قال لأصحابه : قوموا فانحروا ثم أحلقوا ، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يمتثل لأمره منهم أحد دخل خباءه ثم خرج فلم يكلم أحدا منهم بشيء حتى نحر بدنة بيده ، و دعا حالقه فحلق رأسه ، فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا و جعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا   . . .
هذه مجمل قصة الصلح في الحديبية و هي من الأحداث المتفق عليها عند الشيعة و السنة و قد ذكرها المؤرخون و أصحاب السير كالطبري و ابن الأثير و ابن سعد و غيرهم كالبخاري و مسلم .
و أنا لي هنا وقفة ، فلا يمكن لي أن أقرأ مثل هذا و لا أتأثر و لا أعجب من تصرف هؤلاء الصحابة تجاه نبيهم ، و هل يقبل عاقل قول القائلين بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمتثلون أوامر رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و ينفذونها ، فهذه الحادثة تقطع عليهم ما يرومون ، هل يتصور عاقل بأن هذا التصرف في مواجهة النبي هو أمر هين ، أو مقبول ، أو معذور ، قال تعالى : ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ 1
.
فهل سلم عمر بن الخطاب هنا و لم يجد في نفسه حرجا مما قضى الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ؟ ! أم كان في موقفه تردد في ما أمر النبي ؟ و خصوصا في قوله : أولست نبي الله حقا ؟ أولست كنت تحدثنا ؟ إلى آخره ، و هل سلم بعد ما أجابه رسول الله بتلك الأجوبة المقنعة ؟ كلا لم يقتنع بجوابه و ذهب يسأل أبا بكر الأسئلة نفسها ، و هل سلم بعد ما أجابه أبو بكر و نصحه أن يلزم غرز النبي ، لا أدري إذا كان سلم بذلك ، أو اقتنع بجواب النبي أو بجواب أبي بكر ! ! و إلا لماذا تراه يقول عن نفسه : " فعملت لذلك أعمالا . . و لا أدري سبب تخلف البقية الباقية من الحاضرين بعد ذلك إذ قال لهم رسول الله : قوموا فانحروا ثم أحلقوا ، فلم يستمع إلى أمره أحد منهم حتى كررها عليهم ثلاث مرات بدون جدوى .
سبحان الله ! أنا لا أكاد أصدق ما أقرأ ، و هل يصل الأمر بالصحابة إلى هذا الحد في التعامل مع أمر الرسول ، و لو كانت هذه القصة مروية من طريق الشيعة وحدهم لعددت ما قالوا افتراء على الصحابة الكرام ، و لكن القصة بلغت من الصحة و الشهرة أن تناقلها كل المحدثين من أهل السنة و الجماعة أيضا ، و بما أنني ألزمت نفسي توثيق ما اتفقوا عليه ، فلا أراني إلا مسلما و متحيرا : ماذا عساني أن أقول ؟ و بم أعتذر عن هؤلاء الصحابة الذين قضوا مع رسول الله قرابة عشرين عاما من البعثة إلى يوم الحديبية ، و هم يشاهدون المعجزات و أنوار النبوة ، و القرآن يعلمهم ليلا نهارا كيف يتأدبون مع حضرة الرسول و كيف يكلموه ، حتى هددهم الله بإحباط أعمالهم إن رفعوا أصواتهم فوق صوته .
و يدفعني إلى الاحتمال بأن عمر بن الخطاب هو الذي أثار بقية الحاضرين و دفعهم إلى التردد و التخلف عن أمر الرسول - زيادة على اعترافه بأنه عمل لذلك أعمالا لم يشأ ذكرها - ما يردده هو في موارد أخرى قائلا : ما زلت أصوم و أتصدق و أصلي و أعتق مخافة كلامي الذي تكلمت به .. إلى آخر ما هو مأثور عنه في هذه القضية   ...
مما يشعرنا بأن عمر نفسه كان يدرك بعد الموقف الذي وقفه ذلك اليوم إنها قصة عجيبة و غريبة و لكنها حقيقية .

2 - الصحابة و رزية يوم الخميس

و مجمل القصة أن الصحابة كانوا مجتمعين في بيت رسول الله قبل وفاته بثلاثة أيام ، فأمرهم أن يحضروا له الكتف و الدواة ليكتب لهم كتابا يعصمهم من الضلالة ، و لكن الصحابة اختلفوا و منهم من عصى أمره و اتهمه بالهجر ، فغضب رسول الله و أخرجهم من بيته دون أن يكتب لهم شيئا ، و إليك شيئا من التفصيل :
قال ابن عباس : يوم الخميس و ما يوم الخميس اشتد برسول الله وجعه ، فقال : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، فقال عمر إن النبي قد غلبه الوجع ، و عندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت و اختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلوا بعده ، و منهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو و الاختلاف عند النبي ، قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، قوموا عني ، فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم   و لغطهم . هذه الحادثة صحيحة لا شك فيها ، فقد نقلها علماء الشيعة و محدثوهم في كتبهم ، كما نقلها علماء السنة و محدثوهم و مؤرخوهم ، و هي ملزمة لي على ما ألزمت به نفسي و من هنا أقف حائرا في تفسير الموقف الذي وقفه عمر بن الخطاب من أمر رسول الله ، و أي أمر هو ؟ أمر " عاصم من الضلالة لهذه الأمة ، و لا شك أن هذا الكتاب كان فيه شيء جديد للمسلمين سوف يقطع عليهم كل شك " .
و لنترك قول الشيعة : " بأن رسول أراد أن يكتب إسم علي خليفة له ، و تفطن عمر لذلك فمنعه " .
فلعلهم لا يقنعوننا بهذا الزعم الذي لا يرضينا مبدئيا ، و لكن هل نجد تفسيرا معقولا لهذه الحادثة المؤلمة التي أغضبت الرسول حتى طردهم و جعلت ابن عباس يبكي حتى يبل دمعه الحصى و يسميها أكبر رزية ، أهل السنة يقولون بأن عمر أحس بشدة مرض النبي فأشفق عليه و أراد أن يريحه ، و هذا التعليل لا يقبله بسطاء العقول فضلا عن العلماء ، و قد حاولت مرارا و تكرارا التماس بعض الأعذار لعمر و لكن واقع الحادثة يأبى علي ذلك ، و حتى لو أبدلت كلمة يهجر " و العياذ بالله " بلفظة " غلبه الوجع " فسوف لن نجد مبررا لقول عمر : " عندكم القرآن " " و حسبنا كتاب الله " ، أو كان هو أعلم بالقرآن من رسول الله الذي أنزل عليه ، أم أن رسول الله لا يعي ما يقول " حاشاه " أم أنه أراد بأمره ذلك أن يبعث فيهم الاختلاف و الفرقة " أستغفر الله " .
ثم لو كان تعليل أهل السنة صحيحا ، فلم يكن ذلك ليخفى على الرسول و لا يجهل حسن نية عمر ، و لشكره رسول الله على ذلك و قربه بدلا من أن يغضب عليه و يقول أخرجوا عني .
و هل لي أن أتسأل لماذا امتثلوا أمره عندما طردهم من الحجرة النبوية ، و لم يقولوا بأنه يهجر ؟ أ لأنهم نجحوا بمخططهم في منع الرسول من الكتابة ، فلا داعي بعد ذلك لبقائهم ، و الدليل أنهم أكثروا اللغط و الاختلاف بحضرته ( صلى الله عليه و آله ) ، و انقسموا إلى حزبين منهم من يقول : قربوا إلى رسول الله يكتب لكم ذلك الكتاب و منهم من يقول ما قال عمر أي إنه " يهجر " .
و الأمر لم يعد بتلك البساطة يتعلق بشخص عمر وحده و لو كان كذلك لأسكته رسول الله و أقنعه بأنه لا ينطق عن الهوى و لا يمكن أن يغلب عليه الوجع في هداية الأمة و عدم ضلالتها و لكن الأمر استفحل و استشرى و وجد له أنصارا كأنهم متفقون مسبقا ، و لذلك أكثروا اللغط و الاختلاف و نسوا أو تناسوا قول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ 2.
و في هذه الحادثة تعدوا حدود رفع الأصوات و الجهر بالقول إلى رميه ( صلى الله عليه و آله ) بالهجر و الهذيان " و العياذ بالله " ثم أكثروا اللغط و الاختلاف و صارت معركة كلامية بحضرته .
و أكاد أعتقد بأن الأكثرية الساحقة كانت على قول عمر و لذلك رأى رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) عدم الجدوى في كتابة الكتاب لأنه علم بأنهم لم يحترموه و لم يمتثلوا لأمر الله فيه في عدم رفع أصواتهم بحضرته ، و إذا كانوا لأمر الله عاصين فلن يكونوا لأمر رسوله طائعين .
و اقتضت حكمة الرسول بأن لا يكتب لهم ذلك الكتاب لأنه طعن فيه في حياته ، فكيف يعمل بما فيه بعد وفاته ، و سيقول الطاعنون : بأنه هجر من القول و لربما سيشككون في بعض الأحكام التي عقدها رسول الله في مرض موته .
إذ أن اعتقادهم بهجره ثابت .
أستغفر الله ، و أتوب إليه من هذا القول في حضرة الرسول الأكرم ، و كيف لي أن أقنع نفسي و ضميري الحر بأن عمر بن الخطاب كان عفويا في حين أن أصحابه و من حضروا محضره بكوا لما حصل حتى بل دمعهم الحصى و سموها رزية المسلمين .
و لهذا فقد خلصت إلى أن أرفض كل التعليلات التي قدمت لتبرير ذلك ، و لقد حاولت أن أنكر هذه الحادثة و أكذبها لأستريح من مأساتها ، و لكن كتب الصحاح نقلتها و أثبتتها و صححتها و لم تحسن تبريرها .
و أكاد أميل إلى رأي الشيعة في تفسير هذا الحدث لأنه تعليل منطقي و له قرائن عديدة .
و إني لا زلت أذكر إجابة السيد محمد باقر الصدر عندما سألته : كيف فهم سيدنا عمر من بين الصحابة ما يريد الرسول كتابته و هو استخلاف علي ـ على حد زعمكم ـ ، فهذا ذكاء منه .
قال السيد الصدر : لم يكن عمر وحده فهم مقصد الرسول ، و لكن أكثر الحاضرين فهموا ما فهمه عمر ، لأنه سبق لرسول الله ( صلى الله عليه و آله ) أن قال مثل هذا إذ قال لهم إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، و في مرضه قال لهم : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ، ففهم الحاضرون و من بينهم عمر أن رسول الله يريد أن يؤكد ما ذكره في غدير خم كتابيا ، و هو التمسك بكتاب الله و عترته ، و سيد العترة هو علي ، فكأنه ( صلى الله عليه و آله ) أراد أن يقول : عليكم بالقرآن و علي ، و قد قال مثل ذلك في مناسبات أخرى كما ذكر المحدثون .
و كان أغلبية قريش لا يرضون بعلي لأنه أصغر القوم و لأنه حطم كبرياءهم و هشم أنوفهم و قتل أبطالهم ، و لكنهم لا يجرؤون على رسول الله مثل عمر فقد كان جريئا على النحو الذي حصل في صلح الحديبية و في المعارضة الشديدة للنبي عندما صلى على عبد الله بن اُبي ، المنافق ، و في عدة مواقف أخرى سجلها التاريخ ، و هذا الموقف منها ، و أنت ترى أن المعارضة لكتابة الكتاب في مرض النبي شجعت بعض الآخرين من الحاضرين على الجرأة و من ثم الإكثار من اللغط في حضرة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) .
إن هذه المقولة : جاءت ردا مطابقا تماما لمقصود الحديث ، فمقولة : عندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله مخالفة لمحتوى الحديث الذي يأمرهم بالتمسك بكتاب الله و بالعترة معا ، فكأن المقصود هو : حسبنا كتاب الله فهو يكفينا ، و لا حاجة لنا بالعترة .
و ليس هناك تفسير معقول غير هذا ، ـ بالنسبة إلى هذه الحادثة ـ اللهم إلا إذا كان المراد هو القول بإطاعة الله دون إطاعة رسوله ، و هذا أيضا باطل و غير معقول . . .
و أنا إذا طرحت التعصب الأعمى و العاطفة الجامحة و حكمت العقل السليم و الفكر الحر لمَِلْتُ إلى هذا التحليل و ذلك أهون من اتهام عمر بأنه أول من رفض السنة النبوية بقوله : " حسبنا كتاب الله " .
و إذا كان بعض الحكام قد رفض السنة النبوية بدعوى أنها متناقضة ، فإنه اتبع في ذلك سابقة تاريخية في حياة المسلمين .
و إني لأعجب لمن يقرأ هذه الحادثة و يمر بها و كان شيئا لم يكن ، مع أنها من أكبر الرزايا كما سماها ابن عباس ، و عجبي أكبر من الذين يحاولون جهدهم الحفاظ على كرامة صحابي و تصحيح خطئه و لو كان ذلك على حساب كرامة رسول الله و على حساب الإسلام و مبادئه .
و لماذا نهرب من الحقيقة و نحاول طمسها عندما لا تتماشى مع أهوائنا ، لماذا لا نعترف بأن الصحابة بشر مثلنا ، لهم أهواء و ميول و يخطئون و يصيبون .
و لا يزول عجبي إلا عندما أقرأ كتاب الله و هو يروي لنا قصص الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ، و ما لاقوه من شعوبهم في المعاندة رغم ما يشاهدونه من معجزات . . ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ 3.
و هكذا أصبحت أدرك خلفية موقف الشيعة من بعض الصحابة الذين يحملونهم مسؤولية الكثير من المآسي التي وقعت في حياة المسلمين منذ رزية يوم الخميس التي حرمت الأمة من كتاب الهداية الذي أراد الرسول ( صلى الله عليه و آله ) أن يكتبه لهم .

3 - الصحابة في سرية أسامة

مجمل هذه القصة : أنه ( صلى الله عليه و آله ) ، جهز جيشا لغزو الروم قبل وفاته بيومين ، و أمر على هذه السرية أسامة بن زيد بن حارثة و عمره ثمانية عشر عاما ، و قد عبأ ( صلى الله عليه و آله ) في هذه السرية وجوه المهاجرين و الأنصار كأبي بكر و عمر و أبي عبيدة و غيرهم من كبار الصحابة المشهورين فطعن قوم منهم في تأمير أسامة ، و قالوا : كيف يؤمر علينا شاب لا نبات بعارضيه ، و قد طعنوا من قبل في تأمير أبيه ، و قد قالوا في ذلك و أكثروا النقد ، حتى غضب ( صلى الله عليه و آله ) غضبا شديدا مما سمع من طعنهم و انتقادهم ، فخرج ( صلى الله عليه و آله ) معصب الرأس محموما ، يتهادى بين رجلين و رجلاه تخطان في الأرض بأبي هو و أمي ، من شدة ما به من لغوب ، فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال :
" أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة ، و لئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أبيه من قبله ، و أيم الله إنه كان خليقا بالإمارة ، و إن ابنه من بعده لخليق بها . . "   .
ثم جعل ( صلى الله عليه و آله ) يحضهم على التعجيل و جعل يقول : جهزوا جيش أسامة ، أنفذوا جيش أسامة أرسلوا بعث أسامة ، يكرر ذلك على مسامعهم و هم متثاقلون و عسكروا بالجرف و ما كادوا يفعلون .
إن مثل ذلك يدفعني إلى أن أتسأل : ما هذه الجرأة على الله و رسوله ؟ ! ، و ما هذا العقوق في حق الرسول الأكرم الذي هو حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم ؟ لم أكن أتصور كما لا يمكن لأحد أن يتصور تفسيرا مقبولا لهذا العصيان ، و هذه الجرأة .
و كالعادة ، عند قراءة مثل هذه الأحداث التي تمس كرامة الصحابة من قريب أو بعيد أحاول تكذيب مثل هذه القضايا و تجاهلها ، و لكن لا يمكن تكذيب ما أجمع عليه المؤرخون و المحدثون من علماء السنة و الشيعة ، و تجاهل ذلك .
و قد عاهدت ربي أن أكون منصفا ، فلا أتعصب لمذهبي و لا أقيم وزنا لغير الحق ، و الحق هنا مُرٌّ كما يقال ، و قد قال عليه الصلاة و السلام : " قل الحق و لو كان على نفسك و قل الحق و لو كان مُرّا . . . " و الحق في هذه القضية : هو أن هؤلاء الصحابة الذين طعنوا في تأمير أسامة قد خالفوا أمر ربهم و خالفوا الصريح من النصوص التي لا تقبل الشك و لا تقبل التأويل ، و ليس لهم عذر في ذلك ، إلا ما يلتمسه البعض من أعذار باردة حفاظا على كرامة الصحابة و " السلف الصالح " و العاقل الحر لا يقبل بحال من الأحوال هذه التمحلات . اللهمّ إلا إذا كان من الذين لا يفقهون حديثا ، و لا يعقلون ، أو من الذين أعمت العصبية أعينهم فلم يعودوا يفرقون بين الفرض الواجب طاعته و النهي الواجب تركه ، و لقد فكرت مليا عساني أجد عذرا لهؤلاء مقبولا ، فلم يسعفني تفكيري بطائل ، و قرأت اعتذار أهل السنة على هؤلاء بأنهم كانوا مشايخ قريش و كبراءها ، و لهم الأسبقية في الإسلام بينما أسامة كان حدثا و لم يشارك في المعارك المصيرية لعزة الإسلام ، كمعركة بدر و أحد و حنين ، و لم تكن له سابقة بل كان صغير السن عندما ولاه رسول الله إمارة السرية ، و طبيعة النفوس البشرية تأبى بجبلتها إذا كانت بين كهول و شيوخ أن تنقاد إلى الأحداث و تنفر بطبعها من النزول على حكم الشبان و لذلك طعنوا في تأميره و أرادوا منه ( صلى الله عليه و آله ) أن يستبدله بأحد من وجوه الصحابة و كبرائهم .
إنه اعتذار لا يستند إلى دليل عقلي و لا شرعي و لا يمكن لأي مسلم قرأ القرآن و عرف أحكامه إلا أن يرفض مثل هذا ، لان الله عَزَّ و جَلَّ يقول :
﴿ ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... 4،﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ 5.
فأي عذر بعد هذه النصوص الصريحة يقبله العاقلون و ماذا عساني أن أقول في قوم أغضبوا رسول الله و هم يعلمون أن غضب الله في غضبه ، و ذلك بعد أن رموه بالهجر و قالوا بحضرته ما قالوا و أكثروا اللغط و الاختلاف و هو مريض ، بأبي هو و أمي ، حتى أخرجهم من حجرته ، أو لم يكفهم كل هذا ، و بدلا من أن يثوبوا إلى رشدهم و يتوبوا إلى الله و يستغفروه مما فعلوا و يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم كما علمهم القرآن ، عوضا عن ذلك فقد زادوا في الطين بلة كما يقول المثل الشعبي عندنا ، فطعنوا في تأميره أسامة بعد يومين من رميه بالهجر و الجرح لما يندمل ، حتى أجبروه أن يخرج ( صلى الله عليه و آله ) بتلك الحالة التي وصفها المؤرخون ، لا يقدر على المشي من شدة المرض و هو يتهادى بين رجلين ، ثم يقسم بالله بأن أسامة خليق بالإمارة ، و يزيدنا الرسول بأنهم هم أنفسهم الذين طعنوا في تأميره زيد بن حارثة من قبل ليعلمنا أن هؤلاء لهم معه مواقف سابقة متعددة و سوابق شاهدة على أنهم لم يكونوا من الذين لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى و يسلمون تسليما ، بل كانوا من الذين جعلوا لأنفسهم حق النقد و المعارضة حتى و لو خالفوا بذلك أحكام الله و رسوله .
و مما يدلنا على المعارضة الصريحة ، أنهم رغم ما شاهدوه من غضب رسول الله و من عقد اللواء له بيده الشريفة و الأمر لهم بالإسراع و التعجيل ، تثاقلوا و تباطأوا ، و لم يذهبوا حتى توفي بأبي هو و أمي و في قلبه حسرة على أمته المنكوبة التي سوف تنقلب على أعقابها و تهوى في النار و لا ينجو منها إلا القليل الذي شبهه رسول الله بهمل النعم .
و إذا أردنا أن نتمعن في هذه القضية فإننا سنجد الخليفة الثاني من أبرز عناصرها إذ أنه هو الذي جاء بعد وفاة رسول الله إلى الخليفة أبي بكر و طلب منه أن يعزل أسامة و يبدله بغيره فقال له أبو بكر : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ! أتأمرني أن أعزله و قد ولاه رسول الله   .
فأين هو عمر من هذه الحقيقة التي أدركها أبو بكر ، أم أن في الأمر سراً آخر خفي عن المؤرخين ، أم أنهم هم الذين أسروه حفاظاً على كرامته كما هي عادتهم و كما أبدلوا عبارة " يهجر " بلفظ " غلبه الوجع " .
عجبي من هؤلاء الصحابة الذين أغضبوه يوم الخميس و اتهموه بالهجر و الهذيان و قالوا حسبنا كتاب الله ، و كتاب الله يقول لهم في محكم آياته :
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... 6.
و كأنهم هم أعلم بكتاب الله و أحكامه من الذي أنزل عليه و ها هم بعد يومين فقط من تلك الرزية المؤلمة و قبل يومين فقط من لحوقه بالرفيق الأعلى يغضبونه أكثر فيطعنون في تأميره و لا يطيعون أمره ، و إذا كان في الرزية الأولى مريضا طريح الفراش ، فقد اضطر في الثانية أن يخرج معصب الرأس مدثراً بقطيفة يتهادى بين رجلين و رجلاه تخطان في الأرض و خطب فيهم خطبة كاملة من فوق المنبر بدأها بتوحيد الله و الثناء عليه ليشعرهم بذلك بأنه بعيد عن الهجر ثم أعلمهم بما عرفه من طعنهم ، ثم ذكرهم بقضية أخرى طعنوا فيها من قبل أربع سنوات خلت ، أ فهل يعتقدون بعد ذلك بأنه يهجر أو أنه غلبه الوجع لدرجة أنه لم يعد يعي ما يقول ؟ .
سبحانك اللهم و بحمدك كيف يجرؤ هؤلاء على رسولك فلا يرضون بالعقد الذي أبرمه ، و يعارضونه بشدة حتى يأمرهم بالنحر و الحلق ثلاث مرات فلا يستجيب منهم أحد ، و مرة أخرى يجذبونه من قميصه و يمنعونه من الصلاة على عبد الله بن اُبي و يقولون له : إن الله قد نهاك أن تصلي على المنافقين ! و كأنهم يعلمونه ما نزل إليه في حين أنك قلت في قرآنك : ﴿ ... وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ... 7.
و قلت أيضا : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ... 8.
و قلت و قولك الحق : ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ 9.
عجبا لهؤلاء القوم ! فمرة لا يمتثلون لأمره و مرة يتهمونه بالهجر و يكثرون اللغط بحضرته في غير احترام و لا أدب ، و أخرى يطعنون في تأميره زيد بن حارثة و من بعده في تأمير ابنه أسامة بن زيد فكيف يبقى بعد كل هذا شك عند الباحثين من أن الشيعة على حق عندما يحيطون مواقف بعض الصحابة بعلامات الاستفهام و يمتعضون منها احتراما و حبا و مودة لصاحب الرسالة و أهل بيته .
على أني لم أذكر من المخالفات غير أربع أو خمس و ذلك للاختصار و لتكون أمثلة فقط ، و لكن علماء الشيعة قد أحصوا مئات الموارد التي خالف فيها الصحابة النصوص الصريحة و لم يستدلوا إلا بما أخرجه علماء السنة في صحاحهم و مسانيدهم .
و إني عندما أستعرض بعض المواقف التي وقفها بعض الصحابة من رسول الله أبقى حائرا مدهوشا ، لا من تصرفات هؤلاء الصحابة فحسب و لكن من موقف علماء السنة و الجماعة الذين يصورون لنا الصحابة دوما على حق لا يمكن التعرض لهم بأي نقد ، و بذلك يمنعون الباحث من الوصول إلى الحقيقة و يبقى يتخبط في التناقضات الفكرية .
و زيادة على ما سبق أسوق بعض الأمثلة التي تعطينا صورة حقيقية على هؤلاء الصحابة و نفهم بذلك موقف الشيعة منهم :
أخرج البخاري في صحيحه ج 4 ص 47 في باب الصبر على الأذى و قول الله تعالى :﴿ ... إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ ... 10 من كتاب الأدب ، قال : حدثنا الأعمش قال سمعت شقيقا يقول قال عبد الله : قسم النبي ( صلى الله عليه و آله ) قسمة كبعض ما كان يقسم فقال رجل من الأنصار و الله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله ، قلت أما أني لأقولن للنبي ( صلى الله عليه و آله ) فأتيته و هو في أصحابه فساورته فشق ذلك على النبي و تغير وجهه و غضب حتى وددت أني لم أكن أخبرته ثم قال : قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر .

كما أخرج البخاري في الكتاب نفسه أعني كتاب الأدب في باب التبسم و الضحك .
قال حدثنا أنس بن مالك قال كنت أمشي مع رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و عليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة قال أنس فنظرت إلى صفحة عاتق النبي ( صلى الله عليه و آله ) و قد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء .
كما أخرج البخاري في كتاب الأدب في باب من لم يواجه الناس بالعتاب قال : قالت عائشة صنع النبي ( صلى الله عليه و آله ) شيئا فرخص فيه ، فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه و آله ) فخطب فحمد الله ثم قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله أني لأعلمهم بالله و أشدهم له خشية ... ! .
و لعمري إن الذين يعتقدون أن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) يميل به الهوى و يحيد به عن طريق الحق فيقسم قسمة لا يريد بها وجه الله و إنما تبعا لهواه و عاطفته ، و الذين يتنزهون عن أشياء يصنعها رسول الله اعتقادا منهم بأنهم أتقى لله و أعلم به من رسوله ، فهؤلاء ليسوا جديرين بذلك التقديس حيث ينزلهم البعض منزلة الملائكة فيحكمون بأنهم أفضل الخلق بعد رسول الله و أن المسلمين مدعوون لإتباعهم و الإقتداء بهم و السير على سنتهم لا لشيء إلا لأنهم صحابة رسول الله و هذا يتناقض مع أهل السنة و الجماعة الذين لا يصلون على محمد و آله إلا و يضيفون إليهم الصحابة أجمعين و إذا كان الله سبحانه و تعالى قد عرف قدرهم و أنزلهم منزلتهم فأمرهم بأن يصلوا على رسوله و أهل بيته الطاهرين لَيَّاً لأعناقهم ليخضعوا و يعرفوا مكانة هؤلاء عند الله فلماذا نجعلهم نحن في منزلة فوق منزلتهم و نسويهم بمن رفع الله قدرهم و فضلهم على العالمين .
و دعني أستنتج بأن الأمويين و العباسيين الذين ناصبوا أهل البيت النبوي العداء فأبعدوهم و شردوهم و قتلوهم و أتباعهم و شيعتهم ، تفطنوا لما في هذه المزية من الفضل العميم و الخطر الجسيم ، فإذا كان الله سبحانه لا يقبل صلاة مسلم إلا إذا صلى عليهم ، فبماذا يبررون عداءهم و انحرافهم عن أهل البيت ، و لذلك تراهم ألحقوا الصحابة بأهل البيت ليموهوا على الناس بأن أهل البيت و الصحابة في الفضل سواء .
و خصوصا إذا عرفنا أن ساداتهم و كبراءهم هم بعض الصحابة الذين استأجروا ضعفاء العقول ممن صحبوا رسول الله أو من التابعين ليرووا الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة و بالأخص في من اعتلوا منصة الخلافة و كانوا سببا مباشرا في وصولهم - أي الأمويين و العباسيين - إلى الحكم و التحكم في رقاب المسلمين و التاريخ خير شاهد على ما أقول ، إذ أن عمر بن الخطاب الذي اشتهر بمحاسبة ولاته و عزلهم لمجرد شبهة نراه يلين مع معاوية بن أبي سفيان و لا يحاسبه قط و قد ولاه أبو بكر و أقره عمر طيلة حياته و لم يعترض عليه حتى بالعتاب و اللوم ، رغم كثرة الساعين الذين يشتكون من معاوية و يقولون له إن معاوية يلبس الذهب و الحرير اللذين حرمهما رسول الله على الرجال ، فكان عمر يجيبهم : " دعوه فإنه كسرى العرب " و استمر معاوية في الولاية أكثر من عشرين عاما لم يتعرض له أحد بالنقد و لا بالعزل و لما ولي عثمان خلافة المسلمين أضاف إليه ولايات أخرى مكنته من الاستيلاء على الثروة الإسلامية و تعبئة الجيوش و أوباش العرب للقيام بالثورة على إمام الأمة و الاستيلاء على الحكم بالقوة و الغصب و التحكم في رقاب المسلمين و إرغامهم بالقوة و القهر على بيعة ابنه الفاسق شارب الخمر يزيد و هذه قصة أخرى طويلة لست بصدد تفصيلها في هذا الكتاب و المهم هو أن أعرف نفسيات هؤلاء الصحابة الذين اعتلوا منصة الخلافة و مهدوا لقيام الدولة الأموية بصفة مباشرة نزولا على حكم قريش التي تأبى أن تكون النبوة و الخلافة في بني هاشم   .
و للدولة الأموية الحق بل من واجبها أن تشكر أولئك الذين مهدوا لها ، و أقل الشكر أن تستأجروا رواة مأجورين يروون في فضائل أسيادهم ما تسير به الركبان و في نفس الوقت يرفعون هؤلاء فوق منزلة خصومهم أهل البيت ، باختلاق الفضائل و المزايا التي يشهد الله أنها إذا ما بحثت تحت ضوء الأدلة الشرعية و العقلية و المنطقية ، فلن يبقى منها شيء يذكر ، اللهم إلا إذا أصاب عقولنا مس و آمنا بالتناقضات .
و على سبيل المثال لا الحصر ، فإننا نسمع الكثير عن عدل عمر الذي سارت به الركبان حتى قيل " عدلت فنمت " و قيل دفن عمر واقفا لئلا يموت العدل معه و في عدل عمر حدث و لا حرج ، و لكن التاريخ الصحيح يحدثنا بأن عمر حين فرض العطاء في سنة عشرين للهجرة لم يتوخ سنة رسول الله و لم يتقيد بها ، فقد ساوى النبي ( صلى الله عليه و آله ) بين جميع المسلمين في العطاء فلم يفضل أحدا على أحد ، و اتبعه في ذلك أبو بكر مدة خلافته ، و لكن عمر بن الخطاب اخترع طريقة جديدة و فضل السابقين على غيرهم و فضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين ، و فضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة ، و فضل العرب على سائر العجم ، و فضل الصريح على المولى   و فضل مضر على ربيعة ، ففرض لمضر ثلاثمائة و لربيعة مائتين   و فضل الأوس على الخزرج   .
فأين هذا التفضيل من سنة رسول الله ؟ و نسمع عن علم عمر بن الخطاب الكثير الذي لا حصر له حتى قيل أنه أعلم الصحابة و قيل أنه وافق ربه في كثير من آرائه التي ينزل القرآن بتأييدها في العديد من الآيات التي يختلف فيها عمر و النبي ( صلى الله عليه و آله ) .
و لكن الصحيح من التاريخ يدلنا على أن عمر لم يوافق القرآن حتى بعد نزوله ، عندما سأله أحد الصحابة أيام خلافته فقال : يا أمير المؤمنين أني أجنبت فلم أجد الماء فقال له عمر : لا تصل و اضطر عمار بن ياسر أن يذكره بالتيمم و لكن عمر لم يقنع بذلك و قال لعمار : إنا نحملك ما تحملت .
فأين عمر من آية التيمم المنزلة في كتاب الله و أين علمه من سنة النبي ( صلى الله عليه و آله ) الذي علمهم كيفية التيمم كما علمهم الوضوء ، و عمر نفسه يعترف في العديد من القضايا بأنه ليس بعالم ، بل بأن كل الناس أفقه منه حتى ربات الحجال و بقوله عدة مرات ، لولا علي لهلك عمر ، و لقد أدركه الأجل و مات و لم يعرف حكم الكلالة التي حكم فيها بأحكام متعددة و مختلفة كما يشهد بذلك التاريخ .
كذلك نسمع عن بطولة عمر و شجاعته و قوته الشيء الكثير حتى قيل إن قريش خافت عندما أسلم عمر ، و قويت شوكة المسلمين بإسلامه ، و قيل إن الله أعز الإسلام بعمر بن الخطاب و قيل إن رسول الله لم يجهر بدعوته إلا بعد إسلام عمر ، و لكن التاريخ الثابت الصحيح ، لا يوقفنا على شيء من هذه البطولة و الشجاعة ، و لا يعرف التاريخ رجلا واحدا من المشاهير أو حتى من العاديين الذين قتلهم عمر بن الخطاب في مبارزة أو في معركة كبدر و أحد و الخندق و غيرها ، بل العكس هو الصحيح فالتاريخ يحدثنا أنه هرب مع الهاربين في معركة أحد و كذلك هرب يوم حنين ، و بعثه رسول الله لفتح مدينة خيبر فرجع مهزوما ، و حتى السرايا التي شارك فيها كان تابعا غير متبوع ، و آخرها سرية أسامة التي كان فيها مأمورا تحت قيادة الشاب أسامة بن زيد.
فأين دعوى البطولات و الشجاعة من هذه الحقائق . . ؟ و نسمع عن تقوى عمر بن الخطاب و مخافته و بكائه من خشية الله الشيء الكثير ، حتى قيل إنه كان يخاف أن يحاسبه الله لو عثرت بغلة في العراق لأنه لم يعبد لها الطريق ، و لكن التاريخ الثابت الصحيح يحدثنا بأنه كان فظا غليظا لا يتورع و لا يخاف فيضرب من يسأله عن آية من كتاب الله حتى يدميه بدون ذنب اقترفه ، بل و تسقط المرأة حملها لمجرد رؤيته هيبة و مخافة منه ، و لماذا لم يتورع مخافة من الله عندما سل سيفه و هدد كل من يقول بأن محمدا قد مات و أقسم بالله أنه لم يمت و إنما ذهب يناجي ربه كما فعل موسى بن عمران و توعد من يقول بموته بضرب عنقه.
و لماذا لم يتورع و لم يخش الله سبحانه في تهديد حرق بيت فاطمة الزهراء بالنار إن لم يخرج المتخلفون فيه للبيعة   و قيل له إن فيها فاطمة فقال : و إن ، و تجرأ على كتاب الله و سنة رسوله فحكم في خلافته بأحكام تخالف النصوص القرآنية و السنة النبوية الشريفة   .
و إنما أخذت هذا الصحابي الكبير الشهير كمثل و اختصرت كثيرا لعدم الإطالة و لو شئت الدخول في التفاصيل لملأت كتبا عديدة ، و لكن كما قلت : إنما أذكر هذه الموارد على سبيل المثال لا الحصر . و الذي ذكرته هو نزر يسير يعطينا دلالة واضحة على نفسيات الصحابة و موقف العلماء من أهل السنة المتناقض ، فبينما يمنعون على الناس نقدهم و الشك فيهم ، يروون في كتبهم ما يبعث على الشك و الطعن فيهم ، و ليت علماء السنة و الجماعة لم يذكروا مثل هذه الأشياء الصريحة التي تمس كرامة الصحابة و تخدش في عدالتهم إذن لأراحونا من عناء الارتباك .
و إني أتذكر لقائي مع أحد علماء النجف الأشرف و هو أسد حيدر مؤلف كتاب " الإمام الصادق و المذاهب الأربعة " و كنا نتحدث عن السنة و الشيعة ، فروى لي قصة والده الذي التقى في الحج عالما تونسيا من علماء الزيتونة ، و ذلك منذ خمسين عاما ، و دار بينهما نقاش في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فكان العالم التونسي يستمع إلى والدي و هو يعدد الأدلة على إمامته ( عليه السلام ) و أحقيته في ا لخلافة فأحصى أربعة أو خمسة أدلة ، و لما انتهى سأله العالم الزيتوني هل لديك غير هذا ؟ قال : لا ، فقال التونسي : أخرج مسبحتك و أبدا في العد ، و أخذ يذكر الأدلة على خلافة الإمام علي ( عليه السلام ) حتى عدد له مائة دليل لا يعرفها والدي ، و أضاف الشيخ أسد حيدر : لو يقرأ أهل السنة و الجماعة ما في كتبهم ، لقالوا مثل مقالتنا و لانتهى الخلاف بيننا من زمان بعيد .
و لعمري إنه الحق الذي لا مفر منه لو يتحرر الإنسان من تعصبه الأعمى و كبريائه و ينصاع للدليل الواضح 11.