تقيمك هو: 1. مجموع الأصوات: 211
نشر قبل 16 سنة
القراءات: 77025

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الدلالة الصوتية في القرآن

مظاهر الدلالة الصوتية

انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب ، و توهج العبارة في منظار حياتهم ، و حدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله ، و تناغم الحروف في تركيبه ، و تعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه ، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات ، و تراكيب البيان متلائمة الأصوات ، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها ، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه ، و مع دلالته السمعية من وجه آخر ، فالذي يستلذه السمع ، و تسيغه النفس ، و تقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة و الرقة ، و الذي يشرأب له العنق ، و تتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر و الشدة ، و هنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً و إيجاباً .
و بيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها ، و التي كونت كلمة معين في النص ، و بين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى ، و تتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً ، رقةً أو خشونة ، حتى تدرك بين هذا و ذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة ، أو إذكاء الحفيظة ، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية ، و يستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً ، أو بتناغم الكلمة وحدها ، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه .
إن إيقاع اللفظ المفرد ، و تناغم الكلمة الواحدة ، عبارة عن جرس موسيقى للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن ، أو أثر عند المتلقي ، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية ، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية : " التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها " 1 . فتوحي بأثر موسيقي خاص ، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض ، و يستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته ، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة : الألم ، البهجة ، اليأس ، الرجاء ، الرغبة ، الرهبة ، الوعد ، الوعيد ، الإنذار ، التوقع ، الترصد ، التلبث . . . إلخ .
و لا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة ، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة ، تختلف ـ دون شك ـ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه ، مما يجعل كلمة ما دون كلمة ـ و إن اتحدا بالمعنى ، لها استقلاليتها الصوتية ، إما في الصدى المؤثر ، و إما في البعد الصوتي الخاص ، و إما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى ، و إما بإقبال العاطفة ، و إما بزيادة التوقع ، فهي حيناً تصك السمع ، و حيناً تهيئ النفس ، و حيناً تضفي صيغة التأثر : فزعاً من شيء ، أو توجهاً لشيء ، أو طمعاً في شيء ، و هكذا .
هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ ، و هي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة ، تكونت من حروف مختارة ، فشكلت أصواتاً مختارة ، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى ، و مجالات عديدة ، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس و النغم و الصدى و الإيقاع .
قال الخطابي ( ت : 383 ـ 388 هـ ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة : " لفظ حاصل ، و معنى به قائم ، و رباط لهما ناظم ، و إذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف و الفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ، و لا أجزل ، و لا أعذب من ألفاظه " 2 .
و هذا مما ينطبق على استيحاء الدلالة الصوتية في القرآن بجميع الأبعاد ، يضاف إليه الوقع السمعي للفظ ، و التأثير النفسي للكلمة ، و المدلول الانفعالي بالحدث ، و تلك مظاهر متأنقة قد يتعذر حصرها ، و قد يطول الوقوف عند استقصائها .
و كان من فضيلة القرآن الصوتية أن استوعب جميع مظاهر الدلالة في مجالاتها الواسعة ، و تمرس في استيفاء وجوه التعبير عنها بمختلف الصور الناطقة ، و قد يكون من غير الممكن استحضار جميع الصيغ في استعمالات منها ، أو ما يبدو أنه مهم في الأقل ، و ذلك باستطراد بعض النماذج النابضة فيما أخال و أزعم ، و قد يعبر كل نموذج منها عن مظهر فني ، ليقاس مثله عليه ، و شبيهه به ، و بذلك يتأتى للباحث و المتلقي إلقاء الضوء الكاشف على أبعاد دلالة القرآن الصوتية ، في تشعب جوانبها ، و عظمة انطلاقها ، مما يكوّن معجماً لغوياً خاصاً بمفرداتها ، و قاموساُ صوتياً حافلاً بإمكاناتها .
سيقتصر حديثنا عن مظاهر الدلالة في مجالات قد تكون متقابلة ، أو متناظرة ، أو متضادة ، أو متوافقة ، و هي بمجموعها تكون أبعاد الدلالة الصوتية في القرآن ، و هذا ما تتكفّل بإيضاحه المباحث الآتية .

دلالة الفزع الهائل

استعمل القرآن طائفة من الألفاظ ، ثم اختار أصواتها بما يتناسب مع أصدائها ، و استوحى دلالتها من جنس صياغتها ، فكانت دالة على ذاتها بذاتها ، فالفزع مثلاً ، و الشدة ، و الهدة ، و الاشتباك ، و الخصام ، و العنف ، دلائل هادرة بالفزع الهائل و المناخ القاتل .
1 ـ قف عند مادة " صرخ " في القرآن ، و صرخة : الصّيحة الشديدة عند الفزع ، و الصراخ : الصوت الشديد 3 . لتلمس عن كثب ، و بعفوية بالغة : الاستغاثة بلا مغيث ، في قوله تعالى : ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا ... 4 . مما يوحي بأن الصراخ قد بلغ ذروته ، و الاضطراب قد تجاوز مداه ، و الصوت العالي الفظيع يصطدم بعضه ببعض ، فلا أذن صاغية ، و لا نجدة متوقعة ، فقد وصل اليأس أقصاه ، و القنوط منتهاه ، فالصراخ في شدة إطباقه ، و تراصف إيقاعه ، من توالي الصاد و الطاء ، و تقاطر الراء و الخاء ، و الترنم بالواو و النون يمثل لك رنة هذا الإصطراخ المدوي " و الإصطراخ : الصياح و النداء و الاستغاثة ، افتعال من الصراخ قلبت التاء طاءً لأجل الصاد الساكنة قبلها ، و إنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء و الإطباق ، و يوافق التاء في المخرج " 5 .
و الإصراخ هو الإغاثة ، و تلبية الصارخ ، و قوله تعالى : ﴿ ... مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ... 6 .تعني البراءة المتناهية ، و الإحباط التام ، و الصوت المجلجل في الدفع ، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً ، و لا ينجي أحدهما الآخر من عذاب الله ، و لا يغيثه مما نزل به ، فلا إنقاذ و لا خلاص و لا صريخ من هذه الهوة ، و تلك النازلة ، فلا الشيطان بمغيثهم ، و لا هم بمغيثيه .
و الصريخ في اللغة يعني المغيث و المستغيث ، فهو من الأضداد ، و في المثل : عبدٌ صَريخُه أمة ، أي ناصره أذل منه 7 . و قد قال تعالى : ﴿ ... فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ 8 . فيا له من موقف خاسر ، و جهد بائر ، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة ، و لا إجارة مما وقعوا فيه .
و الاستصراخ الإغاثة ، و استصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ ، و هو الصوت يعلمه بأمر حادث ليستعين به 7 .
قال تعالى : ﴿ ... فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ... 9 . طلب للنجدة في فزع ، و محاولة للإنقاذ في رهب ، و الاستعانة على العدو بما يردعه عن الإيقاع به ، و ما ذلك إلا نتيجة خوف نازل ، و فزع متواصل ، و تشبث بالخلاص.
2 ـ و ما يستوحى من شدة اللفظ في مادة " صرخ " يستوحى بإيقاع مقارب من قوله تعالى : ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ ... 10 . لتبرز " متشاكسون " و هي تعبر لغة عن المخاصمة و العناد و الجدل في أخذ و رَدٍّ لا يستقران ، و قد تعطي معناها الكلمة : متخاصمون ، و لكن المثل القرآني لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي أعطت معنى النزاع المستمر ، و الجدل القائم ، و قد جمعت في هذه الكلمة حروف التفشي و الصفير في الشين و السين تعاقباً ، تتخللهما الكاف من وسط الحلق ، و الواو و النون للمد و الترنم ، و التأثر بالحالة ، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حمّلها أكثر من معنى الخصومة و الجدل و النقاش بما أكسبها أزيزاً في الأذن ، يبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصية بلغت درجة الفورة ، و العنف و الفزع من جهة ، كما أحيط السمع بجرس مهموس معين ذي نبرات تؤثر في الحس و الوجدان من جهة أخرى .
3 ـ و تأمل مادة " كبّ " في القرآن ، و هي تعني إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى : ﴿ ... فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ... 11 . فلا إنقاذ و لا خلاص و لا إخراج ، و الوجه أشرف مواضع الجسد ، و هو يهوي بشدة فكيف بباقي البدن .
و الإكباب جعل وجهه مكبوباً على العمل ، قال تعالى : ﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ... 12 .
و الكبكبة تدهور الشيء في هوة 13 . قال تعالى : ﴿ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ 14 .
و هذه الصيغة قد حملت اللفظ في تكرار صوتها ، زيادة معنى التدهور لما أفاده الزمخشري ( ت : 538 هـ ) بقوله : " إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى " 15 .
و قال العلامة الطيبي ( ت : 743 هـ ) : " كرر الكب دلالة على الشدة " 16 .
و من هنا نفيد أن دلالة الفزع فيما تقدم من ألفاظ أريدت بحد ذاتها لتهويل الأمر ، و تفخيم الدلالة ، و هذا أمر مطرد في القرآن ، و قد يمثله قوله تعالى : ﴿ ... فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ 17 . و المادة نفسها قد توحي بشدة الإتيان والتوقع عند النوائب .
الإغراق في مدّ الصوت و استطالته :
هنالك مقاطع صوتية مغرقة في الطول و المد و التشديد و بالرغم من ندرة صيغة هذه المركبات الصوتية في اللغة العربية حتى أنها لتعدّ بالأصابع ، فإننا نجد القرآن الكريم يستعل أفخمها لفظاً ، و أعظمها وقعاً ، فتستوحي من دلالتها الصوتية مدى شدّتها ، لتستنتج من ذلك أهميتها و أحقيتها بالتلبث و الرصد و التفكير .
من تلك الألفاظ : الحاقّة ، الطّامة ، الصّاخة . و قد تأتي مجّردة عن التعريف فتهتدي إلى عموميتها ، مثل : دابّة . كافة .
هذه الصيغة صوتياً تمتاز بتوجه الفكر نحوها في تساؤل ، و اصطكاك السمع بصداها المدوي ، و أخيراً بتفاعل الوجدان معها مترقباً : الأحداث ، المفاجئات ، النتائج المجهولة .
الحاقة الطامة و الصاخة : كلمات تستدعي نسبة عالية من الضغط الصوتي ، و الأداء الجهوري لسماع رنتها ، مما يتوافق نسبياً مع إرادتها في جلجلة الصوت ، و شدة الإيقاع ، كل ذلك مما يوضع مجموعة العلاقات القائمة بين اللفظ و دلالته في مثل هذه العائلة الصوتية الواحدة ، فإذا أضفنا إلى ذلك معناها المحدد في كتاب الله تعالى ، و هو يوم القيامة ، خرجنا بحصيلة علمية تنتهي بمطابقة الشدة الصوتية للشدة الدلالية بين الصوت و المعنى الحقيقي ، فقوله تعالى : ﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ 18 . إشارة إلى يوم القيامة ، و علم عليها فيما أفاد العلماء ، قال الفرّاء ( ت : 207 هـ ) : " الحاقة : القيامة ، سميت بذلك لأن فيها الثواب و الجزاء " 19 .
و قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) " الحاقة اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين ، و سميت بذلك ، لأنها ذات الحواق من الأمور ، و هي الصادقة الواجبة الصدق ، لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع ، صادقة الوجود . و قيل سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم : " حاققته فحققته ، مثل : خاصمته فخصمته " 20 .
و قيل : لأنها تحق كل إنسان بعمله . و يقال : حقّت القيامة : أحاطت بالخلائق فهي حاقة 21 . فإذا رصدت الصاخة ، رأيتها القيامة أيضاً ، و به فسّر أبو عبيدة ( ت : 210 هـ ) قوله تعالى : ﴿ فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ 22 . فأما أن تكون الصاخة اسم فاعل من صخَّ يصخُّ ، و إما أن تكون مصدراً و قال أبو اسحق الزجاج : الصاخة هي الصيحة تكون فيها القيامة تصخ الأسماع ، أي : تصمها فلا تسمع .
و قال ابن سيده : الصاخة : صيحة تصخ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدتها ، و منه سميت القيامة .
و يقال : كأن في أذنه صاخة ، أي طعنة 23 .
و قال الطريحي ( ت : 1085 هـ ) الصاخة بتشديد الخاء يعني القيامة ، فإنها تصخ الأسماع ، أي تقرعها و تصمها ، يقال : رجل أصخ ، إذا كان لا يسمع 24 . و المعاني كلها متقاربة في الدلالة ، إلا أن الراغب ( ت : 502 هـ ) يعطي الصاخة دلالة أعمق في الإرادة الصوتية المنفردة فيقول : الصاخة شدة صوت ذي المنطق 25 .
فيكون استعمالها حينئذ في القيامة على سبيل المجاز . فإذا وقفنا عند الطامة ، فهي القيامة تطم على كل شيء 26 . و إليه ذهب الزجاج : الطامة هي الصيحة التي تطم على كل شيء 27 . و تسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها : طامة 28 . قال تعالى : ﴿ فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى 29 .قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) " و هي القيامة لأنها تطم كل داهية هائلة ، أي تعلو و تغلب ، و من ذلك قيل : ما من طامة إلا وفوقها طامة ، و القيامة فوق كل طامة ، فهي الداهية العظمى " 30 .
و لعل اختيار الطبرسي للداهية في تفسير الطامة باعتبارها داهية لا يستطاع دفعها ، و لأن القيامة تطم كل داهية هائلة ، لا يخلو من وجه عربي أصيل ، فالعرب استعملت الطامة في الداهية العظيمة تغلب ما سواها ، و أية داهية أعظم من القيامة لاسيما و هي توصف هنا بالكبرى .
إن موافقة أصوات الحاقة و الصاخة و الطامة لمعانيها في الدلالة على يوم القيامة ، من أعظم الدلالات الصوتية في الشدة و الوقع و التلاؤم البنيوي و المعنوي لمثل هذه الصيغة الحافلة .
و دلالة هذه الصيغة في : دابة ، و كافة ، على الشمول و الكلية المطلقة يوحي بالمضمون نفسه في الإيقاع الصوتي ، قال تعالى : ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ 31 ، فشمل الخلائق كلها ، و أصناف الأجناس المرئية و غير المرئية مما يدب أدركناه أو لم ندركه ، علمنا طبيعة رزقه أو لم نعلم ، و قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ... 32 . يدل أن هذا الرسول العربي الأمين ، لم يختص بزمنية ، و لم يبعث لطبقة خاصة ، فتخطى برسالته حدود الزمان و المكان ، فكانت عالمية السيرورة ، إنسانية الأحياء ، البشارة في يد ، و النذارة في يد ، لينقذ العالم أجمع من خلال هاتين.

الصيغة الصوتية الواحدة

و ظاهرة أخرى جديرة بالعناية و التلبث ، هي تسمية الكائن الواحد ، و الأمر المرتقب المنظور ، بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة ، بنسق صوتي متجانس ، للدلالة بمجموعة مقاطعة على مضمونه ، و بصوتيته على كنه معناه ، و من ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى ، في إطار الفاعل المتمكن ، و القائم الذي لا يجحد .
هذه الصيغة الفريدة تهزك من الأعماق ، و يبعثك صوتها من الجذور ، لتطمئن يقيناً إلى يوم لا مناص عنه ، و لا خلاص منه ، فهو واقع يقرعك بقوارعه ، و حادث يثيرك برواجفه . . الصدى الصوتي ، و الوزن المتراص ، و السكت على هائه أو تائه القصيرة تعبير عما ورائه من شؤون و عوالم و عظات و عبر و متغيرات في :
الواقعة | القارعة | الآزفة | الراجفة | الرادفة | الغاشية ، و كل معطيك المعنى المناسب للصوت ، و الدلالة المنتزعة من اللفظ ، و تصل مع الجميع إلى حقيقة نازلة واحدة .
1 ـ الواقعة ، قال تعالى : ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ 33 .
و قال تعالى : ﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ 34 .
قال الخليل : وقع الشيء يقع وقوعاً ، أي : هوياً .
و الواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر 35 .
و قال الراغب ( ت : 502 هـ ) الوقوع ثبوت الشيء و سقوطه ، و الواقعة لا تقال إلا في الشدة و المكروه ، و أكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع : جاء في العذاب و الشدائد 36 .
و قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) في تفسيره للواقعة : " و الواقعة اسم القيامة كالآزفة و غيرها ، و المعنى إذا حدثت الحادثة ، و هي الصّيحة عند النفخة الأخيرة لقيام الساعة . و قيل سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة ، أو لشدة وقعها " 37 . و قال ابن منظور ( ت : 711 هـ ) الواقعة : الداهية ، و الواقعة النازلة من صروف الدهر ، و الواقعة اسم من أسماء يوم القيامة 38 .
و باستقراء هذه الأقوال ، و مقارنة بعضها ببعض ، تتجلى الدلالة الصوتية ، فالوقوع هو الهوي ، و سقوط الشيء من الأعلى ، و الواقعة هي النازلة الشديد ، و الواقعة هي الداهية ، و هي الحادثة ، و هي الصيحة ، و هي اسم من أسماء يوم القيامة ، و أكثر ما جاء في القرآن من هذه الصيغة جاء في الشدة و العذاب ، و صوت اللفظ يوحي بهذا المعنى ، و أطلاقه بزنة الفاعل ، و إسناده بصيغة الماضي ، يدلان على وقوعه في شدته و هدته ، و صيحته و داهيته .
2 ـ القارعة ، قال تعالى : ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ 39 .
و قال تعالى : ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ 40 .
قال الخليل ( ت : 175 هـ ) : و القارعة : القيامة . و القارعة : الشدة .
و فلان أمن قوارع الدهر : أي شدائده . و قوارع القرآن : نحو آية الكرسي ، يقال : من قرأها لم تصبيه قارعة .
وكل شيء ضربته فقد قرعته . قال أبو ذؤيب الهذلي 41 .
حتى كأني للحوادث مروة *** بصفا المشرق كل يوم تقرع
قال الطبرسي : و سميت القارعة ، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن 42 . و القارعة اسم من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع ، و تقرع أعداء الله بالعذاب 43 .
و أنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة 44 .
و بمقارنة هذه المعاني ، نجدها متقاربة الدلالة ، فالقارعة الشدة ، و قوارع الدهر شدائده ، و كل شيء ضربته فقد قرعته ، و القارعة تقرع القلوب بالفزع ، و قلوب العباد بالمخافة ، و أعداء الله بالعذاب ، و هي في موضع كناية للتعبير عن القيامة ، من أجل التذكير بصفة القرع ، و كلها مفردات إيحائية تؤذن بالقرع في الأذن ، و تفزع القلوب بالشدة ، تتوالى خلالها المترادفات و المشتركات ، لتنتقل بك إلى عالم الواقعة ، و هي مجاورة لها في الشدة و الهول و الصدى و الإيقاع .
3 ـ الآزفة ، قال تعالى : ﴿ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ 45 .
و قال تعالى : ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ 46 .
قال الراغب : معناه : أي دنت القيامة ... فعبر عنها بلفظ الماضي لقربها و ضيق وقتها 47 .
و قال الطبرسي : ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ... 48 . أي الدانية . و هو يوم القيامة ، لأن كل ما هو آت دان قريب 49 .
قال الزمخشري : و الآزفة ، القيامة لأزوفها 50 .
و في اللغة : الآزفة القيامة ، و إن استبعد الناس مداها 51 .
و الآزفة : الدانية من قولهم أزف الأمر إذا دنا وقته 49 .
و رقة الآزفة في لفظها بانطلاق الألف الممدودة من الصدر ، و صفير الزاي من الأسنان ، و انحدار الفاء من أسفل الشفة ، و السكت على الهاء منبعثة من الأعماق ، كالرقة في معناها في الدنو و الاقتراب و حلول الوقت ، و مع هذه الرقة في الصوت و المعنى ، إلا أن المراد من هذا الصفير أزيزه ، و من هذا التأفف هديره و رجيفه ، فادناء يوم القيامة غير إدناء الحبيب ، و اقتراب الساعة غير اقتراب المواعيد ، أنه دنو اليوم الموعود ، و الحالات الحرجة ، و الهدير النازل ، إنه يوم القيامة في شدائده ، فكانت الآزفة كالواقعة و القارعة .
4 ـ الراجفة و الرادفة ، قال تعالى : ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا 52 و تبدأ القيامة بالراجفة ، و هي النفخة الأولى ( تتبعها الرادفة ) و هي النفحة الثانية 53 .
و هو المروي عن ابن عباس و مجاهد و الحسن و قتادة و الضحاك 54 .قال الزمخشري ( ت : 538 هـ ) " الراجفة : الواقعة التي ترجف عندها الأرض و الجبال و هي النفحة الأولى ، وصفت بما يحدث بحدوثها ( تتبعها الرادفة ) أي الواقعة التي تردف الأولى ، و هي النفحة الثانية ، أي القيامة التي يستعجلها الكفرة ، إستبعاداً لها و هي رادفة لهم لاقترابها . و قيل الراجفة : الأرض و الجبال من قوله : ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ ... 55 و الرادفة : السماء و الكواكب لأنها تنشق و تنتثر كواكبها إثر ذلك " 56 . و قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) الراجفة : يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق ، و الراجفة صيحة عظيمة فيها تردد و اضطراب كالرعد إذا تمخض ( تتبعها الرادفة ) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى ، و هي التي يبعث معها الخلق 57 .
و بمتابعة هذه المعاني : النفخة الأولى ، النفخة الثانية ، الصيحة ، التردد ، الاضطراب ، الواقعة التي ترجف عندها الأرض و الجبال ، الواقعة التي تردف الراجفة ، انشقاق السماء ، انتثار الكواكب ، الرعد إذا تمخض ، بعث الخلائق و انتشارهم . . إلخ .
بمتابعة أولئك جميعاً يتجلى العمق الصوتي في المراد كتجليه في الألفاظ دلالة على الرجيف و الوجيف ، و التزلزل و الاضطراب ، و تغيير الكون ، و تبدل العوالم ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ 58 .
فتعاقبت معالم الراجفة و الرادفة مع معالم الواقعة و القارعة و الآزفة ، و تناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعاني في الصدى و الأوزان .
5 ـ الغاشية ، قال تعالى : ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ 59 . و هو خطاب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم يريد قد أتاك حديث يوم القيامة بغتة عن ابن عباس و الحسن و قتادة 60 .
قال الراغب ( ت : 502 هـ ) الغاشية كناية عن القيامة و جمعها غواش 61 .
و قال الزمخشري ( ت : 538 هـ ) : الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها و تلبسهم أهوالها ، يعني القيامة 62 .
و قال ابن منظور ( ت : 711 هـ ) الغاشية القيامة ، لأنها تغشى الخلق بأفزاعها ، و قيل الغاشية : النار لأنها تغشى وجوه الكفار . و قيل للقيامة غاشية : لأنها تجلل الخلق فتعمهم 63 .
و بمقارنة هذه الأقوال ، و ضم بعضها إلى بعض ، يبدو أن الغاشية كني بها عن القيامة لأنها تغشى الناس بأهوالها ، و تعم الخلق بأفزاعها ، فهي تجللهم الإحاطة من كل جانب ، و قد تكون هي النار التي تغشى وجوه الكفار ، و هي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها ، و تلبسهم أهوالها . . إلخ .
إذن ، ما أقرب هذا المناخ المفزع ، و الأفق الرهيب لمناخ الواقعة و القارعة و الآزفة و الراجفة و الرادفة ، إنه منطلق واحد ، في صيغة واحدة ، صدى هائل تجتمع فيه أهوالها ، و صوت حافل تتساقط حوله مصاعبها ، تتفرق فيه الألفاظ لتدل في كل الأحوال على هذه الحقيقة القادمة ، حقيقة يوم القيامة برحلتها الطولية ، في الشدائد ، و النوازل ، و القوارع ، و الوقائع ، لتصور لنا عن كثب هيجانها و غليانها ، و شمولها و إحاطتها :
﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ 64 .

دلالة الصدى الحالم

تنطلق في القرآن أصداء حالمة ، في ألفاظ ملؤها الحنان ، تؤدي معناها من خلال أصواتها ، و توحي بمؤداها مجردة عن التصنيع و البديع ، فهي ناطقة بمضمونها هادرة بإرادتها ، دون إضافة و إضاءة ، و ما أكثر هذا المنحنى في القرآن ، و ما أروع تواليه في آياته الكريمة ، و لنأخذ عينة على هذا فنقف عند الرحمة من مادة " رحم " في القرآن الكريم بجزء من إرادتها ، و لمح من هديها .
قال تعالى : ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ... 65 .
و قال تعالى : ﴿ ... لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ 66 .
و قال تعالى : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ... 67 .
و قال تعالى : ﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا 68 .
و قال تعالى : ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ... 69 .
و قال تعالى : ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا 70 .
فأنت تنادي من صدى " الرحمة " بأزيز حالم ، و تحتفل من صوتها بنداء يأخذ طريقه إلى العمق النفسي ، يهز المشاعر ، و يستدعي العواطف ، ناضحاً بالرضا و الغبطة و البهجة ، رافلاً بالخير و الإحسان و الحنان ، فماذا يرجو أهل الإيمان أكثر من اقتران صلوات ربهم برحمته بهم و عليهم ، و لمغفرة من الله تعالى و رحمة خير مما تجمع خزائن الأرض و كنوزها ، و هذا محمد صلى الله عليه و آله و سلم ذو الخلق العظيم ، و المخائل الفذة ، لولا رحمة ربه لما لان لهؤلاء القوم الأشداء في غطرستهم و غلظتهم ، و هذا زكريا تتداركه رحمة من الله و بركات في أوج احتياجه و فزعه إلى الله عزَّ و جلَّ : ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا 71 .
فيهب له يحيى ﴿ ... وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ... 72 .
و وقفة مستوحية عند الأبوين الكريمين ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا 70 . فستلمس صيغة الرحمة قد تجلت بأرق مظاهرها الصادقة و أرقاها ، توجيه رحيم ، و استعارة هادفة ، و عاطفة مهذبة ، فقد اقترنت الرحمة بالاسترحام ، و خفض الجناح بتواضع بل بذل إشفاقاً و حنواً و حدباً ، فكما يخفض الطائر الوجل أو المطمئن السارب جناحيه حذراً أو عطفاً أو احتضاناً لصغاره حباً بهم ، أو صيانة لهم من كل الطوارئ ، أو هما معاً ، فكذلك رحمة الولد البار بوالديه شفقة و رعاية ، مواساة و معاناة ، في حالتي الصحة و السقم ، الرضا و الغضب ، و الدعة والاحتياج ، يضاف إلى ذلك الدعاء من الأعماق " وقل رب ارحمها " مجازاة على تربيته صغيراً ، و الرحمة ، و ارحمها ، لفظان متلازمان في بحة الحاء المنطلقة من الصدر فهي صوتياً مثلها دلالياً من القلب و إلى القلب ، و من الشغاف إلى الشغاف ، و هنا يظهر أن الرحمة ظاهرة واقعية تنبعث من داخل النفس الإنسانية ، فيتفجر بها الضمير الحي النابض بالطهارة و النقاء و الحب السرمدي ، فهي إذن لا تفرض من الخارج بالقوة و القهر و الإستطالة ، و إنما سبيلها سبيل الماء المتدفق من الأعالي لأنها صفة ملائكية ، تمزج الإنسانية بالصفاء الروحي .
" و الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، و قد تستعمل تارة في الرقة المجردة ، و تارة في الإحسان المجرد عن الرقة نحو : رحم الله فلاناً . و إذا وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة ، و على هذا روي أن الرحمة من الله إنعام و إفضال ، و من الآدميين رقة و تعطف " 73 .
فالله تعالى تفرد بالإحسان في رحمته إلى رعيته ، فجاء له الحمد مساوقاً لهذه الرحمة ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 74 . و نشر الرقة بين البشر في الطباع ﴿ ... لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ... 75 .
و لو تابعنا أصل المادة لغوياً لوجدنا ملائمتها للمعنى صوتياً في الرقة و اللحمة و التناسب ، فالرحم رحم المرأة ، قل تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء ... 76 . و منه استعير الرحم للقرابة لكونهم من رحم واحدة نسبياً ، لذلك قال تعالى : ﴿ ... وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ... 77 . و لولا قرابتهم لما كانت الولاية بينهم .
فكان الالتصاق في الرحم قد نشر الالتصاق بالولاية من جهة ، و جدد الرحمة بالرقة و المودة و العطف الكريم .

دلالة النغم الصارم

أصوات الصفير في وضوحها ، و أصداؤها في أزيزها ، جعل لها وقعاً متميزاً ما بين الأصوات الصوامت ، و كان ذلك ـ فيما يبدو لي ـ نتيجة التصاقها في مخرج الصوت ، و اصطكاكها في جهاز السمع ، و وقعها الحاصل ما بين هذا الالتصاق و ذلك الاصطكاك ، هذه الأصوات ذات الجرس الصارخ هي : الزاي ، السين ، الصاد ، يلحظ لدى استعراضها أنها تؤدي مهمة الإعلان الصريح عن المراد في تأكيد الحقيقة ، و هي بذلك تعبر عن الشدة حيناً ، و عن العناية بالأمر حيناً آخر ، مما يشكل نغماً صارماً في الصوت ، و أزيزاً مشدداً لدى السمع ، يخلصان إلى دلالة اللفظ في إرادته الإستعمالية ، و مؤداه عند إطلاقه في مظان المعنى .
و سأقف عند ثلاث صيغ قرآنية ختمت بحروف الصفير ، لرصد أبعادها الصوتية ، هي : " رجز " و " رجس " و " حصحص " .
1ـ الرجز ، في مثل قوله تعالى : ﴿ ... أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ 78 .
و قوله تعالى : ﴿ ... لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ ... 79 .
و قوله تعالى : ﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ ... 80 .
و يظهر في أصل الرجز الاضطراب لغة ، فتلمس فيه الزلزلة في ارتجاجها ، و الهدة عند حدوثها ، و النازلة في وقوعها ، و لما كان القرآن العظيم يفسر بعضه بعضها ، فإننا نأنس على هذه المعاني في كل من قوله تعالى : ﴿ ... فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ 81 .
و قوله تعالى : ﴿ ... فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ 82 .
و قوله تعالى : ﴿ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ 83 . و نستظهر في الرجز الإرسال و الإنزال من السماء بضرس قاطع و أمر كائن باعتبار آخر العلاج بعد التحذير و الإنذار .
2 ـ و حينما نقارن لفظ " الرجز " بمثيله معنى و مبنى " رجس " و هي مكونة كتكوينها في الراء و الجيم ، و السين كالزاي من حروف الصفير شديدة الاحتكاك في مخرج الصوت ، و لها ذات الإيقاع على الأذن ، حينما نقارن صوتياً و دلالياً بين الصوتين نجد المقاطع واحدة عند الانطلاق من أجهزة الصوت ، و نجد المعاني متقاربة في الإفادة ، فقد قيل للصوت الشديد : رجس و رجز ، و بعير رجاس شديد الهدير ، و غمام راجس ، و رجاس شديد الرعد .
قال تعالى : ﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ... 84 .
و قال تعالى : ﴿ ... وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ 85 .
كل هذه الاستعمالات متواكبة دلالياً في ترصد العذاب و صبّه و إنزاله ، و هذا لا يمانع من أن تضاف للرجس جملة من المعاني الأخرى لإرادة الدنس و القذارة و مرض القلوب ، و حالات النفس المتقلبة ، نرصد ذلك في كل من قوله : ﴿ ... إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 86 .
و قال تعالى : ﴿ ... فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ... 87 .
و قال تعالى : ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 88 .
و قال تعالى : ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ 89 .
فالصوت في المعاني كلها الصوت نفسه ، والصدى ذات الصدى ، و من هنا أورد الراغب ( ت : 502 هـ ) : أن الرجس يقع على أربعة أوجه : إما من حيث الطبع ، و أما من جهة العقل ، و إما من جهة الشرع ، و إما من كل ذلك . و الرجس من جهة الشرع الخمر و الميسر ، و قيل : إن ذلك رجس من جهة العقل ، و جعل الله تعالى الكافرين رجساً من حيث أن الشرك بالعقل أقبح الأشياء 90 .
3 ـ و حينما نقف عند الصاد في مثل قوله تعالى : ﴿ ... قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ... 91 . فإننا نستمع إلى الصوت المدوّي ، إذ كانت الصاد واضحة الصدور من المخرج الصوتي . فكانت " حصحص " واضحة الظهور بانكشاف الأمر فيما يقهره على الإذعان ، و هنا قد يمتلكك العجب لدى اختيار هذا اللفظ في أزيزه ، و وضوح أمره مع القهر ، فلا تردّ دلائله ، و لا تخبو براهينه .
فإذا شددت الصاد كانت دلالتها الصوتية ، و إرادتها المعنوية ، أوضح لزوماً ، و أشد استظهاراً ، و أكثر إمعاناً كما في قوله تعالى : ﴿ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ 92 .
فالتحصيل إخراج اللب من القشور ، كإخراج الذهب من حجر المعدن ، و البر من السنابل ، فهو إظهار لما فيها كإظهار اللب من القشر ، أو كإظهار الحاصل من الحساب 93 .
و الصوت في صيغة الإرعاب ، و في سياق الوعيد ، قد تلمس فيه نزع ما في القلوب من أسرار ، و استخراج ما فيها من خفايا ، دون طواعية من أصحابها ؟؟ .
و قد يعطي دوي العبارة ، و هيكل البيان ، صيغة الإنذار ، و أنت تصطدم بالوقوف عند السين من حروف الصفير في قوله تعالى : ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ 94 .

الصوت بين الشدة و اللين

و لا نريد بهذا الملحظ المظاهر الصوتية للحروف الشديدة أو حروف اللين ، و إنما نريد الدلالة الأصواتية للكلمات و هي تتشكل في سياق يمثل الشدة حيناً ، و الرقة حيناً آخر ، في دلالة تشير إلى أحدهما أولهما في ذات اللفظ ، أو جملة العبارة .
و من فضيلة النظم القرآني أن تنتظم هذه الظاهرة في الصوائت و الصوامت من الأصوات ، و الصوائت ما ضمت حروف العلة عند علماء الصرف ، و هي : الألف و الياء و الواو ، و الصوامت بقية حروف المعجم ، و هي الصحيحة غير المعتلة .
و يبدو أن الأصوات الصائتة بعد هذا هي الأصوات المأهولة بالانفتاح المتكامل لمجرى الهواء ، فتنطلق دون أي دوي أو ضوضاء ، و تصل إلى الأسماع مؤثرة فيها تأثيراً تلقائياً في الوضوح و الصفاء ، و علة ذلك انبساطها مسترسلة دون تضيق في المخارج .
و يتضح من هذا أن الأصوات الصامتة ما كانت بخلاف ذلك فهي تتسم بتضيّق مجرى الهواء و اختلاسه ، فتنطلق أصواتها بأصداء مميزة تختلف شدة و ضعفاً بحسب مخارجها فتحدث الضوضاء من خلالها نتيجة احتباس الهواء بقدر ما .
ففي الصوائت نلحظ قوله تعالى : ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 95 . في اقتران الواو و الألف في موضع واحد من سوى و تقوى ، كما نلحظ اقتران الياء و الألف في سقيا من قوله تعالى : ﴿ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا 96 .
فتجد استطالة هذين الحرفين في كلا الموضعين ، لا يصدهما شيء صوتياً ، و هما يتراوحان دلالياً في ألفاظ تحتكم الشدة و اللين ، فالتذكير بخلق النفس الإنسانية قسماً إلى جنب عملها بين الفجور و التقوى ، و التحذير من الناقة إلى جنب التحذير من منع السقيا .
و في الصوامت تجد مادة " مسّ " قي القرآن بأزيزها الحاكم ، و صوتها المهموس ، و نغمها الرقيق ، نتيجة لتضعيف حرف الصفير ، أو التقاء حرفيه متجاورين كقوله تعالى : ﴿ ... وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ... 97 .
هذه المادة في رقتها صوتياً ، و شدتها دلالياً ، تجمع بين جرس الصوت الهادئ ، و بين وقع الألم الشديد ، فالمس يطلق ـ عادة ـ و يراد به كل ما ينال الإنسان من أذى و مكروه في سياق الآيات التالية :
قال تعالى : ﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ... 98 .
و قال تعالى : ﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم ... 99 .
و قال تعالى : ﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ... 100 .
و قال تعالى : ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ... 101 .
و قال تعالى : ﴿ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ ... 102 .
و قال تعالى : ﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 103 .
و قال تعالى : ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 104 .
فهذه الصيغ المختلفة من المادة ، أوردناها للدلالة على شدة البلاء ، و وقع المصاب ، و فرط الأذى ، و اللفظ فيها رفيق رقيق ، و لكن المعنى شديد غليظ .
و للدلالة على هذا الملحظ ، فقد وردت المادة في صوتها الحالم هذا مقترنة بالمس الرفيق لاستخلاص الأمرين في حالتي ، السراء و الضراء ، الشر و الخير ، كما في كل من قوله تعالى :
أ ـ ﴿ ... وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء ... 105 .
ب ـ ﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا 106 .
فالضراء تمسهم إذن ، و السراء تمسهم كذلك ، و الشر يمسهم و الخير كذلك ، و لم يشأ القرآن العظيم تغيير المادة بل اللفظ عينه في الحالتين ، و ذلك للتعبير عن شدة الملابسة و الملامسة و الالتصاق .
و كما ورد اللفظ في مقام الضر منفرداً في أغلب الصيغ ، و ورود مثله جامعاً لمدركي الخير و الشر ، فقد ورد للمس الجميل خاصة في قوله تعالى : ﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ... 107 .
و قد ينتقل هذا اللفظ بدلائله إلى معان آخر ، لا علاقة لها بهذا الحديث دلالياً ، و إن تعلقت به صوتياً ، كما في إشارة القرآن إلى المس بمعنيين مختلفين أخريين.
الأول : كنى فيه بالمس عن النكاح في كل من قوله تعالا :
أ ـ ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ... 108 .
ب ـ ﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ ... 109 .
الثاني : و قد عبر فيه بالمس عن الجنون كما في قوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ... 110 .
و قد اجتمعت كلها في طبيعة الصوت .

الألفاظ دالة على الأصوات

توافرت طائفة من الألفاظ الدقيقة عند إطلاقها في القرآن ، و تتميز هذه الدقة بكون اللفظ يدل على نفس الصوت ، و الصوت يتجلى فيه ذات اللفظ ، بحيث يستخرج الصوت من الكلمة ، و تؤخذ الكلمة منه ، و هذا من باب مطابقة الألفاظ للمعاني بما يشكل أصواتها ، فتكون أصوات الحروف على سمت الأحداث التي يراد التعبير عنها .
و نضع فيما يأتي أمثلة لهذا الملاحظ في بعض ألفاظ القرآن العظيم :
1- مادة " خر " توحي في القرآن بدلالتها الصوتية بأن هذا اللفظ جاء متلبساً بالصوت على سمت الحدث في كل من قوله تعالى :
أ ـ ﴿ ... وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء ... 111 .
ب ـ ﴿ ... فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ... 112 .
ج‍ ـ ﴿ ... فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ... 113 .
د ـ ﴿ ... فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ 114 .
فإن هذا اللفظ و قد جاء بصيغة واحدة في عدة استعمالات ، يدل بمجمله على السقوط و الهُوي ، و هذا السقوط ، و ذلك الهُوي : مصحوبان بصوت ما ، و هذا الصوت هو الخرير ، و الخرير هو صوت الماء ، أو صوت الريح ، أو صوتهما معاً ، فالحدث على هذا مستلٌّ من جنس الصوت ، و من هنا يستشعر الراغب ( المتوفى : 502 ه‍ ) دلالة اللفظ الصوتية فيقول : " فمعنى خرّ سقط سقوطاً يُسمع منه خرير ، و الخرير يقال لصوت الماء و الريح و غير ذلك مما يسقط من علو ...
و قوله تعالى : ﴿ ... خَرُّوا سُجَّدًا ... 115 فاستعمال الخر تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط ، و حصول الصوت منهم بالتسبيح ، و قوله من بعده ﴿ ... وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ... 115 . فتنبيه أن ذلك الخرير كان تسبيحاً بحمد الله لا بشيء آخر " .
2- مادة " صرّ " في كلمة " صر " من قوله تعالى :
( كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ) .
أو كلمة " صرصر " في كل من قوله تعالى :
أ ـ ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ 116 .
ب ـ ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ 117 .
هذه المادة في هذه الصيغ الثلاث : مرفوعة ، مجرورة ، منصوبة ، وردت في القرآن و أنت تلمس فيها اصطكاك الأسنان ، و ترديد اللسان ، فالصاد في وقعها الصارخ ، و الراء المضعّفة ، و التكرار للمادة في " صرصر " ، قد أضفى صيغة الشدة ، و جسّد صورة الرهبة ، فلا الدفء بمستنزل ، و لا الوقاية متيسرة ، و ذلك ما يهد كيان الإنسان عند التماسه الملجأ فلا يجده ، أو النجاة فلا يصل شاطئها ، أو الوقاية من البرد القارس فلا يهتبلها.
في لفظ " الصر " ذائقة الشتاء ، و نازلة الثلوج ، و أصوات الرياح العاتية ، مادة الصر إذن : كما عبر عنها الراغب ( المتوفى : 502 ه‍ ) : " ترجع إلى الشدة لما في البرودة من التعقد " .
و الذكر الحكيم حافل بالألفاظ دالة على الأصوات ، جرياً على سنن العرب في تسمية اللفظ باسم صوته .
والله تعالى أعلم .

اللفظ المناسب للصوت المناسب

كل لفظ في القرآن الكريم أختير مكانه و موضعه من الآية أو العبارة أو الجملة فإن غيره لا يسد مسدّه بداهة ، فقد اختار القرآن اللفظ المناسب في الموقع المناسب من عدة وجوه ، و بمختلف الدلالات ، إلا أن استنباط ذلك صوتياً يوحي باستقلالية الكلمة المختارة لدلالة أعمق ، و إشارة أدق ، بحيث يتعذر على أية جهة فنية استبدال ذلك بغيره ، إذ لا يؤدي غيره المراد الواعي منه ، و ذلك معلم من معالم الإعجاز البياني في القرآن .
1ـ في قوله تعالى : ﴿ ... يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ... 118 . جرس موسيقي حالم ، و صدى صوتي عميق ، و إطلاق للأصوات من أقصى الحلق و ضمها للشفة ثم إعادة إطلاقها ، فيما به يتعين موقع " أوبي " بحيث لا يسدّ مسدّها غيرها من الألفاظ ، فالمراد بها ترجيع التسبيح من آب يؤوب ، على جهة الإعجاز بحيث تسبح الجبال ، و هو خلاف العادة ، و خرق لنواميس الكون في ترديد الأصوات من قبل ما لا يصوت ، و لو استبدل هذا اللفظ في غير القرآن لعاد النظر مهلهلاً ، و الدلالة الصوتية منعدمة .
قال الزمخشري ( ت : 538 هـ ) : " فإن قلت : أي فرق بين هذا النظم و بين أن يقال : و آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه و الطير ؟ قلت : كم بينهما ؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى من الدلالة على عزة الربوبية ، و كبرياء الألوهية ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا و أذعنوا ، و إذا دعاهم سمعوا و أجابوا ، أشعاراً بأنه ما من حيوان و جماد ، و ناطق و صامت إلا و هو منقاد إلى مشيئته ، غير ممتنع عن إرادته " 119 .
و تقرأ الآية : ﴿ ... يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ... 118 . بالتشديد ، وتقرأ بالتخفيف ، فمن قرأ ( أوبي ) بالتشديد فمعناه : يا جبال سبِّحي معه ، و رَجِّعي التسبيح لأنه قال : سخرنا الجبال معه يسبحن ، و من قرأ ( أوبي ) بالتخفيف ، فمعناه : عودي معه بالتسبيح كلما عاد فيه 120 .
فالنظام الصوتي بهذا هو الذي يحقق المعنى الجملي ، فإن كانت ( أوبي ) بالتشديد ، و هي القراءة المتعارفة ، فالمراد : التسبيح في ترديده و ترجيعه ، و إن كانت بالتخفيف ، فتعني الرجوع و الأوبة ، و عليه فالمراد إذن : العودة إلى التسبيح كلما عاد :
2 ـ في قوله تعالى : ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ 121 . تبرز كلمة " أوهن " لتعطي معنى الضعف ، و قد تحقق هذا المعنى كلمة ( أوها ) و لكن القرآن الكريم استعمل أوهن دون أوها ، و ذلك لما يفرزه ضم حروف الحلق ، و أقصا الحلق إلى النون من التصاق و غنة لا تتأتى بضم الألف المقصورة إليها صوتياً ، و حينئذ تصل الكلمة إلى الأسماع ، و تصك الآذان ، و هي تحمل لوناً باهتاً للعجز مؤكداً بضم هذه النون ـ من ملحظ صوتي فقط ـ إلى تلك الحروف لتحدث واقعًا خاصاً يشعر بالضعف المتناهي لا بمجرد الضعف وحده . و كان هذا بتأثير مباشر من دلالة اللفظ الصوتية ، إذ أحدثت فيها النون و هي من الصوامت الأنفية صدى و إيقاعاً لا تحدثه الألف المقصورة و هي صوت حلقي خالص ، لا غنة معه ، و لا ضغط ، و لا إطباق .
و هذا التشبيه باختيار هذا اللفظ صوتياً ، يجمع إليه إيحائياً دلالة أن الأصنام و الأشخاص و القيم اللاإنسانية . . واهنة متداعية عاجزة حتى عن حماية كيانها ، و صيانة وجودها ، لأنها في تكوين رخو واهن ، و بناء تتداعى أركانه ، و مثل هذا التكوين و ذلك البناء لا اعتماد عليهما ، و لا اعتداد بهما ، إنما القوة بالله ، و الحماية من الله ، و الالتجاء إلى الله فهو وحده الركن القويم .
قال الزمخشري ( ت : 538 هـ ) : " و قد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، و كما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون " 122 .
و إذا كان القرآن الحكيم قد امتاز بتخير الألفاظ و انتقائها ، فإنه يرصد بذلك ما لهذه الألفاظ دون تلك :
" من قوة تعبيرية ، بحيث يؤدي بها فضلاً عن معانيها العقلية ، كل ما تحمل في أحشائها من صور مدخرة ، و مشاعر كامنة ، لفّت نفسها لفاً حول ذلك المعنى العقلي " 123 .
و هو ما تنبّه إليه الزمخشري في تعليله ذلك من ذي قبل .
3 ـ و في قوله تعالى : ﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 124 .
تنهض كلمة " كل " و هي صارخة مشرأبة ، لتوحي عادة بمعنى العالة في أبرز مظاهرها ، و قد استعملها القرآن لإضاءة المعنى بما فيها من غلظة و شدة و ثقل ، لهذا الصدى الصوتي الخاص المتولد من احتكاك الكاف و إطباق اللام على اللهاة ، و ما ينجم عن ذلك من رنة في الذاكرة ، و شدة على السمع ، فصوت الكاف في العربية ، و هو من حروف الإطباق ، شديد انفجار مهموس ، و صوت اللام في العربية ، و هو من حروف الأسنان و اللثة ، مجهور متوسط بين الشدة و الرخاوة 125 .
و قد اجتمع المهموس و المجهور معاً في هذا اللفظ ، فإذا علمنا أن المهموس هو الصوت الذي يظل النفس عند النطق به جارياً لا يعوقه شيء ، و أن المجهور هو الصوت الذي يمتنع النفس عن الجريان به عند النطق أدركنا سر اجتماع الكاف المهموسة و اللام المجهورة في هذا اللفظ ، و ما في ذلك من عسر في اللفظ دال على المعنى و غلظته .
يقول أستاذنا المخزومي : " فإذا اجتمع صوت مجهور ، و آخر مهموس ، فقد اجتمع صوتان مختلفان لكل منهما طبيعة خاصة ، و الجمع بين هذين الصوتين يقتضي عضو النطق أن يعطي كل صوت منهما حقه ، و في ذلك عسر لا يخفى ، فإذا تألفت كلمة و قد تجاور فيها صوتان ، أحدهما مجهور ، و الآخر مهموس ، فما يزال أحدهما يؤثر في الآخر حتى يصيرا مجهورين معاً ، أو مهموسين معاً " 126 .
لقد ظل النفس جارياً مستطيلاً في اللام عند مجاورتها للكاف ، و زاد التشديد في استطالتها ، لتوحي الكلمة بأبعادها الصوتية : بأن هذا العبد شؤم لا خير معه ، و بهيمة لا أمل بإصلاحه ، فهو عالة وزيادة ، بل هو " كل " بكل التفصيلات الصوتية لهذا اللفظ .
لقد كان اختيار اللفظ المناسب للصوت المناسب حقلاً يانعاً في القرآن لا للدلالة الصوتية فحسب ، بل لجملة من الدلالات الإيحائية و اللغوية و الهاميشية ، و تلك ميزة القرآن الكريم في تخير الألفاظ  127 .

5 تعليقات