الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الشك و الحيرة

كانت أجوبة السيد محمد باقر الصدر ، واضحة و مقنعة و لكن أنى لها أن تغوص في أعماق واحد مثلي قضى خمسة و عشرين عاما من عمره على مبدأ تقديس الصحابة و احترامهم و خصوصا الخلفاء الراشدين الذين أمرنا رسول الله بالتمسك بسنتهم و السير على هديهم ، و على رأس هؤلاء سيدنا أبو بكر الصديق و سيدنا عمر الفاروق ، و إني لم أسمع لهما ذكرا منذ قدمت العراق ، و إنما سمعت أسماء أخرى غريبة عني أجهلها تماما ، و أئمة بعدد إثنى عشر إماما ، و إدعاء بأن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) قد نص على الإمام علي بالخلافة قبل وفاته ، كيف لي أن أصدق ذلك .
أي أن يتفق المسلمون و هم الصحابة الكرام خير البشر بعد رسول الله و يتصافقوا ضد الإمام علي كرم الله وجهه ، و قد علمونا منذ نعومة أظافرنا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحترمون الإمام عليا و يعرفون حقه فهو زوج فاطمة الزهراء و أبو الحسن و الحسين و باب مدينة العلم ، كما يعرف سيدنا علي حق أبي بكر الصديق الذي أسلم قبل الناس جميعا و صاحب رسول الله في الغار ذكره الله تعالى في القرآن ، و قد ولاه رسول الله إمامة الصلاة في مرضه و قد قال ( صلى الله عليه و آله ) : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، و لكل ذلك اختاره المسلمون خليفة لهم ، كما يعرف الإمام علي حق سيدنا عمر الذي أعز الله به الإسلام و سماه رسول الله بالفاروق الذي يفرق بين الحق و الباطل كما يعرف حق سيدنا عثمان الذي استحت منه ملائكة الرحمن و الذي جهز جيش العسرة و سمَّاه رسول الله بذي النورين ، فكيف يجهل إخواننا الشيعة كل هذا أو يتجاهلونه و يجعلون من هؤلاء أشخاصا عاديين تميل بهم الأهواء و الأطماع الدنيوية عن إتباع الحق فيعصون أوامر الرسول بعد وفاته و هم الذين كانوا يتسابقون لتنفيذ أوامره فيقتلون أولادهم و آباءهم و عشيرتهم في سبيل عزة الإسلام و نصرته ، و الذي يقتل أباه و ولده طاعة لله و رسوله لا يمكن أن تغره أطماع دنيوية زائلة هي اعتلاء منصة الخلافة فيتجاهل أمر رسول الله و يتركه ظهريا .
نعم من أجل كل هذا ما كنت لأصدق الشيعة في كل ما يقولون رغم أني اقتنعت بأمور كثيرة ، و بقيت بين الشك و الحيرة ، الشك الذي أدخله علماء الشيعة في عقلي لان كلامهم معقول و منطقي ، و الحيرة التي غمرتني فلم أصدق أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينزلون إلى هذا المستوى الأخلاقي فيصبحون بشرا عاديين مثلنا ، لم تصقلهم أنوار الرسالة و لم يهذبهم الهدى المحمدي ؟ يا إلهي كيف يكون ذلك ؟ أيمكن أن يكون الصحابة على هذا المستوى الذي يقول به الشيعة ؟ و المهم هو أن هذا الشك و هذه الحيرة هما بداية الوهن و بداية الاعتراف بأن هناك أمورا مستورة لابد من كشفها للوصول إلى الحقيقة .
جاء صديقي منعم و سافرنا إلى كربلاء ، و هناك عشت محنة سيدنا الحسين كما يعيشها شيعته و علمت وقتئذ بأن سيدنا الحسين لم يمت ، فالناس يتزاحمون و يتراصون حول ضريحه كالفراشات و يبكون بحرقة و لهفة لم أشهد لهما مثيلا ، فكأن الحسين استشهد الآن ، و سمعت الخطباء هناك يثيرون شعور الناس بسردهم لحادثة كربلاء في نواح و نحيب ، و لا يكاد السامع لهم أن يمسك نفسه و يتماسك حتى ينهار ، فقد بكيت و بكيت و أطلقت لنفسي عنانها و كأنها كانت مكبوتة ، و أحسست براحة نفسية كبيرة ما كنت أعرفها قبل ذلك اليوم ، و كأني كنت في صفوف أعداء الحسين و انقلبت فجأة إلى أصحابه و أتباعه الذين يفدونه بأرواحهم ، و كان الخطيب يستعرض قصة الحر و هو أحد القادة المكلفين بقتال الحسين ، و لكنه وقف في المعركة يرتعش كالسعفة و لما سأله بعض أصحابه : أخائف أنت من الموت أجابه الحر ، لا و الله و لكنني أخير نفسي بين الجنة و النار ثم همز جواده و انطلق إلى الحسين قائلا : هل من توبة يابن رسول الله ، و لم أتمالك عند سماع هذا أن سقطت على الأرض باكيا و كأني أمثل دور الحر و أطلب من الحسين : هل من توبة يابن رسول الله ، سامحني يابن رسول الله ، و كان صوت الخطيب مؤثرا ، و ارتفعت أصوات الناس بالبكاء و النحيب عند ذلك سمع صديقي صياحي و انكب علي معانقا ، باكيا و ضمني إلى صدره كما تضم الأم ولدها و هو يردد يا حسين ، يا حسين ، كانت دقائق و لحظات عرفت فيها البكاء الحقيقي و أحسست و كان دموعي غسلت قلبي و كل جسدي من الداخل و فهمت وقتها حديث الرسول : " لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا " .
بقيت كامل اليوم مقبوض النفس و قد حاول صديقي تسليتي و تعزيتي و قدم إلي بعض المرطبات و لكن شهيتي انقطعت تماما ، و بقيت أسأله أن يعيد علي قصة مقتل سيدنا الحسين ، لأني ما كنت أعرف منها قليلا أو كثيرا غاية ما هناك أن شيوخنا إذا حدثونا عن ذلك يقولون أن المنافقين أعداء الإسلام الذين قتلوا سيدنا عمر و سيدنا عثمان و سيدنا علي هم الذين قتلوا سيدنا الحسين ، و لا نعرف غير هذا الاقتضاب بل إننا نحتفل بيوم عاشوراء على أنه من الأعياد الإسلامية و تخرج فيه زكاة الأموال و تطبخ فيه شتى المأكولات و أنواع الأطعمة الشهية ، و يطوف الصبيان على الكبار ليعطوهم بعض النقود لشراء الحلويات و الألعاب .
صحيح أن هناك بعض التقاليد و العادات في بعض القرى منها أنهم يشعلون النار ، و لا يعملون في ذلك اليوم و لا يتزوجون و لا يفرحون ، و لكن نسميها عادات و تقاليد بدون ذكر أي تفسير لها ، و يروي علماؤنا في ذلك أحاديث عن فضائل يوم عاشوراء و ما فيه من بركات و رحمات أنه أمر عجيب ! .
زرنا بعد ذلك ضريح العباس أخي الحسين ، و لم أكن أعرف من هو و قد روى لي صديقي قصة بطولته و شجاعته ، كما التقينا بالعديد من العلماء الأفاضل الذين لا أتذكر أسماءهم بالتفصيل سوى بعض الألقاب ، كبحر العلوم و السيد الحكيم و كاشف الغطاء و آل ياسين و الطباطبائي و الفيروزآبادي و أسد حيدر و غيرهم ممن تشرفت بمقابلتهم .
و الحق يقال إنهم علماء أتقياء ، تعلوهم هيبة و وقار ، و الشيعة يحترمونهم كثيرا و يؤدون إليهم خمس أموالهم ، و التي بها يديرون شؤون الحوزات العلمية و يؤسسون المدارس و المطابع و ينفقون على طلاب العلم الوافدين من كل البلاد الإسلامية ، إنهم مستقلون و لا يرتبطون بالحكام من قريب أو من بعيد كما هو شأن علمائنا الذين لا يفتون و لا يتكلمون إلا برأي السلطة التي تضمن معاشهم ، و تعزل من تشاء منهم و تنصب من تشاء .
إنه عالم جديد بالنسبة إليّ اكتشفته ، أو كشفه الله لي و قد أنست به بعد ما كنت أنفر منه و انسجمت معه بعد ما كنت أعاديه ، و قد أفادني هذا العالم أفكارا جديدة و بعث في حب الإطلاع و البحث و الدراسة حتى أدرك الحقيقة المنشودة التي طالما راودتني عندما قرأت الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : " افترقت بنو إسرائيل إلى إحدى وسبعين فرقة و افترقت النصارى إلى اثنتين و سبعين فرقة ، و ستفترق أمتي إلى ثلاثة و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة " .
فلا كلام لنا مع الأديان المتعددة التي يدّعي كل منها أنه هو الحق و غيره الباطل ، و لكن أعجب و اندهش و أحتار عند قراءة هذا الحديث ، و ليس عجبي و إندهاشي و حيرتي للحديث نفسه و لكن للمسلمين الذي يقرؤون هذا الحديث و يرددونه في خطبهم و يمرون عليه مر الكرام بدون تحليل ، و لا بحث في مدلوله لكي يتبينوا الفرقة الناجية من الفرق الضالة .
و الغريب أن كل فرقة تدعي أنها هي وحدها الناجية و قد جاء في ذيل الحديث : " قالوا من هم يا رسول الله ؟ قال من هم على ما أنا عليه أنا و أصحابي " فهل هناك فرقة إلا و هي متمسكة بالكتاب و السنة ، و هل هناك فرقة إسلامية تدعي غير هذا ؟ فلو سئل الإمام مالك أو أبو حنيفة أو الإمام الشافعي أو أحمد بن حنبل فهل يدعي أي واحد منهم إلا التمسك بالقرآن و السنة الصحيحة ؟ .
فهذه المذاهب السنية و إذا أضفنا إليها الفرق الشيعية التي كنت أعتقد بفسادها و انحرافها ، فها هي الأخرى تدعي أيضا أنها متمسكة بالقرآن و السنة الصحيحة المنقولة عن أهل البيت الطاهرين ، و أهل البيت أدري بما فيه كما يقولون .
فهل يمكن أن يكونوا كلهم على حق كما يدعون ؟ و هذا غير ممكن لان الحديث الشريف يفيد نقيض ذلك ، اللهم إلا إذا كان الحديث موضوعا ، مكذوبا ، و هذا لا سبيل إليه لان الحديث متواتر عند السنة و الشيعة ، أم أن الحديث لا معنى له و لا مدلول ؟ و حاشى لرسول الله ( صلى الله عليه و آله ) أن يقول شيئاً لا معنى له و لا مدلول و هو الذي لا ينطق عن الهوى و كل أحاديثه حكمة و عبر .
إذا لم يبق أمامنا إلا الاعتراف بأن هناك فرقة واحدة على الحق و ما بقي فهو باطل ، فالحديث يبعث على الحيرة كما يبعث على البحث والتنقيب لمن يريد لنفسه النجاة .
و من أجل هذا داخلني الشك والحيرة بعد لقائي بالشيعة فمن يدري لعلهم يقولون حقا و ينطقون صدقا ! و لماذا لا أبحث و لا أنقب .
و قد كلفني الإسلام بقرآنه و سنته أن أبحث و أقارن و أتبين قال الله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ... 1، و قال أيضا : ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ 2.
و قد قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : " ابحث عن دينك حتى يقال عنك مجنون " فالبحث و المقارنة واجب شرعي على كل مكلف .
بهذا القرار و بهذه العزيمة الصادقة واعدت نفسي و أصدقائي من الشيعة في العراق و أنا أودعهم معانقا و متأسفا لفراقهم فقد أحببتهم و أحبوني ، و قد تركت أحباء أعزاء مخلصين ضحوا بأوقاتهم من أجلي لا لشيء كما قالوا لا خوفا و لا طمعا ، و إنما ابتغاء مرضاة الله سبحانه فقد ورد في الحديث الشريف " لان يهدي الله بك رجلاً واحداً ، خير لك مما طلعت عليه الشمس " .
و غادرت العراق بعد قضاء عشرين يوماً في ربوع الأئمة و شيعتهم ، مرت كأنها حلم لذيذ يتمنى النائم أن لا يستيقظ حتى يستوفيه ، غادرت العراق متأسفاً على قصر المدة ، متأسفاً على فراق الأفئدة التي أهوي إليها و القلوب التي تنبض بمحبة أهل البيت و توجهت للحجاز قاصداً بيت الله الحرام و قبر سيد الأولين و الآخرين صلى الله عليه و على آله الطيبين الطاهرين 3.