الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المترفون وما يفعلون

تحدث القرآن الكريم عن المترفين في عدة آيات، وذكر مواقفهم العدائية المستحكمة من الرسالات السماوية، وبيّن عقائدهم الفاسدة، ودورهم الهدّام في المجتمعات وهلاكها وتدميرها. فقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ 1.

لذا فإنه يلزم على المجتمع السليم أن يُحصّن نفسه من هذه الآفة الخطيرة التي قد تفتك به، وتُرديه في المهالك. ويكون ذلك بالمعرفة الواعية بما تحمله من سمات وخصائص ومقولات تسالمت عليها عبر العصور، تماما كما تنتقل الصفات الوراثية من جيل لآخر ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ 2.

فمن هم المترفون؟ وما هي سماتهم ومقولاتهم بحسب ما ورد في الكتاب العزيز؟

قال ابن منظور في لسان العرب: ”والمُتْرَفُ: الذي قد أَبْطَرَتْه النعمةُ وسَعة العيْشِ. وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه“. فليس كل مُنعَم عليه مترفا، وإنما هو الذي تأثر بالنعمة سلبا، فتجاوز حد الاعتدال في سلوكه.

وإذا عدنا للآيات الكريمة سنجد التالي:

المترف هو المتوغل في التنعم بملذات الحياة الدنيا، الذي أخلد إلى الأرض وانصرف عن النعم المعنوية، ونسي الدار الآخرة. قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ 3. فهذه الآية تبين انغماسهم في النعم المادية وتعلقهم بها، حتى إنهم استدلوا على عدم وجود ما يميز رسولهم عنهم بأمور مادية بحتة تتمثل في الأكل والشرب ﴿ ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ... 4. ولذا لم يتمكنوا من النظر للكمالات المعنوية التي يمثلها ويتمثلها في حياته ﴿ ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ ... 5.

من سمات المترفين الكفر بالله واليوم الآخر. وهذا هو المستفاد من قوله تعالى في حقهم: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ 6 إذا فُسّر الحنث العظيم بأنه نقض الميثاق الإلهي الذي أُخذ عليهم بعبادة الله وحده: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ 7.

المترفون هم أصل الفساد، الغارقون فيه، الداعون إليه. يقول تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ 8. والأمر هنا يعني كما مال إليه صاحب الميزان ”الإكثار من إفاضة النعم عليهم وتوفيرها على سبيل الإملاء والاستدراج وتقريبهم بذلك من الفسق حتى يفسقوا فيحق عليهم القول وينزل عليهم العذاب“. فالله تعالى لا يأمر بالفسق ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ 9.

ومن سماتهم الاستهانة والاستخفاف بالمرسلين، والسعي الدائم لإضلال الآخرين وإبعادهم عن طريق الحق بأساليب استخفافية: ﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ 10.

وهم لا يكفون عن الظلم لأنفسهم ولغيرهم، حتى ينتهي الأمر إلى هلاكهم وتدمير القرى التي يعيثون فيها وينشرون الفساد: ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ 11 وقال تعالى: ﴿ ... وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ 12.

ولأنهم رأس الفساد والإفساد، يبدأ العذاب الإلهي باستئصالهم وقطع دابرهم: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ 13.

هذه بعض أحوالهم، والحديث فيهم طويل، ولكن هذه قبسة العجلان 14.