تقيمك هو: 1. مجموع الأصوات: 45
نشر قبل 4 سنوات
القراءات: 5646

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المرأة وسمو الأخلاق .. ‬السيدة زينب نموذجاً

عبادة الخالق والقرب منه، ‬هي ‬المرتكز والمحور في ‬الشخصية الإيمانية، ‬بل هي ‬مقياس الإنسانية والتحرّر في ‬شخصية الإنسان، ‬فالبديل عن التعبد لله، ‬والخضوع له، ‬هو العبودية للشهوات، ‬وللمصالح المادية الزائلة. إنّ ‬التعبّد لله ‬يعني ‬انسجام الإنسان مع فطرته النّقيّة، ‬واستجابته لنداء عقله الصادق، ‬بأنّ ‬للحياة خالقاً ‬يمسك بأزمتها، ‬وإليه مصيرها.‬

والتعبّد لله، ‬هو النبع الذي ‬يروي ‬منه الإنسان ظمأه الروحي، ‬ويتزوّد من دفقاته بدوافع الخير ونوازع الصلاح. ‬فكلّما أقبل الإنسان على ربّه، ‬وأخلص في ‬عبادته، ‬تجلّت إنسانيته أكثر، ‬وتجسّدت القيم الخيّرة في ‬شخصيته.
ففي ‬الحديث القدسي ‬الذي ‬ينقله الرسول الأعظم ‬عن الله سبحانه ‬أنّه قال: «لا ‬يزال عبدي ‬يتقرّب إلى بالنوافل، ‬حتى أحبّه، ‬فأكون أنا سمعه الذي ‬يسمع به، ‬وبصره الذي ‬يبصر به، ‬ولسانه الذي ‬ينطق به، ‬وقلبه الذي ‬يعقل به، ‬فإذا دعاني ‬أجبته، ‬وإذا سألني ‬أعطيته».‬
والسيدة زينب وهي ‬العالمة بالله و ﴿ ... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ... 1 ‬وهي ‬الناشئة في ‬أجواء الإيمان والعبادة والتقوى، ‬كانت قمة سامقة في ‬عبادتها وخضوعها للخالق -‬عزّوجلّ-..‬كانت ثانية أمها الزهراء عليها السلام في ‬العبادة. ‬وكانت تؤدي ‬نوافل الليل كاملة في ‬كل أوقاتها حتى أنّ ‬الحسين ‬عليه السلام ‬عندما ودّع عياله الوداع الأخير ‬يوم عاشوراء، ‬قال لها: ‬يا أختاه لا تنسيني ‬في ‬نافلة الليل. ‬كما ذكر ذلك البيرجندي، ‬وهو مدوّن في ‬كتب السّير..‬ وعن عبادة السيدة زينب، ‬ليلة الحادي ‬عشر من المحرم، ‬يقول الشيخ محمد جواد مغنية: ‬وأيّ ‬شيء أدلّ ‬على هذه الحقيقة، ‬من قيامها بين ‬يدي ‬الله للصلاة، ‬ليلة الحادي ‬عشر من المحرم، ‬ورجالها بلا رؤوس على وجه الأرض، ‬تسفي ‬عليهم الرياح، ‬ومن حولها النساء والأطفال، ‬في ‬صياح وبكاء ودهشة وذهول، ‬وجيش العدو ‬يحيط بها من كل جانب.. ‬إنّ ‬صلاتها في ‬مثل هذه الساعة، ‬تماماً ‬كصلاة جدّها رسول الله في ‬المسجد الحرام، ‬والمشركون من حوله ‬يرشقونه بالحجارة، ‬ويطرحون عليه رحم شاة، ‬وهو ساجد لله ‬عزّ وعلا، ‬وكصلاة أبيها أمير المؤمنين، ‬في ‬قلب المعركة بصفين، ‬وصلاة أخيها سيد الشهداء ‬يوم العاشر، ‬والسهام تنهال عليه كالسيل..‬
ولا تأخذك الدهشة إذا قلت: ‬إنّ ‬صلاة السيدة زينب، ‬ليلة الحادي ‬عشر من المحرم، ‬كانت شكراً ‬لله على ما أنعم، ‬وأنّها كانت تنظر إلى تلك الأحداث على أنّها نعمة خصّ ‬الله بها أهل بيت النبوة، ‬من دون الناس أجمعين، ‬وأنّه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند الله والناس.. ‬وروي ‬عن ابنة أخيها فاطمة بنت الحسين قولها: ‬«وأمّا عمّتي ‬زينب، ‬فإنّها لم تزل قائمة في ‬تلك الليلة في ‬محرابها، ‬تستغيث إلى ربّها فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنّة».. ‬

صبر وشجاعة

معروف أنّ ‬المرأة تمتاز برقّة المشاعر، ‬وشفّافية العواطف، ‬ممّا ‬يساعدها على القيام بدور الأمومة الحانية، ‬لذلك ‬يكون تأثيرها العاطفي ‬أسرع وأعمق من الرجل ‬غالباً.. ‬وإذا كانت تلك الحالة تمثّل الاستعداد الأوّلي ‬في ‬نفس المرأة، ‬فلا ‬يعني ‬ذلك أنّها تأسر المرأة، ‬وتقعد بها عن درجات الصمود والصبر العالية.. ‬فبإمكان المرأة حينما تمتلك قوة الإرادة، ‬ونفاذ الوعي، ‬وسموّ ‬الهدف، ‬أن تضرب أروع الأمثلة في ‬الصبر والشجاعة، ‬أمام المواقف الصعبة القاسية.. ‬وهذا ما أثبتته السيدة زينب، ‬في ‬مواجهتها للآلام والأحداث العنيفة، ‬التي ‬صدمتها في ‬باكر حياتها، ‬وكانت هي ‬الختام لسنوات عمرها..‬لقد أبدت السيدة زينب تجلداً ‬وصبراً ‬قياسياً، ‬في ‬واقعة كربلاء، ‬وما أعقبها من مصائب..‬ وإلاّ ‬فكيف استطاعت أن تنظر إلى أخيها الحسين، ‬ممزّق الأشلاء، ‬يسبح في ‬بركة من الدماء، ‬وحوله بقيّة رجالات وشباب أسرتها، ‬من أخوتها وأبناء أخوتها، ‬وأبناء عمومتها وأبنائها، ‬ثم تحتفظ بكامل السيطرة على أعصابها وعواطفها، ‬لتقول كلمة لا ‬يقولها الإنسان إلاّ ‬في ‬حالة التّأنّي ‬والثّبات والاطمئنان، ‬وهي ‬قولها: اللهمّ ‬تقبّل منا هذا القليل من القربان.. ‬
وأكثر من ذلك فهي ‬تصبّر ابن أخيها الإمام زين العابدين، ‬حينما رأته مضطرباً، ‬بالغ ‬التأثّر، ‬عند مروره على جثث القتلى.. ‬ويُعبّر الشيخ النقدي ‬عن فظيع مصائب السيدة زينب، ‬وعظيم تحمّلها لها، ‬بقوله: ‬وبالجملة فإنّ ‬مصائب هذه الحرّة الطاهرة زادت على مصائب أخيها الحسين الشهيد، ‬أضعافاً ‬مضاعفة، ‬فإنّها شاركته في ‬جميع مصائبه، ‬وانفردت عنه ‬عليها السلام ‬بالمصائب التي ‬رأتها بعد قتله، ‬من النّهب والسلب والضرب وحرق الخيام، ‬والأسر، ‬وشماتة الأعداء..‬أمّا القتل فإنّ ‬الحسين قتل ومضى شهيداً ‬إلى روح وريحان، ‬وجنّة ورضوان، ‬وكانت زينب في ‬كل لحظة من لحظاتها تقتل قتلاً ‬معنوياً، ‬بين أولئك الظالمين، ‬وتذري ‬دماء القلب من جفونها القريحة..‬وأيّ ‬مستوى من الصبر عند السيدة زينب، ‬حينما تصف ما رأته من مصائب، ‬بأنّه شيء جميل: ‬والله ما رأيت إلاّ ‬جميلاً. ‬رداً ‬على سؤال ابن زياد لها: ‬كيف رأيت صنع الله بأخيك؟!..‬

عفّة ومهابة

عفّة المرأة لا تعني ‬الانكفاء والانطواء، ‬ولا تعني ‬الجمود والإحجام عن تحمّل المسؤولية، ‬وممارسة الدور الاجتماعي، ‬وقد رأينا السيدة زينب وهي ‬تمارس دورها الاجتماعي ‬في ‬أعلى المستويات..‬ لكن العفّة تعني ‬عدم الابتذال، ‬وتعني ‬حفاظ المرأة على رزانتها وجدّية شخصيتها أمام الآخرين.. ‬فإذا استلزم الأمر أن تخرج المرأة إلى ساحة المعركة، ‬فلا تتردّد في ‬ذلك، ‬وإذا كانت هناك مصلحة في ‬التخاطب مع الرجال، ‬فلا مانع، ‬وهكذا في ‬سائر المجالات النافعة والمفيدة.. ‬أما الابتذال، ‬واستعراض القوام والمفاتن أمام الرجال، ‬فهو مناف للعفّة والحشمة..
‬وبعد أن استقرأنا دور السيدة زينب، ‬ومواقفها العلمية والسياسية والاجتماعية، ‬فلنتأمل الآن ما ‬يقوله أحد المعاصرين لها، ‬والمجاورين لمنزلها برهة من الزمن، ‬ليتّضح لنا معنى العفّة والاحتشام عند السيدة زينب..‬ حدّث ‬يحيى المازني ‬قال: ‬كنت في ‬جوار أمير المؤمنين في ‬المدينة، ‬مدة مديدة، ‬وبالقرب من البيت الذي ‬تسكنه زينب ابنته، ‬فلا والله ما رأيت ‬لها شخصاً، ‬ولا سمعت لها صوتاً..‬

زهد وعطاء

كانت زينب تعيش في ‬كنف زوجها عبد الله بن جعفر في ‬المدينة، ‬وهو رجل موسر ‬غني، ‬وباذل كريم ‬لكن حياة الراحة والرفاه، ‬حيث البيت الواسع، ‬والخدم والحشم، ‬والمال والثروة، ‬لم تتمكّن من قلب السيدة زينب، ‬فتخلّت عن كلّ ‬تلك الأجواء المريحة، ‬واختارت السفر مع أخيها الحسين، ‬حيث المصاعب والمشاق، ‬والآلام المتوقعة، ‬لم ‬يكن قلب زينب متعلقاً ‬بشيء من متاع الدنيا، ‬بل كانت نفسها منشدّة إلى آفاق السّموّ ‬والرفعة..‬ورُوي ‬عن الإمام زين العابدين أنّه قال عنها: ‬«أنّها ما ادّخرت شيئاً ‬من ‬يومها لغدها أبداً.. »‬ ونُقل عنها: ‬أنّها كانت أثناء سفر الأسر إلى الشام، ‬تتنازل في ‬غالب الأيّام عن حصّتها من الطعام، ‬لصالح الأطفال الجائعين، ‬والجائعات من الأسارى، ‬وتطوي ‬يومها جائعة، ‬حتى أنّ ‬الجوع كان ‬يقعد بها عن التمكّن من أداء صلاة الليل قياماً، ‬فتؤدّيها وهي ‬جالسة..‬ وحينما رجعت إلى المدينة، ‬مع قافلة السبايا، ‬نزعت حليّها، ‬وحليّ ‬أختها، ‬لتقدمه هدية للنعمان بن بشير، ‬مكافأة له على حسن صحبته ورفقته..‬ 2