الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

شهر المواساة والمسؤولية

ربما عندما نقرأ عن الصوم وعن شهر رمضان في آيات الذكر الحكيم وفي الأحاديث الشريفة، لا نركِّز إلَّا على الجوانب الفردية في هذا الشهر المبارك وفي هذه العبادة العظيمة، بينما الرسول الأعظم (ص) وأئمة الهدى يذهبون الى أبعد مدى من هذا، حيث يؤكدون - الى جانب تزكية النفس بالصوم، والتوبة الى الله، وغفران الذنوب - يؤكدون أيضاً على المسؤولية الإجتماعية والتكافل والإهتمام بشؤون الآخرين ممن حولنا.
ذلك لأنّ الجانب الإجتماعي في الإنسان أهم من الجانب الشخصي والفردي، ولذلك فإنَّ تركيز الدين وبرامجه وشعائره التربوية على الجانب الإجتماعي أكثر من الجوانب الأخرى.

محطة التزكية

وشهر رمضان المبارك باعتباره محطة سنوية يتوقف فيها الإنسان كل عامٍ شهراً واحداً لينهل من ينبوعه الثر، لا يشذُّ عن هذه القاعدة، فرغم أن الصوم - بمعنى الكف عن الطعام والشراب والجنس طوال النهار - عملية فردية ترتبط بشخص كل إنسان وإرادته، وهي عملية تربوية تهدف تزكية النفس البشرية والتسامي بها فوق الإهتمامات المادية الرخيصة، إلَّا أنَّ كل ذلك يوظَّف من أجل الإنتقال بالإنسان من إطاره الفردي الضيِّق الى الإطار الإجتماعي الرحب، حيث على الإنسان المؤمن أن يثبت علاقته الحميمة بسائر المؤمنين، بل بسائر أبناء البشر، حيث التكافل، والتضامن، والتعاون، والإيثار، والعطاء.

لذة العطاء

وما أحلاها من لذة حينما يسمو الإنسان درجات عالية في عالم العطاء من أجل الآخرين، وحينما ينطلق من إهتماماته الذاتية الضيِّقة المحدودة إلى رحاب الإهتمامات الإجتماعية العامة والتحسُّس بآلام وآمال الآخرين، والسعي من أجل إصلاح أمورهم وحل مشاكلهم، لأنه يدرك جيدا أنَّ: (مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِم‏)1، ولأنه يستوعب الخطاب القائل له: (عَلَيْكَ بِالنُّصْحِ لِلهِ فِي خَلْقِهِ، فَلَنْ تَلْقَاهُ بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْه‏)2. كما يجعل نصب عينيه أنَّ: (الْخَلْق عِيَالُ اللهِ، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ مَنْ نَفَعَ عِيَالَ اللهِ، وَأَدْخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ سُرُورا)3. ويتذكر دائماً أنه حينما سُئِل النبي الاعظم (ص): مَنْ أَحَبُّ النَّاس‏ إِلَى اللهِ؟ كان جوابه (ص): (أَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ‏)4، وليس أكثر الناس نفعاً لنفسه أو أكثرهم إهتماماً بذاتياته.
وفي شهر رمضان المبارك - بالأخص - يتضاعف توجيه الدين للإنسان بالخروج من شرنقة الذات والأنا الخانقة الى رحبة التوجه الإجتماعي بأوسع أشكاله:

المواساة

1- في عدد من المواطن يصف رسول الله (ص) هذا الشهر بأنه (شَهْرُ الْمُوَاسَاةِ)5، والمواساة لا تتحقق من المؤمن إن لم يكن هناك تحسّس لآلام الآخرين، واستشعار مشاكل ومصائب أبناء المجتمع الذي يعيش فيه، والتعاطف معهم، تطبيقاً لقوله تعالى:﴿ ... رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... 6، وهو يستمع للامام الصادق (ع) تفسيراً لهذه الآية الكريمة بقوله: (يَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الِاجْتِهَادُ فِي التَّوَاصُلِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى التَّعَاطُفِ، وَالْمُوَاسَاةُ لِأَهْلِ الْحَاجَةِ، وَتَعَاطُفُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى تَكُونُوا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ "رُحَماءُ بَيْنَهُمْ" مُتَرَاحِمِينَ مُغْتَمِّينَ لِمَا غَابَ عَنْكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ مَعْشَرُ الْأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (ص))7.
ومن هذا المنطلق أيضاً تعدَّدت – في احاديث شهر رمضان – الإشارة الى الاهتمام بالايتام في المجتمع.

صِلة العباد

2- وإضافةً إلى التأكيد على صلة الرحم في شهر رمضان بشكل خاص ومتمايز عن سائر الشهور، إلَّا أنَّ هناك - إلى جانب ذلك - تأكيد مضاعف على الإهتمام بعامة العباد حتى من غير الأرحام. نقرأ في ما روي عن رسول الله (ص) عن شهر رمضان المبارك: (وَمَا نَفَقَةٌ إِلَّا وَيُسْأَلُ الْعَبْدُ عَنْهَا إِلَّا النَّفَقَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ صِلَةً لِلْعِبَادِ وَكَانَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِمْ)8.
فالمؤمن في شهر الله يزداد إحساسه بالمسؤولية، ليس تجاه أهله وأرحامه فحسب، بل تجاه العباد كلهم ودون تمييز، ويترجم إحساسه هذا عملياً عبر الإنفاق صلةً لهم.
إنه قمة الشعور الإنساني الذي يتمتع به المؤمن الصادق.
فالمؤمن لا يكتفي بإطار الأخوة الإيمانية بينه وبين سائر المؤمنين، بل ينطلق بعد ذلك في إطار أوسع هو إطار الخلق كله، حيث يستمع لأميره علي عليه السلام الذي يصنِّف الناس  بقوله: (فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)9.

شهر المسؤولية

3- وهكذا تتصاعد وتيرة الدعوة الى التكافل الإجتماعي وتحمل المسؤولية - بالأخص في شهر رمضان - في كلمات أئمة الهدى (ع). يقول الإمام الرضا (ع) في حديث عن شهر الله: (وَمَنْ أَعَانَ فِيهِ مُؤْمِناً أَعَانَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى الْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَام‏)10، فليس العبور على الصراط بالتمنّي وبإطلاق الشعارات، بل بالتعاون على البر والتقوى، وبإعانة المؤمنين على حل مشاكلهم، والتضامن معهم في ما يواجهونه من تحديات في الحياة.

نصرة المظلوم

4- ويذهب الإمام (ع) الى أفق أوسع من آفاق الإعانة والتعاون حيث يؤكد على نصرة المظلومين في هذا الشهر: (وَمَنْ نَصَرَ فِيهِ مَظْلُوماً نَصَرَهُ اللهُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَادَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَنَصَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الْحِسَابِ وَالْمِيزَان‏)10.
فهل أنا صادق في إيماني إن ظُلِمَ مؤمنٌ بمشهدٍ منّي دون أن أنصره؟ وهل السكوت عن الظلم والظالم ينسجم مع صدق الإيمان وحقيقة التقوى؟
والغريب هنا أن الإمام الرضا عليه السلام قال في الفقرة السالفة: (وَمَنْ أَعَانَ فِيهِ مُؤْمِناً) بينما في هذه الفقرة، قال: (وَمَنْ نَصَرَ فِيهِ مَظْلُوماً) دون تقييد المظلوم بكونه مؤمناً، وهذا يعني أن نصرة المظلوم - أيّ مظلوم - هي قيمة سامية عند الشريعة الغرّاء، ولا تُشترط هذه النصرة بكون المظلوم متصفاً بصفة محدَّدة. وقبل ذلك قال لنا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عبر توجيهاته لولديه الإمامين الحسن والحسين (ع): (كُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَلِلْمَظْلُومِ عَوْنا)11، وقد يكون الظالم مسلماً والمظلوم كافراً، فعلينا أن نخاصم الظالم ونوقفه عند حدِّه، لأنَّ ﴿ ... وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 12، وأن ننصر المظلوم وندفع الظلم عنه، فكيف إذا كان المظلوم مؤمناً، وكان الظالم طاغوتاً يتحكم في مصائر الناس بالعسف والقهر والإرهاب؟ هنا تتضاعف المسؤولية، وتتضاعف أيضاً حينما نمرُّ بشهر الله.. شهر رمضان المبارك.

مسؤولون أبداً

وإذا لاحظنا تأكيد رسول الرحمة وأئمة الهدى عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام على (المواساة) و(صلة العباد) و(اعانة المؤمن) و(نصرة المظلوم) في هذا الشهر، فهذا لا يعني انتهاء المسؤولية مع انتهاء الشهر المبارك، بل إنَّ شهر رمضان هو مدرسة لتربية الإنسان على المزيد من الالتزام بالمسؤوليات الإجتماعية، وبالتكافل والتضامن والتعاون بين مختلف فئات الأمة، لكي ينطلق المؤمن من هذا الشهر الكريم لتحمل مسؤوليات المواساة والاعانة والنصرة والتكافل الإجتماعي طوال السنة.

فالمؤمن لا يتمايز في المجتمع بصلاته وصومه، ولا بطول ركوع وسجوده، فإنَّ ذلك شيء إعتاده، فلو تركه استوحش لذلك - كما في الحديث الشريف 13، بل ما يتميَّز به المؤمن عن غيره هو خُلُقه الإجتماعي الفاضل في الناس، هو طيب كلامه، وانفاق ذات يده، واغاثته الملهوف، وإعانته الضعيف، وايوائه اليتيم، ونصرته المظلوم، والايثار على النفس.
ولنستمع هنا الى بعض وصايا الدين للمؤمنين في هذا المجال:
1-﴿ ... وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ... 14.
2-﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ... 15.
3-﴿ ... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ... 16.
4-﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ... 17.
5- (مَنْ رَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَادِيَةَ مَاءٍ، أَوْ عَادِيَةَ نَارٍ، أَوْ عَادِيَةَ عَدُوٍّ مُكَابِرٍ لِلْمُسْلِمِينَ، غَفَرَ اللهُ لَهُ ذَنْبَه‏)18.
6- (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعِينُ مُؤْمِناً مَظْلُوماً إِلَّا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَاعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْصُرُ أَخَاهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَخْذُلُ أَخَاهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ إِلَّا خَذَلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة)19.

  • 1. الكافي، ج2، ص163، باب الاهتمام بامور المسلمين والنصيحة لهم، ح1، عن رسول الله (ص).
  • 2. المصدر، ج3، عن الإمام الصادق (ع).
  • 3. المصدر، ح5، عن رسول الله (ص).
  • 4. المصدر، ص164، ح7.
  • 5. الكافي، ج4، ص66.
  • 6. القران الكريم: سورة الفتح (48)، الآية: 29، الصفحة: 515.
  • 7. الكافي، ج2، ص175، باب التراحم والتعاطف، ح4.
  • 8. بحار الأنوار، ج93، ص345، ح9.
  • 9. نهج البلاغة [صبحي الصالح]، ص427، كتاب الإمام عليه السلام لمالك الأشتر.
  • 10. a. b. بحار الأنوار، ج93، ص341.
  • 11. نهج البلاغة، (صبحي الصالح)، ص421.
  • 12. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 57، الصفحة: 57.
  • 13. أنظر: الكافي، ج2، ص105، باب الصدق وأداء الأمانة، ح12.
  • 14. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 83، الصفحة: 12.
  • 15. القران الكريم: سورة الحشر (59)، الآية: 9، الصفحة: 546.
  • 16. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 177.
  • 17. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 75، الصفحة: 90.
  • 18. قرب الأسناد، ص132، عن الإمام علي (ع).
  • 19. بحار الأنوار، ج72، ص20.