الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

في ذكرى الرسول العظيم

من أحق بالتخليد من ذكراك ؟

إذا كانت الذكرى لعظماء الرجال إشادة بما رسموا للأمم من مجد ، وتخليداً لما أسّسوا و بنوا لهم من سؤدد ، فمن أحقّ بالخليد من ذكراك يا أبا الأمجاد ، ويا مؤسّس العظمات ، ويا ملتقى العبقريات ؟.
وإذا كانت ذكريات العظماء ، تسجيلاً من الأمّة لفضلهم ووفاء منها بحقّهم ، فمن أولى من حقّك بوجوب الوفاء ، ومن أجدر من أياديك بوجوب التسجيل يا فاتح الخير ، ويا قائد البركة ويا رائد الرحّمة وخازن المغفرة ؟.
وإذا كانت ذمة للحق ، وأمانة للتأريخ ، على البشرية أن تؤدّيها ، وأن تعتزّ بها ، فمن أجدر بهذه الخصائص من ذكراك يا دليل الحقّ ، و يا مصدر العِزّ و يا باني التأريخ ؟.
وإذا كانت الذكرى تجديداً لميثاق الأمة لقائدها ، وتوثيقاً لصلتها برائدها ، وتوكيداً لعهده الذي أخذه عليها أن تتّبع خطوة ، وأن تلتزم هداه ، وتقتفي نهجه ، فمن أحرى من ميثاقك بأن يجدّد ، ومن أحرى من أمتك بأن تشدّ صلتها بك يا مصدر القوة ويا معدن العزة ويا رائد الكرامة ؟.
وإذا كانت للاقتباس من سيرة بناة العظمة ، والاقتداء بأعمالهم ، والإستمداد من أرواحهم ، وقوة نفوسهم فمن أحق من سيرتك بأن تكون منهجاً للقدوة ، وموضعاً للاقتباس . ومن أجدر من روحك الكبيرة الكبيرة ، ونفسك العظيمة العظيمة ، بأن تكون مصدراً للوحي ، ومنبعاً للفيض ، ومدداً للعطاء ؟.
ذكرى النور ينبثق بين شعاع مكّة ، وبين هضابها ، ثم يتألّق ويستعلي ، ويتألّق ويستعلي ، حتى يعمر مشارق الشمس ، أو حتى يعمّ أرجاء الكون ، وأفاق السّماء والأرض .
من حِجر آمنة . . من بين عبد المطلب بن هاشم . . من غُرّة ذلك اليتيم العظيم .
من غرّة ذلك اليتيم الذي افتخرت السماء أن تكسوه أول كسوة ، وأن تقدّم له أول تحية ، وأن تُهبط لاستقباله أول وفد . .
من غرّة ذلك اليتيم العظيم الذي حنّ له الحِجر ، واهتزّ له الحَجَر ، ومادت له قواعد البيت ، وانحنت له أركانه .
من غرّة ذلك اليتيم العظيم الذي تطلّع له الكون ، وتطاولت نحوه الوهاد والهضاب ، لترى الوجه الجميل الذي سيغيّر وجه التاريخ ، وسيقلب نظام الدنيا ، وسيوسّع أفاق الإنسانية .
وامتدت يدا عبد المطلب بن هاشم إلى نافلته ، ورفعه إليه يتبين فيه ولده الفقيد الحبيب:
( إن بين عينيه نور عبد الله يا آمنة . . ألا تنظرين ؟. )
لا . لا . إنه نور النبوة . .إنه طابع السماء على غرّة النبيّ الكريم .
لا . لا يا آمنة ، لا تبكي . إن هذا الوليد لا يستقبل بالدّموع .
وفتح الطفل عينيه في وجه جده ثم ابتسم .
وانحنى الشيخ الوقور وفي عينيه دمعة الذكرى ، وعلى ثغره ابتسامة الحبّ ، وفي قلبه خفقة الأمل ، ثم طبع على فم حفيده قبلة الأب اللهيف ، وقال ـ وهو يكفكف دمعه تغالبه ـ .
( بوركت في الولادة يا آمنة ، و هنيت بالمولود ، وجُبرت من الكسر ، وسعدت في الحياة . ) .
وخرج ومعه ولده أبو طالب ، وعلى ذراعه وليده يطوف به حول البيت ، ويلمه الأركان ، ويعرضه على شعاب مكة وهضابها ، وكأنه يبشّرها بقرب اليوم الموعود . ووجوه قريش تستقبله و تهنيه بالوليد الجديد ، وعبد المطلب باسم واجم يرى ما لا يرون ، ويسمع ما لا يسمعون .
لم يكن عبد المطلب غريباً عن إرهاص النبوّة ، ولا بعيداً عن أسرارها ، فقد عرف من أخبارها الشيء الكثير الغريب . .

الذكرى القرينة للرسالة و القرآن

أيها الإخوة الأعزة ، و الأنبياء النجباء . .
يتيح لي التوفيق فرصة الحديث إليكم في هذه المناسبة الكريمة التي أخذت الشرف من أطرافه ، وجمعته من جميع آفاقه ، فهي ذكرى الرسول العظيم ( صلى الله عليه و آله ) في ليلة ميلاده . .
وهي ذكرى الرسالة العظيمة لمرور أربعة عشر قرناً كاملة على ابتداء نزوله . .
فرسالة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، ونزول القرآن قد ابتدءا لثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة ، فإذا ضممنا ذلك إلى التاريخ الهجري للعام الحاضر كان ذلك أربعة عشر قرناً كاملة . . ومن أجل ذلك فجدير بالمسلمين أن يقيموا الاحتفالات العظيمة في شتى أقطار الأرض بهذه المناسبة الكبرى ، وجدير بهم أن يجدّدوا ميثاقهم لرسولهم ( صلى الله عليه و آله ) ولرسالتهم و لكتابهم . . وجدير بهم ـ وهم يمرون بأدق المراحل ـ أن يقبسوا من رسولهم ورسالتهم وكتابهم رسوخاً في الإيمان ، وثباتاً في القدم ، ومضاء في العزيمة ، ومدداً من القوّة والعزّة والنصرة .
ولن يفيدوا ذلك إلا إذا عادوا إلى دينهم ، يتعرّفون منه ما غفلوا ، ويطبّقون ما أهملوا .
هذا هو الداء ، وهذا هو الدواء ـ أيها الأطباء ـ فهل نحن سامعون ؟.
والليلة ـ بعد ذلك كلّه ـ ذكرى ميلاد سيد الأمة ، وسادس الأئمة ، حفيد الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، وسادس خلفائه ، الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) عام ثلاثة وثمانين للهجرة المباركة .
والحديث في كل واحد من هذه المناسبات متّسع الآفاق ممتدّ الأطراف ، لا يستوفي حدوده لسان قائل ، ولا قلم كاتب . .

حَبُ محمد ( صلى الله عليه و آله ) و العظمة 

أيها الأعزة . .
حب محمد ( صلى الله عليه و آله ) عظمة أن تختاره السماء لحمل أعظم دعوة ، وأسمى رسالة وأقوم شريعة ، وأن تُنزل على قلبه أعظم كتاب ، وأجلّ وحي .
وحسب محمد ( صلى الله عليه و آله ) عظمة أن تختاره السماء رسولاً للناس أجمعين ، وإماماً للأنبياء المطهّرين . . حب محمد أن يختاره الله ـ جل وعلا ـ لأعظم رسالة وأكبر دعوة . . بلى ، وإنّ كِبرَ الأمانة يدلّ على كِبر الأمين ، وعِظَم الاختيار يدلّ على عَظمة المختار . .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا 1 .
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ 2 .
هذه هي وظائف الرسول ( صلى الله عليه و آله ) و مهمّاته يوضحها لنا الكتاب الكريم . .
" شاهداً " على الأمة . . على البشرية جميعها في حاضرها ومقبلها . . في أعمالها وسلوكها ، في مبدئها وغايتها . . " شاهداً " مضيّ الشهادة غير مردود ولامُتّهم ، على البشرية جمعاء ، فهو إذن أفضلها وأسماها جمعاء . . هكذا وصفته السماء وقلّدته هذه المنزلة و ﴿ ... اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ... 3 .
" ومبشراً ونذيراً " والبشارة و النذارة سمتان للمرشد الحقّ ، ما دام يحمل ، رسالة تُقبِل في ظلها السعادة ، وفي تركها البوار و الخسار .
" وداعياً إلى الله بإذنه " ، وإذن فدعوته مضمونة الصدق ، مأمونة ال ، لأنها بإذن الله ( سبحانه ) ، والله لا يأذن في غيّ ، ولا يأمر بضلال .
وهو داع معصوم من الريب فيما يقول وما يعمل ، لأن لا يأذن له وهو مجال للزيف ، ومظنة للتغيير والتبديل .
" وسراجاً منيراً " يقتدي بفعله كما يهتدي بقوله . .
" سراجاً " ينير كل ظلمة ، ويبدّد كل شكّ ، فهو فوق الأوهام والأحلام ، لا ترقى إلى أقواله شبهة ، ولا تحوم حول أفعاله ريبة ، مطهّر بإذن الله من كل أولئك .
وهذه ـ بذاتها ـ هي الأبعاد التي أشارت إليها الآية الكريمة الثانية . .
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ... 4 دعوة إلى الله ـ جل شأنه ـ بتلاوة آيات ، وتزكية نفوس وإعلاء صفات بتربية وقدرة ، وتلقين مفاهيم ، وتطبيق نظم ومناهج بتعليم كتاب وحكمة . .
هذه هي وظائف الرسول الأولى ، وما بعدها يرجع إليها .
حب محمد عظمة أن يختاره الله للرسالة الكبرى . . رسالة الحياة الخالدة التي لا سعادة إلاّ بها ، ولا كمال إلاّ في مناهجها .
﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا 5 .
﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 6 .
وحب محمد عظمة أن ينزّل الله على قلبه كتاب الخلود ، الذي تبيد القرون ، وتغنى الآباد ، ولا تتغيّر جدّته ، ولا تهبط روعته ، و لا تتضعضع منزله :
﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ 7 .
الكتاب الذي أعجز المخلوقين ، أولهم وآخرهم ـ وان اجتمعوا وتآزروا ـ أن يأتوا بسورة من مثله:
﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا 8 .
الكتاب الذي صدّق الأنبياء وأثبت نبوّاتهم وأثبت صِدق كُتبهم ومعجزاتهم ، ولولا القرآن لكانت جميعُ النبوّات والمعجزات حقاً مَخفيّاً ، ونسياً منسيّاً ، إذلا دليل في أيدي الناس يعضدها غير هذا الكتاب العظيم .
وحب محمد عظمة أن يختاره الله لقيادة البشر أجمعين . .مَن تَقَدّم منهم ومن تأخرّ . . زعيماً يخضع لأمره كل زعيم ، ومُصلحاً يقبس من رشده كلّ مصلح ، ومشرّعاً ينهل من عِرفانه كل مشرّع ، وعقلاً يمدّ بإشرافه كل عقل ، ونفساً تفيد من زكاتها وطهارتها كل نفس ، وعبقرية تستظل تحت جناحها كل عبقرية ، وعظمة تفنى وتذوب في ساحتها كل عظمة ، ورحمة يتقيّا أظلالها كل صغير وكبير . .فهو ملتقى كل كمال ، ودليل كل هدى ، وباب كل خير :
﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ 9 .
أما الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) ، الذي تشرّفت بولادته ليلتنا المباركة ، وذكرانا السعيدة ، فحسبه أ ن يكون هو الممثل الصادق لعظمة جدّه ( صلى الله عليه و آله ) ، وأن يختاره الله ـ سبحانه ـ سادساً لولاة عهده . .
. . أن يكون أحد الأمناء على وديعة محمد ( صلى الله عليه و آله ) ، وأحد المصطفين لقيادة البشر :
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 10 .
و صدق الله العظيم 11 .