الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

مجال الاحتكار أو موارده

تعدّدت الأقوال في الفقه الإسلامي فيما يختصّ بمتعلّق الاحتكار أو ما يجري فيه الاحتكار، وذلك كالتالي:

القول الأول: ما يظهر من بعض فقهاء الإمامية، من اختصاصه بالحنطة والشعير والتمر والزبيب وهذا هو ظاهر الشيخ أبي الصلاح الحلبي، حيث عبّر بالغلات 1، وهو تعبير ظاهر فيما يبدو في هذه الأربعة.

القول الثاني: ما يظهر من غير واحد من فقهاء الإمامية أيضاً، من اختصاصه بالحنطة والشعير والتمر والزبيب مع إضافة السمن 2، وقد نفى الشيخ الأنصاري الخلاف ظاهراً في هذه 3.

القول الثالث: ما يبدو من غير واحدٍ أيضاً من فقهاء الإمامية، من الاختصاص بستة أشياء، وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت 4.

القول الرابع: ما يظهر من بعض الفقهاء، من اختصاصه بالستة المتقدّمة عينها مع تبديل الزيت بالملح 5.

القول الخامس: ما يظهر أيضاً من بعض فقهاء الإمامية، من جريانه في سبعة أشياء، وهي الغلات الأربع مع الزيت والسمن والملح 6.

القول السادس: ما ذهب إليه جملة من فقهاء الشيعة والسنّة، من شمول الحكم لمطلق الطعام والقوت، كما رآه أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة 7. ويتبع في ذلك البلد الذي يجري الاحتكار فيه من حيث عدّه طعامَ ذلك البلد أم لا، حسب رأي بعضهم.

القول السابع: ما نسب إلى محمد بن الحسن من الحنفية، من جريانه في القوت والثياب 8.

القول الثامن: ما ذهب إليه أبو يوسف من الأحناف والمالكية وبعض فقهاء الإمامية، من جريان الاحتكار في كلّ ما يحتاجه الناس ويتأذّون من احتكاره 9.

ولكي ندرس هذه الأقوال، علينا الرجوع مباشرةً إلى مستند القول بحرمة الاحتكار، لننظر في المقدار الذي يوفره لنا هذا المستند:

1 ـأما دليل الضرر وأمثاله، فهو يثبت حرمة الاحتكار في كلّ مورد كان الاحتكار فيه مضراً بالعامّة، بلا تقييد بمجال الطعام، فضلاً عن أنواع خاصّة منه، الأمر الذي يختلف باختلاف الحالات والأزمنة والأمكنة.

2 ـوأما دليل الحقّ العام، فالمقدار المتيقّن منه هو السلع والحاجات الأساسية في المجتمع كلٌ حسب حاله، بلا فرق بين الأطعمة والثياب وغيرها مما يصدق أنّ وجوده معروضاً في الأسواق صار بمثابة الأمر المفروغ منه بين الناس، بحيث يكون عدمه اعتداءً عليهم وتضييقاً.

3 ـوأما دليل النصوص الخاصّة، فهو الذي وقع موقع الجدل؛ لأنّ هذه النصوص يبدو عليها الاختلاف فيما بينها، ولهذا لابد من ملاحظة مجموعات النصوص للنظر فيما يمكن استنتاجه منها.

ومجموعات النصوص هي:

المجموعة الأولى

النصوص المطلقة، بمعنى تلك التي لا حديث فيها عن أشياء بعينها تقع مورداً للاحتكار، مثل: «المحتكر ملعون»، وهذه النصوص لو أخذ بإطلاقها أثبتت الحرمة في احتكار مطلق الأشياء.

إلا أنّ الكلام في انعقاد إطلاق في هذه المجموعة من النصوص، حيث يمكن أن ندّعي أنها واردة لبيان أصل حرمة الاحتكار وقبحه، فعندما يقول بأنّ الجالب مرزوق فيما المتحكر ملعون فإنّ مثل هذا النص لا ينظر إلى تحديد نوعية البضائع المحتكرة، وإنما إلى أصل الاحتكار مقابل الاستيراد وتوفير البضائع للناس.

نعم، الذي يظهر من عهد الإمام علي لمالك الأشتر هو الإطلاق لما كان منفعةً للناس، لأنه قال: «أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات.. فامنع من الاحتكار»، حيث يستفاد هنا أنّ الاحتكار الممنوع هو احتكار المنافع، مما يعطي دلالةً على منع احتكار المنافع، وهذا المفهوم عام لكلّ منفعة تصل إلى الناس، إلا أنّ المشكلة ـ كما قلنا سابقاً ـ في سند العهد المذكور.

كما أنّ صحيحة الحلبي المتقدّمة قد تفيد هنا، حيث ورد فيها «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره، فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس أن تلتمس لسلعتك الفضل»، فإن الترديد «أو متاع غيره» يفيد مطلق الأمتعة إذا فهمنا المتاع بمعنى مطلق الشيء. إلا أنّ الاكتفاء بخبر واحدٍ مثل هذا، لاسيما مع احتمال كون الترديد من الراوي، يبدو صعباً بناءً على ما نبني عليه من حجيّة خصوص الخبر الموثوق بصدوره، كما فصّلنا الحديث فيه في كتابنا mحجية الحديثn؛ لهذا لا نملك مطلقات موثوقة من ناحية الصدور والدلالة تمنع جميع أنواع الاحتكار.

المجموعة الثانية

النصوص الدالة على احتكار الأطعمة والأقوات دون تعيين لها أو تحديد لنوعٍ خاص منها، وذلك مثل خبر الحلبي المتقدّم: «إن كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به، وإن كان الطعام قليلاً لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام»، وكذلك خبره الآخر: «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره..»، وكذلك النبوي المتقدّم: «من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه»، ونحوه خبر معاذ عن رسول الله: «من احتكر طعاماً على أمتي أربعين يوماً وتصدّق به، لم تقبل منه»، وكذلك النبوي المتقدّم: «لا يحتكر الطعام إلا خاطئ»، وكذلك صحيح ابن سالم المتقدّم في قصّة حكيم بن حزام الذي كان يشتري الأطعمة، وكذلك خبر أبي مريم المتقدّم: «أيّما رجل اشترى طعاماً فكبسه أربعين صباحاً..»، وكذلك خبر يعلى بن أمية المتقدّم عن رسول الله: «احتكار الطعام في الحرم إلحادٌ فيه»، وكذا خبر عمر بن الخطاب عن رسول الله، وغير ذلك من النصوص، حيث يلاحظ حضور كثير للطعام في مجمل نصوص الاحتكار.

وهذه النصوص إن أريد منها أنها لا تدلّ على التحريم في غير الطعام، فهذا المقدار لا بأس به، لكن إذا أريد بها تقييد المطلقات على تقدير انعقادها أو إفادة الحصر بحيث يكون لها مفهوم، فهذا ممنوع؛ إذ بصرف النظر عن ضعف أسانيد أكثرها ليس فيها ما يفيد النفي في غير الأطعمة، ومن الممكن جداً فهم السبب في تردّد الحديث عن الطعام في عدد لا بأس به من نصوص الاحتكار، انطلاقاً من أنّ الاحتكار في الطعام كان أوفر من غيره في تلك الأزمنه وأضرّ بالناس، فكثرة تردّد الطعام في النصوص يمكن فهمه وفقاً لهذا الأمر، بلا حاجة إلى افتراض أنّ هذه الكثرة شاهدٌ على تخصيص الشارع الحكم بالطعام.

نعم، من بين هذه النصوص قد يدّعى وجود خبر صحيح السند، وهو صحيح الحلبي الذي اشتمل على أداة حصر: «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره..»، فإنه يفيد حصر الاحتكار بشراء الطعام حيث لا يوجد غيره، فيدلّ بمفهوم الحصر على أنّ غير الطعام لا يدخل في الحكرة المحرّمة.

إلا أن ذلك غير صحيح؛ لأنّ الحصر هنا إضافيّ جاء بملاحظة حالة وجود باذل في السوق للسلعة المحتكرة وعدمه، ولذلك ذكرت الرواية نفسها في المقطع التالي أنه لو كان هناك باذل للسلعة فلا بأس أن يلتمس لها الفضل، مما يكشف ـ بقرينة المقابلة ـ أنّ دائرة الحصر كانت في خصوص توفر السلعة وعدمه في السوق لا غير، ولا أقلّ من أنّ ذلك يمنع من استظهار شمولية الحصر هنا.

وبهذا يثبت أنّ النسبة بين المطلقات ونصوص الأطعمة هي النسبة بين المثبتَين، وفي هذه الحال قد يدّعى أنه لا تعارض بينهما، بل قد يدّعى أنّ أحدها جاء في سياق بيان بعض مصاديق الثاني.

إلا أنّ المشكلة تكمن فيما أسلفناه في البحث اللغوي، حيث لم نستطع استخراج مفهوم الاحتكار الخاصّ في غير الأطعمة، وكأنّ هذه الكلمة صارت خاصّةً بذلك، بمعنى أنّ هذا اللفظ دائر مدار معنيين ثبتا له بالفعل ويشترك بينهما، أحدهما عام والثاني خاصّ بالأطعمة، ومعه فتكون المطلقات في المجموعة الأولى ـ بصرف النظر عن التعليق المتقدّم فيها ـ غير صالحة لإثبات ما هو أوسع من نصوص المجموعة الثانية هنا، بناء على عدم فهم خصوص الحنطة من الطعام.

وبصرف النظر عمّا تقدّم، هل يمكن إلغاء خصوصية الطعام من هذه النصوص بفرض كونها في سياق ذكر مثال بارز لمطلق ما يحتاج إليه حاجةً ماسّة أم أنّ للطعام خصوصية ولو تعبدية مجهولة الملاك هنا، ومن ثم يحكم بحرمة الاحتكار مطلقاً ويكون رفع الخصوصيّة عرفاً شاهداً على إرادة المعنى العام للاحتكار دون الخاص؟

قد يدّعى أنه لا خصوصية للطعام،حيث لم يؤخذ هنا إلا من حيث كونه حاجةً أساسية في قيامة الحياة البشرية على الأرض، ومن ثم فيمكننا تسرية الحكم لكلّ ما كان أساسياً في قيام الحياة الإنسانية، إذ مهما فرضنا للطعام خصوصيةً فلن تكون أقرب من هذه الخصوصية التي يحملها، وإلا ففرض خصوصية تعبدية هنا غير واضح.

إلا أنّ هذه الدعوى غير واضحة؛ لأنّ احتكار الطعام هنا له حالتان:

الأولى: أن يحتكر الأطعمة بحيث لا يكون للناس طعام، وهذا ما يفهم من مثل خبر الحلبي، حيث فرض فيه ترك الناس ليس لهم طعام.

الثانية: أن يحتكر طعاماً من الأطعمة، وهذه الحالة لا تستدعي صورة قيام الحياة الإنسانية عليها، كاحتكار بعض أنواع الخضراوات أو الفواكه، وجملة من النصوص المتقدّمة هنا لا تصلح لأكثر من احتكار بعض الأطعمة بحيث يصدق أنه احتكر طعاماً، لاسيما النصوص التي ورد فيها ذكر الطعام بصورة النكرة.

ففي الحالة الأولى قد يلغي العرف خصوصية الطعام فيراه إشارة إلى أبرز حالات الحاجة لقيام الحياة فيسري الحكم إلى غيره، إلا أنّ سائر النصوص في الحالة الثانية لا تفيد ذلك إطلاقاً، ومن ثم يصعب تسرية الحكم إلى غير الطعام.

وقد يدّعي مدّعٍ ـ بصرف النظر عن الأدلّة الخارجية في الضرر والأذية وغير ذلك ـ أنّ الطعام يظلّ على أيّ حال حالةً استثنائية في نوعية الحاجات التي يقوم عليها معاش الناس، وهو بذلك يختلف عن سائر الأمور، فيحتمل الخصوصيّة.

إلا أن هذا الكلام غير دقيق، فاللباس أيضاً كذلك والسكن أيضاً كذلك، فادّعاء التمييز فيه تكلّف واضح. وعليه، فخبر الحلبي قد يكون هو الخبر الوحيد المفيد هنا في التعميم دون غيره.

ورغم مجمل ما تقدم تظلّ إشكالية أخرى تتصل بمعنى كلمة «الطعام»، فإنّ هذه الكلمة لها معنيان في اللغة العربية، حيث تطلق تارةً على مطلق القوت والغذاء وما شابه ذلك أي كلّ مطعوم، فيما تطلق أخرى على معنى خاص وهو عبارة عن خصوص البُر والحنطة، فإذا فرض أنّ المراد هو الأول تمّ مجمل كلامنا المتقدّم، لكن لو فرض أنّ المراد هو الثاني أشكل الأمر، بل صارت هذه المجموعة من النصوص أضيق دائرةً من المجموعة اللاحقة التي تعيّن بعض أنواع الأطعمة والتي منها الحنطة.

إلا أنّ الصحيح أنّ المراد من الطعام في هذه النصوص هو المعنى الغالب المنصرف إليه وهو مطلق الأطعمة؛ لكثرة استعمال الطعام في هذا المعنى العام قياساً بالمعنى الخاص، ولذلك عندما شرح الجوهري معنى الطعام قال: «ما يؤكل، وربما خصّ بالطعام البرّ» 10، وقال الفراهيدي: «والطعام اسمٌ جامع لكلّ ما يؤكل، وكذلك الشراب لكلّ ما يشرب، والعالي في كلام العرب: أن الطعام هو البرّ خاصّة…» 11، ويتعزّر هذا الزعم باشتهار الطعام في المعنى العام أنّ سائر اشتقاقات كلمة الطعام يفهم منها ـ عرفاً ولغةً ـ ما يتصل بمطلق ما يؤكل، مثل: أطعم، يطعم، طعم، تطعمون وغير ذلك، ولهذا ورد في القرآن الكريم استخدام الطعام في المعنى العام قال تعالى: ﴿ ... لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ ... 12، وقال سبحانه: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا 13.

من هنا، يترجّح الأخذ بالمعنى العرفي العام، ويكون مفاد هذه المجموعة النهي عن احتكار الأطعمة مطلقاً.

المجموعة الثالثة

وهي النصوص الدالّة على تعيين الاحتكار بأصناف محدّدة معينة مسمّاة من الطعام، وليس مطلق الطعام، وهذه النصوص تحظى بأهمية على مستوى الفقه الإمامي كما أشرنا من قبل.

وهذه النصوص هي:

1 ـ معتبرة غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: «ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت» 14.

وهذا الخبر يحصر في ستة أصناف، وبحسب بعض المصادر في خمسة، مع حذف الزيت.

2 ـ خبر أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه: أنّ علياً كان ينهى عن الحكرة في الأمصار، فقال: «أن ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن» 15.

وهذه الرواية تشابه خبر غياث بن إبراهيم في نقل الطوسي، لكنها ضعيفة السند بأبي البختري، فهو رجل ضعيف، كما أنّ دلالتها ـ كسابقتها ـ على الحصر جيّدة.

3 ـ خبر السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي قال: قال رسول الله: «الحكرة في ستة أشياء: في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت» 16.

وظاهر الخبر أنه في مقام بيان موارد الاحتكار وأنّ هذا التعداد الذي قام به يراد منه حصر موارده، وإن لم يشتمل على أداة حصر كالخبرين السابقين، لكنّ هذا الحديث ضعيف السند بكلّ من: حمزة بن محمد بن أحمد العلوي، والنوفلي، حيث لم تثبت وثاقتهما عندنا، هذا مع غضّ النظر عن السكوني نفسه.

4 ـ خبر دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد، أنه قال: «.. وقال: ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والزيت والزبيب والتمر..» 17.

فهذا الخبر يحصر مورد الاحتكار بخمسة أشياء ولا يذكر السمن، وهو ضعيف السند، حيث لم يذكر له سند أساساً.

5 ـ خبر أبي العباس المستغفري في طبّ النبي، قال: «الاحتكار في عشرة، والمحتكر ملعون: البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والذرة، والسمن، والعسل، والجبن، والجوز، والزيت» 18.

وهذا الخبر يضيف الذرة والعسل والجبن والجوز، وهو ضعيف السند بالإرسال.

هذه هي الروايات الحاصرة في أنواع بعينها، وليس بينها خبر يفيد إدخال الملح، والذين أضافوه من الفقهاء علّلوا هذه الإضافة بفحوى التعليل الموجود في بعض الأخبار العامة الحاكية عن حاجة الناس وعدم تركهم بلا طعام 19، وقد تبيّن بنظرة تجزيئية أوّلية أنها ضعيفة السند باستثناء الخبر الأوّل، وهو خبر غياث بن إبراهيم، ولست أدري ما وجه توقّف العلامة شمس الدين 20 في شخص غياث بن إبراهيم، ولعلّه لما روي في حديث الطيرمن كذبه بمحضر الخليفة العباسي، لكنّ هذا الخبر غير ثابت، علماً أننا نحتمل أنّ ذلك الشخص يغاير غياث بن إبراهيم الوارد في المصادر الحديثية الشيعية، وغياث بن إبراهيم هنا هوالذي وثقه النجاشي، على أنّ الشيخ شمس الدين نفسه أخذ بخبر آخر لغياث، ووصفه بأنه موثق 21.

ومع ذلك، فقد ذكر بعضهم أنّ هذه الأخبار لا يمكن الأخذ بها وذلك:

أولاً

إنه قد وقع فيها اختلاف في عدد الأشياء التي تقع مورداً للاحتكار وفي نوعها، فهي من حيث العدد تردّدت بين خمسة وستة وعشرة، ومن حيث النوع وجدنا الزيت والسمن يتردّدان، ومع هذا الاضطراب لا ثقة بصدورها، وعلى تقدير صدورها فيفهم منها الحصر غير الحقيقي، بمعنى التركيز على هذه في مقابل بعض الأنواع الأخرى غير المحتاج إليها في ذلك الزمان 22. بل حتى لو أخذنا خبر غياث نفسه سنجد فيه اختلافاً، حيث ذكر الزيت في موضع، ولم يذكر في موضعٍ آخر.

وهذه المناقشة تارةً يلاحظ فيها خصوص المعتبر من الأخبار، وأخرى تلاحظ بأجمعها معاً:

فإن لوحظت بأجمعها، فقد يقال بأنّ أخذها جميعاً يوقع التعارض بينها، ومن الواضح أنّ هذا التعارض هو بالعموم والخصوص مطلقاً؛ لأنّ المعارضة في واقع الحال تقع بين أخبار الخمسة وأخبار الستة والعشرة، ومن الواضح أنّ أخبار الخمسة نسبتها ـ بملاحظة مفهومها ـ إلى العشرة والستة نسبة الأعمّ، فتسقط دلالة المفهوم في الزائد، ويكون القدر الناتج هو العشرة حينئذٍ، فيكون مفهوم أخبار الخمسة مقيّداً بمنطوق أخبار الستة والعشرة، وهذا لا يوجب تضارب الأخبار حينئذٍ حتى يدّعى سقوطها عن الحجيّة نتيجة ذلك. هذا إذا لم يقل شخصٌ بأنّه في هذه الحال نأخذ بأخبار الخمسة كونها القدر المتيقّن ونترك الباقي.

إلا أنّ ذلك يمكن مناقشته بأن العبرة في باب الظهورات والجمع بين النصوص هو العرف العفوي، لا القواعد الأصولية، ففي المرحلة الأولى نرجع إلى ما يحمله العرف من انطباع عن الموقف، فإن لم نظفر بموقف خاص ناتج عن خصوصيات الموضوع وملابساته نرجع حينئذٍ إلى مقتضيات القواعد العامة، وهنا نرى أنّ العرف عندما يواجه مجموعات نصوص حاصرة بهذه الطريقة يحصل له، إما فقدان وثوق بصدورها أو فهمها وفقاً للحصر الإضافي أو ما شابه ذلك، أما أن يكون مراد المتكلّم هو القدر الجامع بين النصوص وتكون البقية غير مراده جداً له أو تقييد بيانه في التحديد في بعضها بمنطوق البعض الآخر، فهذا بعيد بنظر العرف وغير مستأنس به، لاسيما وأنّ الجملة التي دلّت على القاسم المشترك والزائد هي جملة واحدة تقع في بيان موضوع شيء لا في مقام ذكر حكم فحسب، مما يصعّب من إمكانية إجراء قواعد التخصيص والتقييد في المقام.

أما إذا لوحظ خصوص الأخبار المعتبرة، فلا نجد تعارضاً؛ إذ ليس بينها سوى خبر واحد صحيح السند، وأما قضية التردّد الموجود في مصادر هذا الخبر فهذا لا يسقط حجية الخبر في القاسم المشترك؛ لأنه يحتمل حصول سهو ومن ثمّ سقوط الفرد الأخير ـ وهو الزيت ـ من كتب الشيخ الطوسي، والاستبصار أخذه من التهذيب مما يبرّر تكرّر الخطأ مرتين عنده، كما يحتمل أنّ الصدوق زاد الزيت اشتباهاً أو إدراجاً أو خلطاً بين الروايات، وإن كان الاحتمال الأوّل هنا أقوى، بعد أن ناقشنا في محلّه في كبرى أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة، إلى جانب كثرة التصحيفات في كتب الطوسي الحديثيّة. وعلى أية حال، فهذه المناقشة في غير محلّها بشقها الثاني الذي هو الصحيح بعد الضعف الشديد في أسانيد سائر الروايات، بناءً على إمكان الاكتفاء بخبر واحد آحادي.

ثانياً

ما ذكره العلامة شمس الدين أيضاً وغيره، من أنّ الحكم في باب الاحتكار ليس تعبّدياً غيبياً، وإنما هو تشريع امتناني لتنظيم حياة المسلمين وما في صالحهم العام، ومن الواضح أنّ البلدان تختلف في أطعمتها الأساسية، ففي بعضها يكون الأرز وفي بعضها يكون التمر وفي بعضها لا يكونان بل تكون الحنطة وهكذا، ومعه فلا يعقل أن تحرّم الشريعة بعض الأشياء خاصّة حتى لو لم تكن في بلدٍ من البلدان طعاماً أساسياً، فيما تجيز الاحتكار في أشياء أخرى حتى لو كانت في بلدٍ طعاماً أساسياً كالأرز وهكذا.. وبهذا يفهم أنّ الحصر في هذه النصوص حصرٌ إضافي، مؤيداً ذلك بتعدّي بعض الفقهاء إلى مطلق الأطعمة أو بعضها مثل الملح مما لم يرد في هذه النصوص، فإنّ قولهم هذا لا يستقيم إلا مع فهم الحصر الإضافي من هذه النصوص 23.

وهذا الفهم للنصوص بالحصر الإضافي إن قصد منه أنه قد طرح السائل سؤالاً على النبي أو الإمام معدّداً بعض الأمور التي يريد أن يعرف حكم احتكارها فأجابه الإمام بالحصر بحيث كان الحصر مضافاً إلى خصوص أفراد بعينها طرحت في السؤال في طرف السكوت أو كانت مفروضةً في ذهن الطرفين: السائل والمجيب، فإنه يمكن تعقّل ذلك وفقاً لأساسيات المناقشة التي قدّمها شمس الدين، لكنّ النصوص المتقدّمة لا تحتوي في أغلبها حديثاً عن سؤال أو إشارة إلى هذا الأمر، بما في ذلك الخبر الوحيد المعتبر السند.

أما إذا قصد أنّ المعصوم قد أقدم ابتداءً على إفادة الحصر ناظراً إلى سائر أصناف المأكولات والمشروبات التي في المنطقة التي يعيش فيها، فإنّ الأمر يغدو مشكلاً ؛ إذ هذا الحصر لو كان إضافياً بهذا المعنى فهو غير معقول وفقاً للنتيجة التي يريدها العلامة شمس الدين، إذ كيف نفهم كون الزبيب أساسياً في تلك المجتمعات فيما اللبن ومشتقاته واللحوم وما يرتبط بها سواء بعد الذبح أو قبله ـ أي الأنعام ـ ليست كذلك؟ وهل يمكن تصوّر هذا الأمر في مثل عصر الإمام الباقر أو الصادق حيث كانت الحالة الإسلامية متقدّمة على الصعيد المعاشي، وليس كحال العصر النبوي وأمثاله؟ إلا إذا نفي احتمال إمكان الاحتكار في هذه الموارد في تلك العصور.

ولو أردنا أخذ مجموع النصوص المتقدّمة بعين الاعتبار، فكيف يمكن تفسير مثل العسل والجوز حينئذٍ؟ وهل كانت ممّا تقوم عليه حياة الناس في ذلك الوقت؟ لاسيما وأنّ هذا الحديث نبويّ أيضاً.

إنّ لسان هذه النصوص ـ لو لم نفترض وجود نقص فيها من خلال عدم وضوح سياقات الأسئلة الموجّهة ـ يصعب فهمه وفقاً لطريقة تفسير العلامة شمس الدين، إلا على الفرض الأوّل المتقدّم.

وحتى لو أخذنا بالافتراض الذي قدّمه الشيخ شمس الدين في موضعٍ آخر من أنّ وجه الحصر في هذه الأشياء هو اشتهار الحاجة إليها وأنها من أظهر المصاديق، إلى جانب أنّ الحصر إضافي بملاحظة أطعمة الترف كبعض المطعومات البحرية كالكافيار أو بعض أنواع الفاكهة النادرة ونحو ذلك 24.. حتى لو أخذنا بهذا الافتراض تظلّ هناك مشكلة؛ إذ الأنواع التي ذكرناها آنفاً لا تعدّ من أطعمة الترف كما هو واضح، ولو كانت هذه الأفراد هي من أشهر المصاديق فقط وهناك غيرها فما هذه المصادفة أننا لم نجد في أيّ من هذه النصوص ذكر تعقيب «ونحو ذلك» و«وما كان من هذا القبيل» وغير ذلك مما يفيد، علماً أنّ الشروع في بعض هذه النصوص بقوله: إنّ الاحتكار في ستة أشياء أو عشرة تنافي دلالتُها فهمَ الإشارة إلى أبرز المصاديق.

ثالثاً

ما ذكره السيد الخوئي، من أنه لا يمكن العمل بالروايات الحاصرة؛ لضعف أسانيدها جميعاً، فنبقى مع الطوائف السابقة حينئذٍ 25.

ونوقش بأنّ العبرة في حجية الخبر هو الوثوق لا الوثاقة، والوثوق يحصل من مجموع هذه الأخبار، فلا أثر لضعف سند كلّ واحد منها 26.

ويمكن التعليق:

1 ـإنّ هناك رواية صحيحة السند كما تقدّم، فلا يصحّ ما ذكره السيد الخوئي من ضعف أسانيدها جميعاً، ولعلّه لهذا أفتى فيما بعد باختصاص الحرمة بما ورد في رواية غياث بن إبراهيم المعتبرة السند 27، حيث يبدو أنّه عدل عن موقفه من غياث نفسه كما تفيد أبحاثه الرجالية 28.

2 ـإن ادّعاء حصول الوثوق من هذه المجموعة القليلة من النصوص يبدو لي غير واضح، فلم يرد منها في الكتب الأربعة إلا خبر غياث بن إبراهيم، بل لم يرد في الكافي أيّ خبر منها على الإطلاق، ولم يرد نظيرها في كلّ مصادر حديث أهل السنّة، كما أنّ الأخيرين منها لا سند لهما أساساً، وفي الخبر الثاني يوجد رجل متهمٌ صريحاً بالكذب، إضافةً إلى الاختلاف الواقع بينها عدداً ونوعاً كما تقدّم، وقلّة عددها (5 روايات فقط) وعدم تعدّد أسانيدها ولا مصدرها بما يثري الوثوق بها حديثياً، ومخالفتها لظواهر الطائفة السابقة ولو مخالفة أوّلية، ومع هذا كيف يدّعى الاطمئنان بصدورها وحصول الوثوق بذلك، لاسيما وأنّ المدّعي أخذ فرض ضعف جميعها سنداً؟

من هنا، وحيث نبني على حجية الخبر المطمأنّ بصدوره لا يحصل لنا اطمئنان بصدور هذه الأخبار.

رابعاً

ما ذكره بعض المعاصرين من حكم العقل بقبح الاحتكار المفضي إلى الضيق والظلم وأذية الناس، وأحكام العقل لا تقبل التخصيص، بل هي مؤيدة بالنصوص الدينية هنا، ومفهوم هذه الروايات يناقض هذا الحكم العقلي فيطرح هذا المفهوم 29.

إنّ هذا الكلام يتمّ لو أريد من النصوص الاحتكار الشامل لما هو المفضي إلى ذلك، وقد أسلفنا سابقاً أنّ الاحتكار قد أخذ فيه عنصر الحاجة فيكون الدليل الشرعي أيضاً ـ لاسيما مثل خبر الحلبي ـ مساعداً على ذلك، ومعه كيف تكون للناس حاجة ومع ذلك يجوز الاحتكار؟ اللهم إلا إذا لم يصدق عنوان الضرر والأذية والظلم؛ إذ مطلق الحاجة لا يوجب صرف الإنسان ماله للغير ولو بعوض.

هذا كلّه، بصرف النظر عن مدى التصديق بوجود حكم عقلي هنا غير قابل للتخصيص؛ إذ غايته أنه يرى اقتضاء القبح في الاحتكار لا كونه علّةً تامة. وتفصيلُه في المباحث الأصولية.

خامساً

ما ذكره الشيخ المنتظري)، من أنّ الأخبار الحاصرة يمكن حملها على أنّ أبا حنيفة ومالك ـ فقيهَي العراق والحجاز ـ ربما تكون فتواهما القاضية بحرمة احتكار كلّ ما يحتاج إليه الناس، مورداً لعمل الخلفاء وعمّالهم في البلاد الإسلامية في عصر الإمام جعفر الصادق، وكانوا على هذا الأساس يتعرّضون لأموال الناس باسم المنع من الاحتكار، مع عدم كون غير هذه الأشياء الخاصّة محلاً لحاجة الناس الشديدة، فأراد الإمام الصادق ردعهم عن ذلك ببيان أنّ عملهم على خلاف الموازين. كما يبدو أنّ لحن تعبير الروايات الحاصرة يشعر بأنه كان في تلك الأعصار من يصرّ على عموم الحكرة، ولهذا حكي قول النبي وقول الإمام علي لإلزامهم، وهذا ما يصبّ في نهاية المطاف في جعل النصوص الحاصرة نصوصاً خارجية لا حقيقية 30.

ويناقش بأمور

الأول: إنّ المنسوب في وسط أهل السنّة لأبي حنيفة نفسه هو ذهابه إلى الاختصاص بالطعام والقوت لا مطلق ما يحتاجه الناس، نعم المنسوب للأحناف من بعده ـ على مستوى بعضهم مثل أبي يوسف ـ أنهم يقولون بالاحتكار في كلّ ما يحتاجه الناس، فإحراز النسبة المدّعاة في كلام الشيخ المنتظري مشكل، وعصر أبي يوسف وسائر الأحناف كان بعد وفاة الإمام الصادق (148هـ ) الذي توفي قبل الإمام أبي حنيفة (150هـ ).

الثاني: إنّ هذه المحاولة تعاني من خلل في المعطيات التاريخية، فأبو حنيفة لم يكن فقهه سائداً أساساً في زمن الإمام الصادق على مستوى عمل الدولة به، وإنما بدأ يشتهر في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري على يدي تلميذيه: أبي يوسف والشيباني اللذين مدّا جسور التواصل، بل المعروف تاريخياً أنّ أبا حنيفة رفض تولّي القضاء في الدولة العباسية، وكانا يميل ـ سياسياً ـ إلى معارضة الدولة العباسية، كما تعرّض للسجن أيضاً من قبل هذه الدولة، فكيف يتصوّر أن تكون الدولة العباسية في عصره عاملةً بفتواه وكأنّ مذهبه كانت له مكانة ونفوذ في الوسط الحكومي آنذاك؟!

نعم، الإمام مالك كان موضع احترام العباسيين الذين عرضوا عليه جعل كتابه دستوراً للبلاد ولكنه رفض، ومع ذلك ليس هناك مؤشرات على نفوذ فتاويه في حياة الإمام الصادق؛ لأنّ الدولة العباسية في هذه الفترة كانت في بدايات نشوئها، ولم تبلغ مرحلة الاستقرار السياسي الذي يؤهّلها لمثل ذلك.

الثالث: لست أدري إذا كان الإمام الصادق يرى أنّ الاحتكار مورده ما يحتاج إليه الناس، وكان يريد بيان أنّ ما يقدم عليه العمال غير صحيح، فلماذا يختار أسلوب الحصر في أشياء معيّنة بدل أن يبيّن الموقف بشكل واضح؟! ألم يكن بإمكانه أن يبيّن أنّ غير هذه ممّا لا يحتاجه الناس بدل أن يقدّم بياناً موهماً؟! علماً أنّ إثبات كون هذه الأشياء المنصوصة هي مورد حاجة الناس دون غيرها مشكل كما تقدّم.

الرابع: إنّ تعرّض الشيخ المنتظري للنصوص التي تمّ الاستشهاد فيها بقول النبي وعلي، معناه إدخاله النصوص غير الصحيحة السند بعين الاعتبار، وهذا يعني أنّ هناك نصوصاً نبوية وعلوية تستخدم نفس منهج البيان في نصّ الإمام الصادق، إضافة إلى أنّ الإمام الصادق نفسه في بعض الأخبار ـ ومنها خبر غياث بن إبراهيم ـ لا يتكلّم من نفسه، وإنما يقع هو بدوره في السند راوياً عن والده الإمام الباقر (114هـ) الذي توفي قبل ظهور الدولة العباسيّة، وعليه فكيف يفسّر الشيخ المنتظري صدور هذه النصوص أيضاً ما دام تفسيره لصدور نصوص الحصر أنّها كانت مراعاةً لواقع عباسي خاص؟ بل نحن لا نملك بين الأخبار أيّ رواية عن الإمام الصادق نفسه، فكلّها إما عن أبيه أو عمّن قبله بتوسّط نقله تارةً وبدونه أخرى، عدا خبر دعائم الإسلام الذي لا سند له، فكلّ محاولة الشيخ المنتظري لا تبدو واضحة.

سادساً

ما ذكره الشيخ المنتظري أيضاً، من أنّ المناسب للشريعة السهلة السمحة التي تشرّع لتمام العصور أن تطلق القوانين والكليات حتى تصلح للانطباق على كلّ عصر ومصر، فيما يتمّ تفويض الأمور الجزئية إلى الحكّام والولاة، ووفقاً لذلك لا يمكن أن تكون النصوص الحاصرة هنا ذات طابع إلهي، بل هي أحكام ولائية لعصر خاص ومكان خاص، وهذا تماماً كالاحتمال الوارد في الأصناف التسعة الزكوية.

ويشهد لكون ذلك حكماً ولائياً وأنّ التعيين الموردي في الاحتكار هو شأن الحاكم، هو أمر الإمام علي مالك الأشتر بالنهي عن الحكرة ومعاقبة المتخلّفين، وكذا أمر الرسول بإخراج السلع إلى بطون الأسواق كما تقدّم، وعموم الأحكام الولائية زمانياً أمرٌ مقبول ما لم تقم قرينة، وهي موجودة هنا، وهي التأمل في ملاك الحكم ومقارنته بالأشياء الخاصّة الأمر الذي يفهم منه الاختصاص بعصر خاص في النصوص الحاصرة 31، وبهذا يكون تعيين موارد الاحتكار من شؤون الحاكم.

وهذه المحاولة جيّدة على بعض المستويات، لكنّها بهذه الصيغة الإطلاقية لا تبدو مقنعة، وذلك:

أ ـإنّ مفهوم الكلّية والجزئية في طبيعة الحكم مفهوم هلامي غير واضح، ويحتاج إلى تعيين، فكيف صارت المدّة الزمنية للعدّة في الطلاق والوفاة قانوناً كلياً ولم تكن الأصناف الستة هنا كذلك بحيث يقال بأنّه يحرم احتكارها مطلقاً أمّا غيرها فيجوز إلا مع طروّ عنوان ثانوي والذي منه تدخّل الحاكم فيما يراه من مصالح لاسيما بناءً على الولاية العامّة للفقيه؟ وكيف صارت كلّ تفاصيل أحكام الطهارة والديات والقصاص وغيرها قوانين كلّية ثابتة دون غيرها؟ وما هو المعيار في التحديد؟

هذا يعني أنه لابدّ من وضع معيار اجتهادي مبرهن عليه في عملية التمييز هذه، وإلا خرجنا من الضوابط ودخلنا في الاستنسابات.

ب ـ إنّ مجرّد أمر الإمام علي لمالك الأشتر أو أمر الرسول بإخراج السلع لا يعني الولائية، وكأنه تمّ تصوّر أنّ الحاكم بوصفه حاكماً لا يصدر منه تطبيق صرف لحكم إلهي ثابت، وإنما ممارساته لابد وأن تفهم على أنها ولائية، فلو منع رسول الله من بيع الخمر فهل يجعل ذلك حكماً ولائياً في مورد بيعها؟ وهكذا .. وقد أسلفنا الحديث عن العهد العلوي لمالك الأشتر من هذه الزاوية فلا نعيد.

سابعاً

ما ذكره بعض الفقهاء، من أنّ صحيحة الحلبي المتقدّمة: «يكره أن يترك الناس ليس لهم طعام»، قد وردت في سياق الإشارة إلى كبرى أو قاعدة مركوزة ومستكنّة، وفي هذه الحال يمكن جمع هذه الرواية بالخصوص مع النصوص الحاصرة، وذلك بجعل تلك النصوص مشيرةً إلى مصاديق بارزة فقط. بل يمكن القول بأنّ كل ما يكون مقوّماً للطعام أيضاً يفهم من النصوص حرمة احتكاره، وذلك أنّ الزيت والسمت الواردين في النصوص الحاصرة ليسا من الطعام، بل من مقوّماته، فلا يبعد أنّ مثل النفط ومشتقاته والغاز يحرم احتكارها من باب كونها من مقوّمات الطعام أيضاً، بسبب الحاجة إلى النار في تهيئة الطعام 32.

والأخذ بصحيحة الحلبي جيد، ومضمونها يصدق حتى من دون احتكار النصوص، كما لو لم تكن الموارد المنصوصة في النصوص الحاصرة متوفرة أساساً في البلد، فقام التاجر باحتكار طعامٍ آخر فيه، فإنّ مضمون الصحيحة يصدق حينئذٍ. نعم لا يصحّ الاستناد إلى النصوص الحاصرة التي ورد فيها الزيت والسمن لجعل ذلك دليلاً على حرمة احتكار مقوّمات الطعام، مثل ما يلزم لطبخه ونحو ذلك لتسهيل أكله؛ لأنّ المفروض أنّ النصوص الحاصرة لا تبيّن خصوصية الطعام، بل تحصر في أشياء بعينها، نعم بعد تحصيل الجمع بين النصوص الحاصرة وصحيح الحلبي يمكن إضافة هذا الأمر.

إلا أنّ هذا كلّه مرتبط بدلالة صحيح الحلبي على تحريم الاحتكار حتى لبعض الأطعمة دون بعض من غير المنصوصات، ففي هذه الحال لا تصدق الكبرى المشار إليها؛ لفرض أنه لم يترك الناس ليس لهم طعام، كما هو واضح.

وعليه، فالصحيح في مناقشة النصوص الحاصرة أنّ العبرة بحصول الاطمئنان بصدور الخبر كما حقّقناه في الأصول، ولا يحصل لنا اطمئنان بذلك من مجرّد هذه الروايات كما قلنا سابقاً وبينّا سببه، مضافاً إلى تأييد ذلك بجملة هذه المناقشات المتقدمة. وإذا أصرّ شخص على الأخذ بخبر غياث بن إبراهيم كونه الخبر الصحيح السند فيلتزم بحرمة احتكار هذه المنصوصة مطلقاً، أما في غيرها من الأطعمة فيرجع إلى الأدلّة السابقة من حرمة الضرر والظلم وغير ذلك عند تحقّق مفادها في هذا المورد أو ذاك، حتى لو لم يقم الحاكم بإصدار منع فضلاً عما لو أصدره.

وأما غير الطعام، فلا يستفاد من النصوص حرمة احتكاره؛ لأننا رفضنا وجود إطلاق في النصوص التي لا يوجد فيها قيد الطعام، خلافاً لما فهمه مثل الشوكاني 33، ومعه فيلتزم بجواز الاحتكار فيها بملاحظة النصوص، وبحرمة الاحتكار بملاحظة سائر الأدلّة عند تحقّق موضوعها وموردها، بعد فرض استبعاد أنّ نصوص الحصر تفيد جواز الاحتكار في غير المنصوص حتى لو لزم من ذلك الإضرار بالمسلم.

الاحتكار بين الأعيان والأعمال والمنافع

يفهم مما أسلفناه ويظهر من كلمات الفقهاء أنّ الاحتكار حتى لو عمّمنا مورده، يطال الأعيان سواء المنصوصة أم مطلق الطعام أم مطلق الأشياء، ولا يلاحظ في كلمات الفقه الإسلامي وجود حديث عن احتكار المنافع والأعمال والخدمات، مع أنّ ذلك موجود، وقد طرح هذا الموضوع ابن القيم الجوزية ونسب إلى بعض الفقهاء كأبي حنيفة وأصحابه المنع عن اشتراك القسّامين الذي يقسمون العقارات ويفرزونها أن يشتركوا؛ لأنهم إذا اشتركوا رفعوا السعر على الناس مع حاجة الناس إليهم، وكذلك الحال في الحمّالين ومغسّلي الموتى 34.

وفي هذه الحال تارةً يكون مرجعنا هو القواعد مثل نفي الضرر والأذى عن الناس فيلتزم بالتحريم هنا بمقدار تحقّق الموضوع، وإن لم يسمّ احتكاراً، وأخرى يكون المرجع هو النصوص الخاصّة، وهنا نرى أنه من الصعب الأخذ بها؛ لأنه ـ كما قلنا ـ ليس فيها إطلاق لهذه الحال، إلا إذا فهم الملاك منها كما تقدّم، وأنه في كلّ ما يحتاجه الناس فيكون شاملاً.

من هنا، فاحتكار منافع البيوت والمساكن والمحالّ ولو بنحو الاشتراك بين مجموعة التجار والأغنياء، بهدف رفع الإيجار على الناس، وكذا احتكار سائر المنافع والخدمات من قبل العمّال أو سائقي التاكسي أو غير ذلك تطبّق عليه القواعد المذكورة 35 36.

 

  • 1. الكافي في الفقه: 360.
  • 2. انظر: النهاية: 374؛ والسرائر 2: 238؛ والشرائع 2: 21؛ والمختصر النافع: 144؛ ومنتهى المطلب 2 : 1007؛ وتحرير الأحكام الشرعية 2: 254.
  • 3. المكاسب 4: 368.
  • 4. انظر: المقنع: 372؛ ومستند الشيعة 14: 49؛ ورياض المسائل 8: 173؛ والخوئي، منهاج الصالحين 2: 13؛ وتحرير الوسيلة 1: 461.
  • 5. راجع: المبسوط 2: 195؛ والوسيلة: 260؛ وإرشاد الأذهان 1: 356؛ وتذكرة الفقهاء 12: 166؛ وقواعد الأحكام 2: 11؛ ونهاية الإحكام 2: 514.
  • 6. اللمعة الدمشقية: 110؛ والدروس الشرعية 3: 180؛ وجامع المقاصد 4: 40؛ ومسالك الأفهام 3: 192؛ والروضة البهية 3: 299.
  • 7. راجع: الموسوعة الفقهية 2: 92؛ ومصباح الفقاهة 5: 497 ـ 498.
  • 8. راجع: الموسوعة الفقهية 2: 92.
  • 9. راجع: المصدر نفسه؛ وكاشف الغطاء، شرح القواعد 1: 314 ـ 315؛ ومغنية، فقه الإمام جعفر الصادق 3: 144؛ والسبزواري، مهذب الأحكام 16: 34؛ ومحمد حسين كاشف الغطاء، وجيزة الأحكام 2: 20؛ وشمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 140.
  • 10. الصحاح 5: 1974.
  • 11. كتاب العين 2: 25.
  • 12. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 61، الصفحة: 9.
  • 13. القران الكريم: سورة عبس (80)، الآيات: 24 - 31، الصفحة: 585.
  • 14. كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 265؛ والاستبصار 3: 114؛ وتهذيب الأحكام 7: 159، لكن في التهذيب والاستبصار لم يرد ذكر الزيت.
  • 15. قرب الإسناد: 135.
  • 16. الصدوق، الخصال: 329.
  • 17. دعائم الإسلام 2: 35.
  • 18. مستدرك الوسائل 13: 275؛ وبحار الأنوار 59: 292؛ وجامع أحاديث الشيعة 18: 69.
  • 19. انظر: الحدائق 23: 62؛ ورياض المسائل 8: 174؛ ومفتاح الكرامة 12: 355.
  • 20. انظر: الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 101، الهامش: 3.
  • 21. انظر: المصدر نفسه: 183.
  • 22. انظر: المصدر نفسه: 119 ـ 120.
  • 23. المصدر نفسه: 120 ـ 123؛ وعلي الشفيعي، الاحتكار: 52 ـ 53، 54؛ ورسالة في الاحتكار والتسعير: 44 ـ 45، 46.
  • 24. شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 125.
  • 25. مصباح الفقاهة 3: 819.
  • 26. علي الشفيعي، الاحتكار وما يلحقه من الأحكام والآثار: 52.
  • 27. الخوئي، منهاج الصالحين 2: 13.
  • 28. الخوئي، معجم رجال الحديث 14: 250 ـ 253، رقم: 9299.
  • 29. علي الشفيعي، الاحتكار: 54 ـ 55.
  • 30. المنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 46 ـ 47.
  • 31. المصدر نفسه: 47 ـ 48.
  • 32. انظر: مرتضى الحائري، ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة 1: 197؛ والخوئي، مصباح الفقاهة 3: 819 ـ 820؛ والمنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 44؛ والشفيعي، الاحتكار: 60؛ وشمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 127 ـ 128.
  • 33. الشوكاني، نيل الأوطار 5: 337.
  • 34. انظر: المجموع 30؛ التكملة الثانية؛ والطرق الحكمية: 245 ـ 246.
  • 35. مقتبس من بحث "فقه الاحتكار في الشريعة الاسلامية".
  • 36. المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ حيدر حب الله حفظه الله.