الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

مصارف الخمس

من الواضح أن كل مداخيل الدولة الإسلامية من الضرائب والأموال هي من أجل تغذية بيت مال المسلمين وصرفها في الموارد المختلفة للدولة، من بناء البنى التحتية والمشاريع الإنمائية والخدماتية والإنسانية والتعليمية، ومن المصارف أيضاً تقوية القوى الأمنية والعسكرية وحماية حدود الدولة الإسلامية في مواجهة أعداء الخارج أو العملاء من الداخل، وما شابه ذلك.

ولا شك أن هذه المصاريف تحتاج إلى مصادر تمويل مختلفة، ومن أهمها الزكاة والخمس، مضافاً إلى الضرائب التي قد تفرضها الدولة على السلع المستوردة أو المصدرة من أجل تأمين الإحتياجات المادية كافة حتى لا يكون هناك عجز في الموازنة يؤدي إلى التقليل من الخدمات أو نقص في قدرة الدولة على إدارة الأمور مما قد يُوجد أجواء غير مريحة في المجتمع.

ولهذا نجد أن التوجه الأساس في الدولة الإسلامية هو أن الحقوق الشرعية ومنها الخمس كأهم مصدر مالي يجب دفعه إلى ولي أمر المسلمين دون غيره من المراجع والمجتهدين، ولكن بما أنه لم يتيسر للشيعة أن يقيموا دولة الإسلامية في تاريخ الإسلام لأسباب مختلفة وكانوا يعملون بالتقية حفاظاً على دينهم والتزامهم بمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، صارت الناس تدفع الخمس والحقوق الشرعية الأخرى إلى الفقهاء والمراجع بسبب فراغ الموقع القيادي الذي ذكرناه وهو ولي أمر المسلمين باعتبار أن هذه الأمور من الأمور التي يهتم الشارع الإسلامي بها وإهمالها يؤدي إلى تلفها أو ضياعها، ومن هنا جاء مفهوم "الأمور الحسبية" التي تصدى لها الفقهاء زمن الغيبة الكبرى، وقبل قيام الدولة الإسلامية الحديثة في إيران، ويقصدون بـ الأمور الحسبية (أن الفقهاء لهم الولاية على الخمس والنذورات والكفارات والأوقاف وأموال القاصرين والمجانين لأن عدم تصديهم لها سيجعل هذه الأمور في مورد مكلف من خلال تسلُّط الحاكم الظالم عليها).

وقد عمل مراجع الدين بعد أن استنبطوا نظرية الأمور الحسبية في زمن الغيبة بصرف أموال الخمس على كل ما يقوي تمسُّك الناس بمذهبهم الموالي لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) كالإنفاق على الفقراء والمساكين والأيتام والحوزات العلمية والمراكز الدينية، وكل مرجع كان ينطلق في الصرف من خلال مسؤوليته الشرعية التي كان يرى نفسه مكلفاً بها.

وبالحقيقة لقد قامت المرجعية الشيعية في عصور الغيبة على التصرّف بأموال الخمس في الموارد التي ذكرناها بطريقة لعبت دوراً كبيراً في الحفاظ على استقلالية القرار الديني الشيعي بعيداً عن السلطات الحاكمة كائناً من كانت، وهذه الاستقلالية سمحت بها بالقيام بالدور المطلوب على مستوى صرف الحقوق الشرعية في سد عوز الفقراء والمحتاجين، وفي الصرف على الحوزات الدينية التي كانت معاقل الشيعة والتشيع في النجف وقم وأصفهان ومشهد وكربلاء وغيرها من المدن الشيعية التي كانت تضم الحوزات الدينية.

ولا نغالي إذا قلنا بأن الخمس الذي صار أمره إلى المراجع الدينية كان من الأسباب الرئيسة لعدم ذوبان الشيعة وانصهارهم ضمن المحيط الإسلامي الكبير، لأن الخمس كان من العوامل المساعدة على التمسك بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) طبقاً للحديث (لولا الخبز لما عُبدّ الله)، إذ أن الكثيرين قد تدفع بهم الحاجة إلى مجاراة الآخرين وسلوك خطهم عندما يصلون إلى مستوى من الفقر لا يعودون قادرين على استيعاب نتائجه الوضعية، وقد حدث مثل هذا الأمر حتى إلى وقت قريب في مناطق التواجد الشيعي ضمن محيط غير محيطهم بنسبة كبيرة كما حدث في جبل لبنان وفي مناطق البر الشامي وداخله.

وفي عصرنا الحاضر وقبل قيام دولة الإسلام كنا نرى أن مراجع الدين الشيعة كانوا يستلمون الحقوق الشرعية ويصرفونها في الموارد والتي ذكرناها، وزادوا عليها بناء المستشفيات والمستوصفات والمكتبات الدينية والمشاريع الإسكانية لطلبة العلوم الدينية وللمستضعفين من الشيعة غير القادرين على تأمين أمور حياتهم وتدبير شؤونهم بأنفسهم.

لذا نرى أن من الخطأ جداً ومن البعيد جداً عن الواقع المعاش إتهام خط المرجعية الذي قدّم التضحيات الجسام عبر التاريخ الإسلامي بأن يتعامل مع الحقوق الشرعية بطريقة عشوائية كما يردد بعض الجاهلين أو المشككين بحيث يعطون هذا ويمنعون ذاك، فهذا الكلام نتصور أن فيه الكثير من مفرداته هو من الكلام الجاريء والناشئ من جهات تريد ضرب خط المرجعية وتوهين مقامه في الأمة، والتشكيك بقدرة هذا الخط على التعامل مع قضايا الأمة بالدرجة الكافية من الواقعية والمسؤولية، إذ من الواضح ان المرجعية الشيعية التي كان الإمام الخميني المقدس أحد أركانها في زمان قد استطاع إقامة دولة الإسلام في عصر التوجه الغالب نحو المادة وإفرازاتها مع ما في ذلك من التبعية العمياء للغرب وخصوصاً الاستكبار الأمريكي، أو التوجه نحو الكتلة الشرقية وعلى رأسها الإتحاد السوفياتي السابق، وكان الإسلام آنذاك وكأنه تحفة من التحف لا تأثير في حياة المسلمين أفراداً أو شعوباً وجماعات تعيش ضمن بلاد غير إسلامية في العالم.

من هذا العرض كله نقول إن مصارف الخمس التي يقررها مراجع الدين بالتعاون مع الأجهزة المساعدة لهم تؤدي غرضها المطلوب شرعاً فهي تصل إلى مستحقيها من كل أصناف الناس المحتاجة إلى أي نوع من أنواع المساعدات المادية للزواج أو للاستشفاء، أو لأمور المعاش والسكن والتعليم، مضافاً إلى الصرف على المشاريع الدينية كالمساجد والحسينيات والحوزات العلمية الدينية التي يتخرّج منها عشرات الألوف من الطلبة والعلماء الذين يقومون بواجباتهم الدينية في التبليغ والإرشاد وحفظ الدين.

من هنا نحن نربأ بأهلنا الكرام الإصغاء إلى بعض من لا يريدون الخير لخط المرجعية ويريدون تشويه سمعته وصورته في عقول وقلوب المؤمنين، وينبغي عليهم أن يدافعوا عن هذا الخط الشريف الذي دافع عن الشيعة والتشيع في الأزمة الصعبة التي مرت على خط أهل البيت (عليهم السلام) في العصور الماضية.

ولهذا نجد أن الإمام السيد القائد آية الله العظمى الإمام الخامنئي "دام ظله"يفتي ويقول: (يجب دفع الخمس إلى ولي أمر المسلمين ألا أن يكون المرجع الذي يقلده الشيعي يقول بوجوب دفع الخمس إليه).

إن روح هذه الفتوى تدل بوضوح على ثقة القيادة الإسلامية العالمية بخط المرجعية وصلاحيته للتصرف وإدارة الأمور، وهذا وحده كافٍ لزرع الثقة والاطمئنان في نفوس المؤمنين وأتباع خط المرجعية.

والحمد لله رب العالمين1.

  • 1. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد (حفظه الله).