الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

من مزالق التاريخ

تعوّدت أن أتحدث إليكم في أمثال هذه المناسبة الكريمة عن تراث النبوة في هيكل الإمامة ، وعن طبيعة الخلافة الراشدة ، وسمة الخليفة الراشد في نظر البرهان ، ومن نصّ القرآن .
. . أتحدّث بهذا لا لأثبت أن الخلافة بعد علي ( عليه السلام ) لا يستحقّها غير ولده الحسن ( عليه السلام ) ، فهذا شيء لا يفتقر إلى الإثبات ، ومن مؤسفات الحقائق أن يضطر قائله إلى برهان . بل لأحاكم التأريخ في سقطته عام الجماعة ، ماذا لوّن من حقائق ، وماذا من أخطاء .
. . تعودت أن أتحدث إليكم عن هذه المآسي ، فهل تسمحون لي أن أنصرف بكم ـ هذا اليوم ـ إلى طرف آخر من الحديث . . إلى لون طريف من هذه المزالق التي تضعها الأهواء في طريق الآراء .
أود أن أتحدث إليكم ـ أيها السادة ـ عن آيتين كريمتين ، قال سياق القرآن الكرم ، وقال المفسرّون كلهم ـ على تفرّق مذاهبهم ـ ، وقال علماء الحديث . . جميعهم ـ على تنوّع مشاربهم ـ : إن الآيتين إنما ذكرتا أهل البيت ( عليه السلام ) ، خاصّة النبي ( صلى الله عليه و آله ) الزكية ، ولُحمته القريبة ، وتقول الأهواء : إنما عَنتا أناساً آخرين !! .
هاتان الآيتان هما آية التطهير ، وآية القربى . فهل سمعتم بأغرب من هذا ؟ .
آية التطير لم تنزل في شأن أهل التطهير . .
وآية القربى لم تفرض حبّ ذوي القربى . .
هكذا يفكرّ من الناس ، وهكذا يكتبون . . يصرفون الآيتين من قوم إلى قوم ليستطيعوا حملها من معنى إلى معنى .

حول آي التطهير

يقولون آية التطهير نزلت في نساء النبي ( صلى الله عليه و آله ) لأنها وردت في سباق أحكامهن من سورة الأحزاب ! . نعم ، في الدرس الذي يخصّ نساء النبي من هذه السورة ، وفي المورد الذي يقرّر لهن مناهجهنّ في الحياة وواجباتهن في السلوك . . في هذا المجال ـ بعينه ـ وردت آية التطهير ، ولكن . .
أيكون هذا ـ بمجرده ـ برهاناً على الآية الكريمة نزلت في النساء ؟؟
إذن ، فأنني أسلوب القرآن العظيم ؟ ، وأين الذوق العربي الصحيح ، الذي يفرّق بين ضمير الذكور و ضمير الإناث ؟ .
سمعنا القرآن يكلم نساء النبي في سابق هذه الآية و في لاحقها ، فيخاطبهنّ بنون النسوة 1 ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... 2 و يقول بعد آية التطهير : ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا 3 . . و هذه هي خاصّة اللسان العربي القويم ، فما له في آية واحدة من هذا السياق الرتيب ، بل وفي فقرة واحدة من هذه الآية المحكمة يجعل الإناث ذكوراً فيقول :
﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 2 و هو يقصد فريقاً خالصاً من النساء ؟ .
تعالى القرآن ، و تعالى ربّ القرآن عن هبوط يترفّع عنه أقل عارف باللغة ، وتنزّه العقل الحصيف والغايات النبيلة أن تنسب الكتاب العزيز إلى هذه الحطّة السحيقة .
أما التغليب المألوف في اللغة العربية فليس له ههنا وجه مقبول ، فقد عهدنا العربي إنما يغلّب الرجال على النساء إذا خاطب مزيجاً من الفريقين ، أما حين يحدّث جماعة خالصة من النساء فإنه لا يكسوهن حلة الرجولة أبداً .
فالحكم بمنطوق الآية الذي لا مراء فيه ، والحكم لمعناها الذي لم يشكك فيه محقق من علماء التفسير ، والحكم في سبب نزولها الذي لم يرتب في تصحيحه ناقد من علماء الحديث 4 .

و آية القربى

وآية القربى هي الأخرى لم تعن ذرّية الرسول ( صلى الله عليه و آله ) على ما يدّعون .
يقولون هي آية من سورة الشورى ، وسورة الشورى مكيّة نزلت قبل الهجرة ، وقبل ولادة الحسن والحسين ( عليه السلام ) ، فكيف تفرض على الناس حبهما ، وهما ـ يعدُ ـ لم يولدا ؟ .
أسمعتم ؟ . . هكذا يحتجّون .
كأن مفسّري الآية بقرابة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) يقولون : إنها نزلت في نفر مخصوصين ، فلابدّ وأن يكونوا موجودين وقت نزول الآية . فعدم وجودهم حال نزولها يكون دليلاً على كذب هذا التفسير .
ذكرت الآية عنواناً عاماً لفريق من الناس ، وجعلت ودّهم أجراً لرسالة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، فإذا عيّن التفسير الصحيح والحديث المتواتر هذا الفريق 5 ، وطبّعا عليه هذا العنوان ، شمل الحكم الذكور في الآية من وُجِد من هذا الفريق ومن سيوجد ، وأي خفاء في ذلك؟ .
لا خفاء في الدلالة ، و لا خفاء في المدلول ، غير أن الأهواء تحاول أن تنطق بما تريد .
أيها السادة !!
ما أغنى المسلمين المحندييّن عن هذه الأحقاد التي تسدّ الطريق في وجه الباحث ، وتحجب الضوء عن بصر المتتّبع ! .
أجل ما أغنانا بالقرآن العظيم . . ننظره مجردّين إلاّ من نور البصيرة ، متجنّبين إلاّ عن الإنصاف !! .
وما أغنانا بالسنة النبوية . . نعتمد منها ما تواتر ، و تتّبع ما تُيقَّن !! .
وما أغنانا بأقوال الصفوة من العترة الطاهرة ، نجوم أهل الأرض 6 ـ كما يقول الأثر النبوي الكريم ـ ، و قربى الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ـ كما يعرّفهم القرآن العظيم ـ !! . .
وما أغنانا بالبرهان العقلي المستنير ، يستند على هدى الفطرة ، ويستمدّ من روح العلم ، ويقتبس من ضوء العقل!! .
أما التأريخ المجرّد . . أما التاريخ حين يخالف هذه القطعيّات أو يخالف شيئاً منها ، فلا قيمة له عند الأحرار الناقدين .

صلح الإمام الحسن ( عليه السلام )

لست أكتمكم ـ أيها السادة ـ أن التاريخ كتب بأيدٍ غير نزيهة ، وغير حرة أيضاً ، وقد كان التأريخ والحديث في دور أمية وبني العباس أداتين عاملتين للدعاية ، وكان لهما في الناس كتّاب مرتزقون .
والسياسة التي لوّنت تأريخ عليّ ( عليه السلام ) وهو يحارب ، جديرة أن تلوّن تاريخ الحسن بن علي ( عليه السلام ) وهو يسالم طبيعي لهذه السياسة وقد وصلت قدمها إلى الأرض عام الجماعة أن تثبت أناملها بالأرض لتستقرّ ، وأن تمهّد لبقائها كي لا تتزلزل ، فكان من حركتها ومن إملائها هذا التأريخ المضطرب المشوّه .
و إلا فكيف يقول تاريخ صحيح : ( تنازل الحسن ( عليه السلام ) لمعاوية عن الحكم لقاء أحوال معيّنة يقبضها منه في كل عام ) . .
كيف يصحّ هذا في قياس ؟ . و لنفرض الحسن ( عليه السلام ) ـ كما يريدون ـ طامعاً يحبّ كثرة المال ، فهل يتنازل طامع يحبّ المال عن الخلافة الإسلامية الكبرى ، وعن بيوت الأموال ، وخزائن الدوّلة كلها ، لقاء أموال محدودة يدفعها إليه معاوية بن أبي سفيان ؟ .
هذا لا يقبله عقل ، ولا يصدّقه عاقل .
وكيف يقول تاريخ صحيح : كان الحسن بن علي ( عليه السلام ) يخالف أباه في العقيدة ، ويباينه في الهوى ، وكان يشادّه في ذلك إلى حدّ كبير ، وكان علي ( عليه السلام ) يتبرّم بمخالفة ولده إياه إلى أمد بعيد ، حتى أن معاوية في الشام كان يعلم مدى هذا التنازع بين عليّ وولده ، وكان هذا هو السبب في عطفه على الحسن في حوادث الصلح ؟ .
كيف يصحّ هذا في منطق؟ . ولنفرض أن علياً ( عليه السلام ) وولده الحسن ( عليه السلام ) رجلين كسائر الرجال يتقاربان في الرأي ، ويتباعدان فيه . . لتفرض ذلك ، فكيف يعهد علي إلى هذا الذي يخالفه في المبدأ ، وقد كانت له مندوحة واسعة بولده الحسين ( عليه السلام ) ، فقد كان على مبدأ أبيه بإجماع المؤرخين . .
كيف يكتب هذا وذاك تأريخ صحيح ، وكيف يتنزل إليه تفكير نيّر ؟ .
أتعلمون ـ أيها السادة من يكتب هذه السقطات البادية العوار ؟ .
لا أظنكم تصدّقون إذا ذكرت لكم إسمه .
إنه كاتب شهير ، وناقد يقول الناس : إنه حرّ . . إنه معالي الدكتور طه حسين في كتابه ( علي و بنوه 7 ) فهل تعجبون ؟
لقد ذهبت قداسة التاريخ عند هؤلاء الكتاب كل مذهب ، فلا ينتقدون منه حتى التافه ، و لا يهملون حتى الساقط .
لأعد من حيث أتيت ، و لأقف ـ مرة أخرى ـ عند آية التطهير وآية القربى ، ففيهما الردّ الكافي لهذه الأهواء : بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 2 .
﴿ ... قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ 8 . صدق الله العلي العظيم 9 .

  • 1. قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآيات : 28 - 32 ، الصفحة : 421 .
  • 2. a. b. c. القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 33 ، الصفحة : 422 .
  • 3. القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 34 ، الصفحة : 422 .
  • 4. أخرج الترمذي بسنده عن أم سلمة ، أن النبي ( صلى الله عليه و آله ) جلّل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً . فقالت أم سلمة : وأنا معهم يا رسول الله؟ قال : إنك إلى خير واخرج الحديث أيضاً الطبري في تفسيره ج 22 ص 6 ، وابن خبل في مسنده ج 6 ص 306 ، وابن الأثير في أسد الغابة ، وابن حجر العسقلاني في تهذيب ج 2 ص 297 والحبّ الطبري في ذخائر العقبى ص 21 عشرات المصادر الأخرى ويراجع كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 224 ـ 233 . ويقول الرازي بعد نقله لهذه الرواية : وأعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث .
  • 5. ومن الأحاديث التي عينت ذوي القربى في هذا الفريق ما ذكره في حلية الأولياء بسنده عن جابر ، قال : جاء أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه و آله ) فقال : يا محمد اعرض عليّ الإسلام ، فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده و رسوله . قال : تسألني عليه أجراً ؟ قال : لا ، إلا المودة في القربى . قال : قرباي أو قرباك ؟ . قال : قرباي . قال : هايِ أبايعك . فعلى من لا يحبك و من لا يحب قرباك لعنة الله ، قال ( صلى الله عليه و آله ) : آمين . و روى الزمخشري في الكشاف عند تفسيره للآية الكريمة : إن الآية لما نزلت قيل : يا رسول الله ، من قربتك هؤلاء الذين أو جبت علينا مودّتهم ؟ قال : علي و فاطمة و ابناهما ونقل الرواية كذلك الرازي في تفسيره وعقّب قائلاً : فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبي ( صلى الله عليه و آله ) وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم . و روى الحديث كذلك السيوطي في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردوية . ورواه أيضاً في ذخائر العقبى ص 25 عن أحمد بن حنبل في المناقب ، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 103 و ج 9 ص 168 وابن حجر في الصواعق المحرقة ص 101 ، والشبلنجي في نور الأبصار وغيرهم يراجع فضائل الخمسة ج 1 ص 259 ـ 264 .
  • 6. روى في ( ذخائر العقبى ص 17 ) عن إياس بن سلمة عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : النجوم أمان لأهل السماء ، و أهل بيتي أمان لأمتي . و روى أيضاً عن علي ( عليه السلام ) ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت النجوم أهل السماء ، و أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض . و قال : أخرجه احمد في المناقب وعلي بن سلطان في مرقاته ج 5 ص 610 .
  • 7. يراجع كتاب ( الفتنة الكبرى : علي و بنوه ) للدكتور طه حسين ص 193 ـ 202 . ن دار المعارف بمصر سنة 1953 .
  • 8. القران الكريم : سورة الشورى ( 42 ) ، الآية : 23 ، الصفحة : 486 .
  • 9. كتاب : من أشعة القرآن القسم الثالث للشيخ محمد أمين زين الدين : العنوان رقم (28) .