الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

نصوص من خطب النبي في حجة الوداع

النبي يدعو المسلمين لوداعه والحج معه !

في السنة العاشرة من الهجرة أوحى الله الى نبيه صلى الله عليه و آله أن وفاته اقتربت ، وأمره أن يدعو أمته ويحج معهم ويوصيهم بوصاياه : ( ثم أنزل الله عز وجل عليه : ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ 1 ، فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله صلى الله عليه و آله يحج في عامه هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب ، واجتمعوا لحج رسول الله صلى الله عليه و آله . . فخرج رسول الله صلى الله عليه و آله في أربع بقين من ذي القعدة . . .حتى انتهى إلى مكة في سلخ أربع من ذي الحجة . . ) 2 .

ومجموع من شارك في حجة الوداع مئة ألف إلى مئة وعشرين ألفاً ، كما ذكرت الروايات ، وقد خطب فيهم النبي صلى الله عليه و آله ست خطب : خطبة في مكة يوم التروية الثامن ذي الحجة ، وخطبة في عرفات ، وخطبتان في منى يوم العيد وثاني العيد عند جمرة العقبة ، وخطبة في مسجد الخيف يوم النفر . . ثم خطبة الغدير في طريق عودته صلى الله عليه و آله عند غدير خم قرب الجحفة . قال في السيرة الحلبية : 3 / 333 : ( خطب ( ص ) في الحج خمس خطب : الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة والثانية يوم عرفة ، والثالثة يوم النحر بمنى ، والرابعة يوم القر بمنى والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضاً ) . انتهى .
ومع أن المسلمين اهتموا بحجة الوداع ، وأحاطوا بالنبي صلى الله عليه و آله وتعلموا من كلماته وحركاته وسكناته ، ورووا أحاديث كثيرةً عنه ، لكن رواة السلطة القرشية ضيعوا روعة تلك الخطب ! فرووها نتفاً وخلطوا بين مضامينها ! وسبب ذلك أن النبي صلى الله عليه و آله تعمد في وداعه لأمته أن يركز مكانة عترته من بعده عليهم السلام وخصهم بكلام كثير ، فتعمد الرواة إهماله أو إهمال أكثره ، لأنه ليس في مصلحة نظام الخلافة القرشي ، الذي أقامه زعماء القبائل بعد النبي صلى الله عليه و آله .
وقد راجعت نصوص هذه الخطب في أكثر من مائة مصدر ، فوجدتهم رووها نتفاً ، فيها التعارض والتضارب في الزمان والمكان والكلام ، ومؤشرات وأدلة على تدخلات السلطة في نصوصها ، وخوف الرواة منها ! وكل ذنب هذه الأحاديث الشريفة أن النبي صلى الله عليه و آله أمر المسلمين فيها بإطاعة أهل بيته من بعده وحذر قريشاً والصحابة من الإختلاف وشرح لهم قوله تعالى : ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ... 3 . . وأتم عليهم الحجة !
لكن رغم التعتيم القرشي بقي منها في مصادرهم ما فيه بلاغٌ لمن أراد معرفة أوامر نبيه صلى الله عليه و آله . وعندما تَجمع نُتَف الخطب تجدها منظومة كاملة من الأحكام والتوجيهات ، في حقوق الإنسان عامة والإنسان المسلم خاصة ، وفي مستقبل الأمة ومكانة العترة النبوية !
ونورد فيما يلي نماذج للأجزاء التي رووها منها ، ثم فهرساً لأسسها العامة ، والمبادئ التي تضمنتها :
***

من نصوص خطب حجة الوداع

من مصادرنا

قال ابن شعبة الحراني رحمه الله في تحف العقول / 30 : خطبته صلى الله عليه و آله في حجة الوداع : ( الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا . من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على العمل بطاعته ، وأستفتح الله بالذي هو خير .

أما بعد : أيها الناس ! إسمعوا مني ما أبين لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا .
أيها الناس : إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد . فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها . وإن ربا الجاهلية موضوع ، وإن أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب . وإن دماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب . وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية ، والعمد قَوَدٌ ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير ، فمن ازداد فهو من الجاهلية .
أيها الناس : إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه قد رضي بأن يطاع فيما سوى ذلك ، فيما تحتقرون من أعمالكم .
أيها الناس : إنما النسئ زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ، ليواطؤوا عدة ما حرم الله . وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ، منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ، وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بين جمادى وشعبان . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقاً ، ولكم عليهن حقاً ، حقكم عليهن أن لا يوطئن أحداً فرشكم ، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ، وألا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف . أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكتاب الله ، فاتقوا الله في النساء ، واستوصوا بهن خيراً .
أيها الناس : إنما المؤمنون إخوة ، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد ، فلا ترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
أيها الناس : إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، ﴿ ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... 4 . وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : فليبلغ الشاهد الغائب .
أيها الناس : إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا تجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث ، والولد للفراش وللعاهر الحجر .
من ادعى إلى غير أبيه ، ومن تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ، والسلام عليكم ورحمة الله ) .
وفي الكافي : 1 / 403 : ( قال سفيان الثوري ( لصاحبه ) : إذهب بنا إلى جعفر بن محمد ، قال فذهبت معه إليه فوجدناه قد ركب دابته ، فقال له سفيان : يا أبا عبد الله حدثنا بحديث خطبة رسول الله صلى الله عليه و آله في مسجد الخيف . قال : دعني حتى أذهب في حاجتي فإني قد ركبت فإذا جئت حدثتك . فقال : أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه و آله لما حدثتني . قال : فنزل فقال له سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته ، فدعا به ثم قال أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . خطبة رسول الله صلى الله عليه و آله في مسجد الخيف : نضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه .
يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه : ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم . المؤمنون إخوةٌ تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناهم . فكتبه سفيان ثم عرضه عليه ، وركب أبو عبد الله وجئت أنا وسفيان ، فلما كنا في بعض الطريق قال لي : كما أنت ، حتى أنظر في هذا الحديث . قلت له : قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً ، لا يذهب من رقبتك أبداً ! فقال : وأي شئ ذلك ؟ فقلت له : ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، قد عرفناه . والنصيحة لأئمة المسلمين ، من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم ؟ معاوية بن أبي سفيان ، ويزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وكل من لا تجوز الصلاة خلفهم ؟ وقوله : واللزوم لجماعتهم فأي الجماعة ؟ مُرْجِئٌ يقول : من لم يُصلِّ ولم يَصُم ولم يغتسل من جنابة ، وهدم الكعبة ونكح أمه ، فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل ؟!
أو قدريٌّ يقول لا يكون ما شاء الله عز وجل ويكون ما شاء إبليس ؟
أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب ، ويشهد عليه بالكفر ؟
أو جهميٌّ يقول إنما هي معرفة الله وحده ليس الإيمان شئ غيرها ؟! قال : ويحك وأي شئ يقولون ؟! فقلت : يقولون : إن علي بن أبي طالب والله الإمام الذي وجب علينا نصيحته . ولزوم جماعتهم : أهل بيته . قال فأخذ الكتاب فخرقه ثم قال : لا تخبر بها أحداً ! ) .انتهى .
وفي تفسير علي بن إبراهيم : 1 / 171 : ( وحج رسول الله صلى الله عليه و آله حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة ، فكان من قوله بمنى أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس : إسمعوا قولي واعقلوه عني فإني لا أدري ألقاكم بعد عامي هذا . ثم قال : هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة ؟ قال الناس : هذا اليوم . قال : فأي شهر ؟ قال الناس : هذا . قال : وأي بلد أعظم حرمة ؟ قالوا : بلدنا هذا . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، إلى يوم تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم . ألا هل بلغت أيها الناس ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلية ، أو دم أو مال فهو تحت قدميَّ هاتين ، ليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول موضوع منه ربا العباس بن عبد المطلب . ألا وكل دم كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول موضوع دم ربيعة . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد . ثم قال : ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم ، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد !
ألا أيها الناس : إن المسلم أخو المسلم حقاً ، لا يحل لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله إلا ما أعطاه بطيبة نفس منه .
وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله . ألا هل بلغت أيها الناس ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
ثم قال : أيها الناس : إحفظوا قولي تنتفعوا به بعدي وافهموه تنعشوا ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا ، فإن فعلتم ذلك ولتفعلن ! لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف ! ثم التفت عن يمينه فسكت ساعة ، ثم قال : إن شاء الله ، أو علي بن أبي طالب .
ثم قال : ألا وإني قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا ، ومن خالفهما فقد هلك . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وإنه سيرد علي الحوض منكم رجال فيدفعون عني ، فأقول : رب أصحابي ؟ فيقول : يا محمد إنهم أحدثوا بعدك وغيروا سنتك ! أقول : سحقاً سحقاً . فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله : نُعِيَتْ إليَّ نفسي ثم نادى الصلاة جامعة في مسجد الخَيْف ، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : نَضَّرَ اللهُ امرءً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه . ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ولزم جماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم . المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم .
أيها الناس : إني تارك فيكم الثقلين . قالوا : يا رسول الله وما الثقلان ؟ قال : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض كإصبعيَّ هاتين وجمع بين سبابتيه ولا أقول كهاتين وجمع سبابته والوسطى ، فتفضل هذه على هذه ! فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته ! فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً : إن مات محمد أو قتل أن لا يردُّوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً ! فأنزل الله على نبيه في ذلك : ﴿ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ 5 .

ومن مصادر السنيين

في صحيح بخاري : 5 / 126 : عن أبي بكرة عن النبي ( ص ) قال : ( الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى ووشعبان . أي شهر هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس ذا الحجة ؟ قلنا : بلى . قال : فأي بلد هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس البلدة ؟قلنا : بلى . قال : فأي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ! قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلى . قال : فإن دماءكم وأموالكم ، قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم ، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم . ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض . ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ) . وقد روت المصادر ومنها بخاري ( لا ترجعوا بعدي كفاراً ) ورواها بخاري وقليل غيره ( ضلالاً ) !
وروى أجزاء منها بخاري أيضاً في صحيحه : 1 / 24 ، مختصراً ، ومسلم في صحيحه : 4 / 41 ، قال : ( فأجاز رسول الله حتى أتى عرفة . . . فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس . . . وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله ) . لاحظ أنهم حذفوا وصية النبي صلى الله عليه و آله بعترته الطاهرين عليهم السلام !
وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1024 ، ومستدرك الحاكم : 1 / 77 : ( وخطب رسول الله صلى الله عليه و آله فقال : يا أيها الناس إني فرط لكم على الحوض ، وإن سعته ما بين الكوفة إلى الحجر الأسود ، وآنيته كعدد النجوم ، وإني رأيت أناساً من أمتي ( أصله أصحابي ) لما دنوا مني خرج عليهم رجل فمال بهم عني ، ثم أقبلت زمرة أخرى ففعل بهم كذلك فلم يفلت إلا كمثل همل النعم! فقال أبو بكر : لعلي منهم يا نبي الله ؟! قال : لا ) !
وقصد الراوي أن يبعد أبا بكر عن الصحابة المطرودين !
وفي ابن ماجة : 2 / 1016 : عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( ص )وهو على ناقته المخضرمة بعرفات . . . ( ألا وإني مستنقذ أناساً ومستنقَذٌ مني أناس فأقول : يا رب أصيحابي ! فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )! وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1300 : باب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . . استنصت الناس فقال : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . عن ابن عمر أن رسول الله ( ص )قال : ويحكم أو ويلكم لا ترجعوا بعدي كفاراً . . ) . وفي سنن الترمذي : 2 / 62 ، عن أبي أمامة : ( سمعت رسول الله ( ص ) يخطب في حجة الوداع فقال : إتقوا الله ربكم ، وصلُّوا خَمْسَكَم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم . قال : قلت لأبي أمامة : منذ كم سمعت هذا الحديث ؟قال : سمعت وأنا ابن ثلاثين سنة ) .
وفي مسند أحمد : 5 / 412 : ( على ناقة حمراء مخضرمة فقال . . .ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم وإني مكاثرٌ بكم الأمم ، فلا تسوِّدُوا وجهي ! ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني وستسألون عني فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار . ألا وإني مستنقذٌ رجالاً أو أناساً ، ومستنقَذٌ مني آخرون فأقول : يا رب أصحابي . . . ) !
وفي مجمع الزوائد : 3 / 265 : عن الرقاشي قال : ( كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله ( ص ) في وسط أيام التشريق أذود عنه الناس فقال . . . وفيه : ( ألا لاترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . .
وعن ابن عمر : فوقف للناس بالعقبة ، واجتمع له ما شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال . . . أيها الناس : إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله . . .لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه . أيها الناس : إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله فاعملوا به ) . لاحظ أنه لم يذكر أهل بيته صلى الله عليه و آله !
وفي سنن الدارمي : 2 / 47 : ( حتى إذا زاغت يعني الشمس ( يوم عرفة ) أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ، وقال : إن دماء كم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا إن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة . . . فاتقوا الله في النساء ، فإنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله . . . وأنتم مسؤلون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فقال بإصبعه السبابة فرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد ) . انتهى .
أقول : من المؤكد أن مضامين خطبه صلى الله عليه و آله كانت أكثر مما رووه ، لكن الذي يعزي أن ما وصلنا فيه كفاية لمن أراد الدين واليقين . وسيأتي ذكر نصوص أخرى في محلها من البحث .

الأسس الإسلامية الخمسة في خطب الوداع

1 ـ أساس المساواة الإنسانية
وفيه مبدآن :
أ ـ الوحدة الإنسانية بين البشر ، وإلغاء التمايز القومي .
بـ ـ مبدأ حسن معاملة النساء ، وعدم ظلمهن .
2 ـ أساس وحدة الأمة الإسلامية
وفيه أحد عشر مبدأً :
أ ـ مبدأ إلغاء آثار الجاهلية ومآثرها وتشريعاتها المخالفة للإسلام .
ب ـ مبدأ الأخوة والتكافؤ بين المسلمين .
ج ـ احترام الملكية الشخصية ، وتحريم أموال المسلمين على بعضهم .
د ـ مبدأ احترام حياة المسلم ، وتحريم دماء المسلمين على بعضهم .
هـ ـ احترام عرض المسلم وكرامته ، وتحريم أعراضهم على بعضهم .
ز ـ مبدأ : من قال لاإله إلا الله ، فقد عصم ماله ودمه .
حـ ـ مبدأ ختام النبوة به صلى الله عليه و آله ، وختام الأمم بأمته صلى الله عليه و آله .
ط ـ شهادته صلى الله عليه و آله على الأمة في الآخرة ، وموافاتها له على الحوض .
ي ـ الحذر من محقرات الأعمال ، التي تجر إلى انحراف الأمة .
ك ـ التحذير من الكذب على النبي صلى الله عليه و آله ، والتحقق فيما ينقل عنه .
3 ـ أساس وحدة الشريعة ووحدة ثقافة المسلمين
وفيه أربعة مبادئ :
أ ـ أداء الأمانة .
ب ـ قوانين الإرث .
ج ـ قوانين الديات والقصاص .
د ـ تشريعات مناسك الحج ( خذوا عني مناسككم ) .
4 ـ مبادئ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي صلى الله عليه و آله
وفيه ستة مبادئ :
أ ـ البشارة بالأئمة الإثني عشر من عترته .
ب ـ مبدأ التأكيد على الثقلين القرآن والعترة .
ج ـ مبدأ أن علياً عليه السلام ولي الأمة بعده والإمام الأول من الإثني عشر .
د ـ مبدأ أداء الفرائض ، وإطاعة ولاة الأمر .
هـ ـ مبدأ تخليد تعاهد قريش وكنانة على حصار بني هاشم .
و ـ مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده صلى الله عليه و آله .
ز ـ مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد بعده والصراع على السلطة .
5 ـ أساس عقوبة المخالفين للخط النبوي
وفيه مبدأ :
أ ـ لعن من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه . . . .
***

ملاحظات على بعض هذه الأسس النبوية

1 ـ حقوق الإنسان وشريعة الغاب القبلية

يمثل هذا الجانب من خطب النبي صلى الله عليه و آله حلاً لمشكلة شريعة الغاب الجاهلية التي كان يعيشها المجتمع العالمي والعربي في عصره صلى الله عليه و آله الذي يقوم على التمييز الحاد القومي والقبلي والطبقي ، ويحكمه ( قانون الغلبة والقوة ) ، فجاءت تشريعات الإسلام الحضارية لتلغي ذلك وتعلن احترام الإنسان وحقوقه ، وتساوي بين الناس أمام الشرع وتحرِّم أنواع الإعتداء على النفس والملكية والكرامة .

وقد طبق النبي صلى الله عليه و آله ذلك وأسس احترام الإنسان وحرياته ، وكان عمله خطوة تأسيسية في تعويد المجتمع على احترام حقوق الإنسان .
لكنا نلاحظ غياب هذه القيم والقوانين بمجرد أن أغمض النبي صلى الله عليه و آله عينيه ، فقد استعمل أبو بكر وعمر وحزبهم الذي ضم الطلقاء ، قانون الغلبة والقهر في السقيفة ضد الأنصار ، وهموا بقتل سعد بن عبادة ، وبذلك غابت حقوق الإنسان عن نظام الحكم !
ثم استعملوه ضد بني هاشم ومن معهم من المهاجرين والأنصار الذين امتنعوا عن البيعة ، فهاجموهم في بيت علي وفاطمة ، مع أنهم كانوا في عزاء بوفاة النبي صلى الله عليه و آله ، وكانت جنازته مسجاة لم تدفن بعد ، وهددوهم بإحراق البيت عليهم إن لم يبايعوا ! ولما تأخروا عن الخروج جمعوا الحطب على باب الدار وأحرقوه !
بينما تمسَّك عليٌّ وأهل البيت عليهم السلام بتطبيق هذه القيَم والتشريعات فكان علي عليه السلام الحاكم الوحيد بعد النبي صلى الله عليه و آله الذي احترم حرية الإنسان المسلم فلم يجبر أحداً على بيعته ، ومنع المسلمين من إجبار أي ممتنع ، ولا استعمل قانون الأحكام العرفية ، ولا أي قانون استثنائي ، حتى في حروبه الثلاثة التي استوعبت مدة خلافته كلها !
كما لم يجبر أحداً على الحرب معه ، فكان كل من قاتل معه متطوعاً بقناعته وإرادته .
كما أعطى الحرية لمعارضيه والخوارج عليه ، أن يتكلموا ويتحزبوا ويحملوا السلاح ، ولم يقطع رواتبهم وحقوقهم من بيت المال وغيره ولم يواجههم ، ما لم يشهروا السلاح على المجتمع ، أو الدولة !
***

2 ـ من قال : لا إله إلا الله فقد عصم ماله ودمه

فقد جاء في رواية تفسير القمي لخطبة الوداع : ( وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) .
ومعناه : أن من أعلن الشهادتين من أي دين أو قبيلة فهو مسلم يحرم ماله وعرضه ودمه ، إلا إذا انطبقت عليه مواد الفئة الباغية ، أو المفسد في الأرض ، أو قتل أحداً عمداً ، أو ارتد عن الإسلام ، أو زنى وهو محصن . أما أهل الكتاب فدماؤهم وأموالهم وحرياتهم محترمة أيضاً ، كما نصت عليه أحكام التعايش الشرعية الخاصة بهم .

3 ـ تحذيره قريشاً أن تطغى بعده

تقدم قول النبي صلى الله عليه و آله : ( يا معشر قريش لا تجيؤوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجئ الناس بالآخرة فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ) .
وسبب تحذيره لقريش دون غيرها ، أن قريشاً قائدة العرب والقبائل تَبَعٌ لها ، فالخطر الذي يخشاه على أهل بيته إنما هو من قريش وحدها ! والتحريف الذي يخشاه على الإسلام ، والظلم الذي يخشاه على المسلمين ، إنما هو من قريش وحدها !
وهذا نفس تحذيره صلى الله عليه و آله للصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة ، الذي روته مصادر الجميع كقوله صلى الله عليه و آله : ( ويحكم أو ويلكم لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) 6 . ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا ، فإن فعلتم ذلك وَلَتَفْعَلُنَّ ) 7 ! فقد أخبرهم صلى الله عليه و آله أنهم سيفعلون ، واستعمل كل بلاغته وعاطفته صلى الله عليه و آله وموجبات الخوف والحذر ، ليقيم الحجة عليهم لربه عز وجل ، حتى إذا وافوه يوم القيامة لا يقولوا : لماذا لم تحذرنا ؟!
والذين يحذرهم من الإقتتال ليسوا إلا الصحابة فقط لا غير ، لا غير ! لا اليهود ولا الروم ولا القبائل العربية ، ولا زعماء قريش بدون شركائهم من الصحابة ! ذلك أن الدولة الإسلامية كانت قائمة ، مسيطرة على كل الجزيرة ، والخوف من الإقتتال بعد النبي صلى الله عليه و آله ليس من القبائل التي خضعت للإسلام طوعاً أو كرهاً ، مهما كانت كبيرة وموحدة مثل هوازن وغطفان . . فهي لا تطمح إلى قيادة هذه الدولة ، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة !
واليهود انكسروا وأجلى النبي صلى الله عليه و آله قسماً منهم من الجزيرة ، ولم تبق لهم قوة عسكرية تذكر ، ومكائدهم وخططهم مهما كانت قوية وخبيثة ، فلا حظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة !
وزعماء قريش ، مع أنهم يملكون جمهور قبائل قريش نحو ثلاثة آلاف مقاتل ، لكنهم لا يستطيعون أن يدَّعوا حقاً في قيادة الدولة بعد النبي صلى الله عليه و آله لأنهم أعداؤه وطلقاؤه ، فلا طريق لهم الى قيادة الدولة إلا بالصحابة القرشيي ! وبذلك تعرف أن تحذيره صلى الله عليه و آله من الصراع بعده ينحصر بهؤلاء الصحابة المهاجرين ، ثم بالأنصار فقط!
لكنك تقرأ في مصادر حديثهم عشرات الأحاديث في مدح قريش وأن تكون القيادة فيهم ! ولا ترى من أحاديث تحذيرهم إلا ما أفلت من الرواة ، وتجد بدل ذلك كذبهم وتأكيدهم على تحذير النبي صلى الله عليه و آله لبني هاشم بأنه لا يغني عنهم من الله شيئاً ! 8 وتحذيره لفاطمة عليها السلام بأنها لو سرقت لقطع يدها ! 9 .
وبهذا نفهم تحذير النبي صلى الله عليه و آله المباشر لهم الذي لا ينقصه إلا الأسماء والذي قدمه النبي صلى الله عليه و آله على شكل لوحة من الغيب عن المصير الذي يمشي إليها هؤلاء الأصحاب المنحرفون المحرفون ! يوم يكون النبي صلى الله عليه و آله رئيس المحشر ويعطيه ربه الشفاعة وحوض الكوثر ، فيفد عليه الوافدون من الأمم فيشفع لهم ويعطيهم بطاقة للشرب من حوض الكوثر ، لتصلح أجسادهم لدخول الجنة والخلود في نعيمها ، وعندما يفد عليه جمهرة أصحابه تحدث المفاجأة ! فيأتي النداء الإلهي بمنعه من الشفاعة ، ومنعهم من ورود الحوض ، ويؤمر بهم إلى جهنم !! إنها صورة رهيبة جاء بها جبرئيل الأمين عليه السلام ليبلغها النبي صلى الله عليه و آله إلى الأمة في حجة الوداع ! وهي أعظم كارثة على صحابة أعظم رسول صلى الله عليه و آله ، لأنهم سيوقعون أعظم كارثة في أمته من بعده !
ولا ينجو من هؤلاء الصحابة إلا مثل ( هَمَل النَّعم ) كما في رواية البخاري ، وهو تعبير نبوي عجيب ، لأن همل النعم هي الغنم أو الإبل المنفردة عن القطيع ! ومعناه أن قطيع الصحابة في النار ، ولا يفلت منه إلا من يفلت منهم ! بل ذكر النبي صلى الله عليه و آله أن الصحابة الجهنميين زمرتان ، فهم خطان من صحابته لا خط واحد : ( ثم أقبلت زمرة أخرى ، ففعل بهم كذلك ، فلم يفلت إلا كمثل همل النعم ) .
إنها مسألةٌ مذهلةٌ ، صعبة التصور والتصديق ، خاصة على المسلم السني المسكين الذي تربي على حب كل الصحابة ، وخير القرون ، والجيل الفريد ، وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . . ونشأ من صغره على الصور واللوحات الرائعة للصحابة ، فإذا به يفاجأ بهذه الصورة المخيفة عنهم !
لو كان المتكلم عن الصحابة غير الرسول صلى الله عليه و آله لقالوا عنه إنه عدو للإسلام ولرسوله صلى الله عليه و آله يريد أن يكيد للإسلام عن طريق الطعن في صحابة الرسول صلى الله عليه و آله ! ولكنه الرسول صلى الله عليه و آله نفسه ، وكلامه وحيٌ من رب العالمين وليس اجتهاداً منه ولا رأياً رآه ، حتى تقول قريش إنه بشر يغضب ويتكلم وكلامه في الغضب ليس وحياً !
إنها حقيقةٌ مُرَّة ، لكن هل يجب أن تكون الحقيقة دائماً حلوة كما نشتهي ، وأن يكون الحق دائماً مفصلاً على مزاجنا وموروثاتنا ؟!
وتسأل هنا : وماذا فعل الصحابة بعد الرسول ؟ هل ارتدوا وتصارعوا سياسياً واجتماعياً على السلطة والحكم وتقاتلوا ؟!
وجوابهم لك : أسكت عما جرى بين الصحابة ، ولا تكن رافضياً !
وتسأل : لماذا اختار الله تعالى هذا الأسلوب في التحذير ، ولم يهلك أولئك الصحابة الذين سينحرفون ، أو يأمر رسوله صلى الله عليه و آله بقتلهم أو يكشفهم للمسلمين ليحذروهم !
والجواب : هذه سياسته سبحانه وتعالى وقوانينه في إقامة الحجة على عباده وأن يترك لهم الحرية : ﴿ ... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ... 10 . و : ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ 11 .
فهو سبحانه يفضل هذا الوضع على إعلانهم الإرتداد !
وتسأل : ماذا كان وقع الخبر النبوي على الصحابة والمسلمين ؟!
ألم يهرعوا إلى الرسول صلى الله عليه و آله ليحدد لهم الطريق أكثر ، ويعين لهم من يتبعونه بعده ، حتى لا يضلهم هؤلاء الصحابة الخطرون ؟!
والجواب : لقد عيَّنَ لهم الثقليْن من بعده : كتابَ الله وعترته ، وبشرهم باثني عشر إماماً ربانياً عليهم السلام وحدد عترته وأهل بيته مراراً قبل حجة الوداع وبعدها بأسمائهم : علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، وأدار عليهم كساء يمانياً ! فهم مصطلح وليسوا بالمعنى اللغوي!
ولم يكتف بذلك حتى أوقف المسلمين في رمضاء الجحفة ، وأخذ بيد علي عليه السلام وأعلن إمامته بعده ، وجعل له ما جعل الله له من ولاية على الأمة ، ونصب له خيمة وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين ويباركوا له ولايته عليهم ، فهنؤوه وباركوا له وبخبخوا له ، وأمر نساءه أن يهنئنه ، فجئن إلى باب خيمته وهنأنه وباركن له !
ثم أراد صلى الله عليه و آله في مرض وفاته أن يؤكد الحجة بوثيقة مكتوبة فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً . . ولكنهم رفضوا ذلك بشدة ! وقالوا له : شكراً أيها الرسول لا نريد أن تكتب لنا أطيعوا بعدي علياً ، ثم أولاد فاطمة حسناً ، ثم حسيناً ، ثم تسعة من ذرية الحسين ! وصاحوا : لا تقربوا له دواة ولا قرطاساً !!
فماذا تريد من نبيك صلى الله عليه و آله أكثر من هذا ؟!
***

4 ـ عقوبة المخالفين لوصية النبي بأهل بيته

من عجائب ما في خطب حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه و آله بعد حديثه عن أهل بيته عليهم السلام أعلن مبدأ : ( لعن من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ) ! ففي مسند أحمد : 4 / 186 : ( خطبنا رسول الله ( ص ) وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرة من كاهل ناقته فقال : ولا ما يساوي هذه أو ما يزن هذه . لعن الله من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه ) .
وفي سنن ابن ماجة : 2 / 905 : ( خطبهم وهو على راحلته وإن راحلته لتقصع بجرتها ، وإن لغامها ليسيل بين كتفي ، قال : ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ ) . وفي الترمذي : 3 / 293 : عن أبي أمامة قال : ( سمعت رسول الله ( ص ) يقول في خطبته عام حجة الوداع : . . ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة ) . وفي مسند أحمد : 4 / 239 و 4 / 187 : ( ألا ومن ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) 12 .
ولعلك تسأل : ما علاقة هذه اللعنة المشددة بوصية النبي صلى الله عليه و آله بأهل بيته ؟! فهي لعنة على الذي ينكر نسبه من أبيه وينسب نفسه إلى شخص آخر ، وعلى العبد الذي ينكر مالكه ويدعي أنه عبد لشخص آخر ، أو ينكر ولاءه وسيده الذي أعتقه ويدعي أن ولاءه لشخص آخر ! فهذا هو المفهوم من ( ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه ) !
والجواب : أن مقصود النبي صلى الله عليه و آله بالأبوة في هذه الأحاديث : أبوته المعنوية للأمة . وبالولاء : ولايته وولاية أهل بيته صلى الله عليه و آله عليها ، وليس مراده الأبوة النسبية ، ولا ولاء المالك لعبده !
والدليل عليه : أن حكم الشريعة في الولد الذي يهرب من أبيه ، ويدعي لنفسه والداً آخر ، أنه مسلم عاص وله توبة ، وقد يكون من أهل الجنة ! بينما الشخص الملعون في كلام النبي صلى الله عليه و آله محكوم بكفره مصبوب عليه الغضب الإلهي إلى الأبد ! ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) ! والصرف التوبة والعدل الفدية ، وهي عقوبة لحالات الخيانة العظمى كالإرتداد ، ولا يعقل أن تكون عقوبة ولدٍ جاهل يدعو نفسه لغير أبيه ، أو عبد مملوك أو مظلوم يدعو نفسه لغير سيده ! وقد صرحت بعض رواياتها بكفر من يفعل ذلك وخروجه من الإسلام ! كسنن البيهقي : 8 / 26 ، ومجمع الزوائد : 1 / 9 ، وكنز العمال : 5 / 872 و : 10 / 324 و / 326 و / 327 .
لقد استعمل النبي صلى الله عليه و آله هذا الأسلوب الكنائي البليغ متعمداً ، لكي تنقله الأجيال ولا تطمسه قريش ! وروت مصادرهم أنه كتبه في صحيفة صغيرة معلقة في ذؤابة سيفه صلى الله عليه و آله الذي ورثه لعلي عليه السلام فرواه بخاري في صحيحه : 4 / 67 ، ومسلم : 4 / 115 ، بروايات والترمذي : 3 / 297 ، وغيرهم أيضاً ، ورووا فيه لعن من تولى غير مواليه !
وفسرته مصادر أهل البيت عليهم السلام ، وروت أن النبي صلى الله عليه و آله استعمله في عدة مناسبات ، منها عندما كثر طلقاء قريش في المدينة ، وتصاعد عملهم ضد أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله وقالوا : ( إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا ) أي في مزبلة ! فبلغ ذلك النبي فغضب وأمر علياً أن يصعد المنبر ويجيبهم وقال له : ( يا علي إنطلق حتى تأتي مسجدي ثم تصعد منبري ثم تدعو الناس إليك ، فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاة كثيرة ، ثم تقول : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم : إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره !
فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصليت على رسول الله صلى الله عليه و آله صلاة كثيرة ثم قلت : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم : ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي ، على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره . قال : فلم يتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب فإنه قال : قد أبلغت يا أبا الحسن ولكنك جئت بكلام غير مفسر ، فقلت : أُبْلِغُ ذلك رسول الله صلى الله عليه و آله فرجعت إلى النبي صلى الله عليه و آله فأخبرته الخبر فقال : إرجع إلى مسجدي حتى تصعد منبري فاحمد الله وأثن عليه وصل عليَّ ثم قل : أيها الناس ، ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره ، ألا وإني أنا أبوكم ، ألا وإني أنا مولاكم ، ألا وإني أنا أجيركم ) 13 14 .

لمزيد من المعلومات يمكنكم مراجعة الروابط التالية:

  • 1. القران الكريم : سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 27 ، الصفحة : 335 .
  • 2. الكافي : 4 / 245 .
  • 3. القران الكريم : سورة الشورى ( 42 ) ، الآية : 14 ، الصفحة : 484 .
  • 4. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 517 .
  • 5. القران الكريم : سورة الزخرف ( 43 ) ، الآية : 79 و 80 ، الصفحة : 495 .
  • 6. ابن ماجة : 2 / 1300 .
  • 7. تفسير القمي : 1 / 1717 .
  • 8. صحيح بخاري : 6 / 17 .
  • 9. صحيح بخاري : 4 / 151 و 5 / 97 و 8 / 16 .
  • 10. القران الكريم : سورة الأنفال ( 8 ) ، الآية : 42 ، الصفحة : 182 .
  • 11. القران الكريم : سورة الأنبياء ( 21 ) ، الآية : 23 ، الصفحة : 323 .
  • 12. ورواه بعدة روايات في نفس الصفحة والتي قبلها ، و في ص 238 و 186 . ورواه الدارمي في سننه : 2 / 244 و 344 ومجمع الزوائد : 5 / 14 ، عن أبي مسعود ، ورواه البخاري في صحيحه : 2 / 221 ، و 4 / 67 .
  • 13. بحار الأنوار : 38 / 204 ، وتفسير فرات / 392 ، وغيرهما .
  • 14. بشارة النبي صلى الله عليه و آله بالأئمة الإثني عشر ، علي الكوراني العاملي ، الناشر : دار الهدى ـ قم ، الطبعة الأولى ، سنة 1427 هجرية ـ 2006 ميلادية ، ص 56 ـ 25 .